كان صرحًا... ثلاث قصص للشاعرة القاصّة ليلى الأحمدي، ضمّها كتيب من القطع المتوسط، يقع في 143 ص، صادرة عن دار المفردات في الرياض، عام 1435هـ/2014م، القصص الثلاث مختلفة الطول حيث بلغ طول القصة الأولى (أمل) قرابة 70ص، بينما بلغ طول القصة الثانية (وسقط القناع) 14ص، وبلغ طول القصة الأخيرة (وأغلق الشباك) 67 ص.
وهي في مجملها مستمدة من الحياة اليومية التي نعيشها، كانت (أمل) أشبه بحلم طويل نجم عن حادث سيارة، ونجاة إحدى المعلمات في طريق صحراوي لم تصح من الغيبوبة إلا في بيت طبيب، يبعد عن مدينتها قرابة 3 ساعات، تدرجت أحداث القصة بإزالة الحواجز بين المريضة (أمل) وبين الطبيب يوسف الذي يحيا بطريقة مختلفة، وهو رب أسرة لديه أطفال، وفقد زوجته وبقي وفيًّا لها سحابة يومه، حاولت أمل الفرار من البيت ولم تتماثل للشفاء بعد، فكادت أن تهلك فأعادها الطبيب، وتعامل معها بطريقة تجمع بين الحب والإنسانية كما لم تكن مريضة فقط، تماثلت للشفