الرئيس الأسود "أفضل الكتب مبيعاً وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز" هذه العبارة كتبت في الصفحة الأولى من كتاب"أحلام من أبي – قصة عِرْق وإرث" للرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وربما كتبت العبارة السابقة بتأثير الهالة التي تحيط به كرئيس قبل أن يكون كاتباً بارعاً يقع الكتاب في 505 صفحات من القطع الكبيرA4 بترجمة هبة مغربي وإيمان نجم، واللافت للنظر أن الكتاب بحجمه الكبير كحجم الدولة التي يقودها أوباما آنذاك وهي الولايات المتحدة الأمريكية قد اشترك في كتابته فضلا عن المؤلف صاحب القصة الحقيقية هناك أكثر من محرر عرج الرئيس على شكرهم في مقدمة الكتاب، وأكثر من مترجم واحد ومراج ع.وتم تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أبواب قسمت بدورها إلى تسعة عشر فصلا متتالية يعتمد فيها أوباما أثناء تصوير مشاهداته على طريقة الخطف خلفاً كما يسميها الروائيون والسيناريست في كتاباتهم، فجاء الكتاب أشبه بفيلم أمريكي يروي حياة أوشكت على الانتهاء على لسان طفل صغير.
وأوباما اسم جده لأبيه وهو كيني الأصل وقد اعتنق الإسلام بعد قلق ساوره إزاء تعاليم المسيحية الجافة.. في الفصل الأول (الجذور) يصف أوباما حياته في نيويورك وهو في الحادية والعشرين من العمر في شقة متواضعة كانت لجدّيه لأمه في هاواي ثم يبدأ بسحب خيط الذكريات رويدا رويدا حتى يصبح باهتا فيوشك أن ينقطع فيتابع سحبه وفتله معا.. جاءه صوت عمته جين من نيروبي بأن والده قضى في حادث سيارة ثم انقطعت المكالمة، هذا ما عرفه عن أبيه لتكتمل الصورة التي اختزنها عنه في ذاكرته بالصورة المحفوظة في خزانة ثيابه أو مكتبته، وأمه وجده حين يصورون له كيف لون بشرة أبيه وكيف كان صارما حاد المزاج مثقفا غريبا ذا نفوذ وإصرار قادم من مجاهل إفريقيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية بمنحة دراسة من جامعة نيروبي ليكمل دراسته في هاواي، وهنا تبدأ قصة الحب الذي تتوج بالزواج ورفض جديه في بادئ الأمر مع إصرار أمه المستميت ليتم الزواج بطريقة غير مرضي عنها من جده أوباما الإفريقي.. يصف زيارة أبيه لهم كأنه حلم، وزيارته لمدرسته كأنه كابوس فظيع ثم تتلاشى الخيوط قليلا كدوائر دخان رمادية اللون.. تنفصل أمه آي عن أبيه بسبب أن الأب قد حصل على منحة في جامعة هارفرد ولكن الجامعة لم تتكفل بمصاريف إقامته وزوجته الأمريكية فتحول الظروف دون استمرار الزيجة، ويأتي باري وهذا هو اسمه الأصلي أما أوباما فهو جده لأبيه..ويقدر باري لأمه حفظ العهود والمواثيق تجاه والده على الرغم من الانفصال بين الشرق والغرب بين إفريقيا والولايات المتحدة، ويصف الحياة في بيت جده الذي كان يعمل في شركة تأمين وجدته الموظفة في بنك محلي، وكيف كان يذهب بصحبة جده إلى المواخير وحانات الشراب حيث القوادون وبنات الليل وزجاجات الجعة.. وفي الفصل الثاني من الكتاب تمضي الأيام ويعترض طريق أمه في الجامعة رجل إندونيسي يدعى لولو فيتقدم للزواج منها فيتم الزواج بطريقة أو بأخرى ليسافر أول ما عرف السفر إلى جاكرتا حيث الحياة بدائية وبسيطة ويصف بدقة متناهية كل ما مر معه والغريب أنه ما زال يتذكر كل هذا الحشد من الأوصاف والكلمات ووجوه الرجال وملابس النساء وبعض المشاهد اليومية التي تحصل في الشارع، لولو رجل مهزوم من الداخل ومفلس وقد ظهرت بعض المشاهد التي أوحت لباري بذلك وكان حينها في الثانية عشرة من عمره حيث انخرط في مدارس إسلامية لم يتأقلم معها كثيرا بينما عملت أمه في السفارة الأمريكية مدرسة للغة الإنجليزية وفرضت عليه تعلم الإنجليزية ولو بالمراسلة حتى أنها كانت توقظه في الرابعة صباحا وهو في عز نومه ليذاكر دروسه، يصف إندونيسيا بالتخلف والبساطة اللامتناهية وكيف يديرها العسكر بالرشاوى والمحسوبيات بالإضافة إلى هيمنة التجار ورجال الأعمال الأمريكيين حتى بات لولو في وضع لا يحسد عليه، مكث وأمه هناك ثلاث سنوات انتهت بفشل تلك العلاقة التي أسفرت عن مولد أخته مايا عاد ليدرس في هاواي مرة أخرى وبصحبة جده وجدته من جديد، بينما أمه استمرت في العمل هناك منخرطة في التحضير لنيل درجة الماجستير. بينما لولو فقد مات بمرض الكبد في الخمسين من العمر، ويصف في الفصل الثالث رحلته إلى هاواي مجددا والمرحلة الدراسية الإعدادية والثانوية من عمره كيف قضاها بالتعرف على زملاء جدد وكيف شغل قسما من وقته مع رفقاء سوء يدخن الماريجوانا ويحتسي الخمر بانفلات أخلاقي أثر على سير دروسه في المدرسة، قبيل الجامعة انخرط في العمل السياسي فعمل في تنظيم المجتمع المدني في عدة ولايات وكان لحياة السود في العشوائيات وقلة خدماتهم والتمييز العنصري الذي يواجهونه من الأمريكي الأبيض أثر كبير في نفس أوباما حاول مع فريق عمل تخليص الناس من عقد الكراهية والعنصرية القائمة في صدورهم تجاه بعضهم البعض، نظم المؤتمرات والمحاضرات والندوات والتقى بكثير من القساوسة والأساقف في الكنائس وزار المدارس والتقى المديرين وحاول جاهدا مع فريق العمل الخاص به تغيير حياة السود للأفضل، ناضل بقوة لإزالة ترسبات الكراهية في نفوس السود تجاه أسيادهم البيض وقاوم في نيويورك وألتجيلد وشيكاغو والجاردنز متأثرا بأفكار الزعيم الإفريقي مارتن لوثر كنج التي تدعو إلى نبذ التعصب والعنصرية ضد السود، وقد كان كنج رئيسا للولايات المتحدة فقضى اغتيالا في 04 أبريل 1968، وكان ممن حاز على جائزة نوبل للسلام، زارته أخته أوما التي كانت طالبة جامعية في ألمانيا فحدثته عن تفاصيل حياة أبيه التي كان يجهلها تماما، ووعدها أن يلتقيا في مسقط رأس أبيهما في كينيا، وبالفعل قام بزيارة دول أوروبية لمدة ثلاثة أسابيع شرب فيها الشاي على ضفاف نهر التايمز في بريطانيا، وشاهد الأطفال وهم يطاردون بعضهم بعضا في حدائق لكسمبورغ في فرنسا، ومر بساحة بلازا مايور في إسبانيا واستمتع بمنظر حلول الظلام على تل بالاتين في إيطاليا ثم توجه بعدها إلى القارة السمراء ليجد حشدا من أهله وذويه عشرات العمات والأخوات فقد كان ابنا لأب مزواج تزوج سيدة إفريقية فأنجب منها طفلين ثم تزوج طالبة جامعة أمريكية بيضاء تدعى آي وهي أم باري وعاد بعد انفصالهما إلى كينيا فتزوج سيدة أمريكية بيضاء تدعى روث وأنجب منها طفلين أيضاً، حتى تزوج بامرأة أخرى وله أصغر أبنائه واسمه جورج كان يدرس في مدرسة داخلية لم يستطع باري الاقتراب منه أكثر من دقائق أثناء فسحته لأن والدته بعيدة عن أسرة أوباما كلها، هذا الأب اللاهي السكير تنقل بين أرقى الوظائف وحشد عددا من الزوجات والأبناء في منزل واحد وكان له نفوذ سياسي مكنه من تبوأ أعلى المناصب في وزارات الدولة ثم ما لبث أن انتكس وظيفيا حتى لم يجد ما يسد به رمقه، ثم تحسنت حاله فيما بعد إلى أن قضى بحادث سيارة، وقد أوغل باري في هذه التفاصيل حتى اشتملت على أكثر من فصل بدءاً من الفصل الخامس عشر حتى الفصل التاسع عشر وهو الفصل الأخير من هذا الكتاب مستغرقا في ذلك قرابة مئة وخمسين صفحة أو أكثر. تعرف خلال تلك الرحلة على إخوته وأخواته وجدته وأقاربه وأعمامه وعماته ورسم مفاصل الحياة في كينيا والفقر المدقع الذي يحيط بأهلها وسط تخلف واضح واستعمار أوروبي كبير من حيث المنتجات والسياحة واستقطاب الدارسين بالمنح .
في الخاتمة أشار باريإلى أنه تم قبوله في هارفرد لدراسة الحقوق ثم ما لبث أن تعرف على ميشيل لتكون زوجة له، وأعلن الزواج في الكنيسة وسط احتفاء أهله وإخوته. بعد أن قام بزيارة لمسقط رأس أبيه برفقة زوجته ولم يورد كثيرا من التفاصيل حول تلك الزيجة ولا علاقته بأهل زوجته، وأظنه اكتفى بذلك ربما ليصدر جزءاً آخر من الكتاب نفسه لاحقاً خصوصاً بعد أن لاقى كتابه ترحيبا منقطع النظير في الأوساط الثقافية عربيا وأمريكياً.
لا حظت وأنا أقرأ الكتاب ببطء حتى استغرق معي أكثر من أسبوع أن باري(أوباما) ينتقي كلماته انتقاء دقيقاً فيشرع في وصف أصغر الأشياء ولا يترك في المشهد الماثل أمامه شيئا إلا ذكره حتى لو كان شخصا عابراً أو كرسيا أو جدارا، ويبدو لي هذا أنه كان يستدعي ذكرياته بحرارة ويكتب متمهلاً جداً دون أدنى سرعة، والأمر الآخر أن الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية أكبر قوة سياسية وفكرية وعسكرية في العالم لم يخجل من ذكر ماضيه بكل تفاصيله بما في ذلك تناوله المسكرات وارتياده البارات والحانات، وتراجع مستواه الدراسي، والأسئلة التي كان يطرحها على من حوله، والعنصرية التي كانت سائدة آنذاك فقد تحدث عنها دون مواربة على الرغم من حساسية مكانه في البيت الأبيض كرئيس أمريكي على الأقل إبان صدور الكتاب، وهذا يدل على أن المجتمع الأمريكي والغربي أيضا لا ينظر إلى أي زعيم على أنه ملاك هابط من السماء يعيش حياته دون أخطاء، كحال البلاد العربية التي تمجد زعماءها وحكامها على نحو مبالغ فيه، بل ربما شكره قراؤه على صراحته وتصالحه من نفسه حينما كتب، أعتقد أن الكتاب حقق مبيعات بأرقام فلكية أولا لأنه عن حياة زعيم حقيقي وتحدث بكل صراحة وشفافية عن الاضطهاد السياسي والتمييز العنصري والجوع والبطالة والتشرد والفقر والعشوائيات والضرائب، ورجال الدين والكنائس والمدارس، والتهرب من القوانين، والحياة البوهيمية التي يحياها المتشردون وسكان الشوارع والثاني لأنه كان سلس اللغة ولم يسبب عسر هضم للقارئ، وأن لغته أقرب للغة الروايات الواقعية.
وخطر ببالي أنه ما تم انتخابه إلا بعد أن تدرج في عدة مهام ووظائف كما قلت في وسط المقالة منها أنه كان منظما للمجتمع المدني ووقف على مشكلات الناس واهتم بشؤون التعليم والصحة والخدمات والمرافق ولا أنكر أنه كان ميالا للسود بصفتهم أكثر من يواجه العنصرية من المواطنين البيض ولأنه أمريكي أسود كان ينظر إليه باحتقار في فترة خلت. كما لا يفوتني أن أشير إلى أن الرئيس تحدث عن أبيه بلا مواربة وجمع المعلومات من أكثر من مصدر فلم تقنعه المعلومات البسيطة التي قدمتها له والدته، ولا جده لأمه، وإنما التقى بأخته أوما وأخيه روي في الولايات المتحدة واستمع إليهما باهتمام، إلى أن زار كينيا وتجول في أسواقها وخطط لرحلة سفاري ناجحة في أدغال إفريقيا تعرف فيها على طباع رجال قبيلة الماساي وشيروكي واستمع إلى السياح الأوروبيين ورأى بعينه استغلال الأوروبي الأبيض لمزارع السود وانتهاكه لأرضهم، كما سافر إلى أكثر من مدينة داخل كينيا لزيارة جدته وعماته وبكى عند قبر أبيه، فهو لم يشعر بالخزي مثلا عندما كان يتحدث عن أبيه على أنه زير نساء ورائد حانات ومسرف على ملذاته وغير مكترث بتبعات ملذاته.. حقاً إنه مدهش ، لقد كان كتابا جميلا وحريا بأن أقضي بصحبته وقتا طويلاً.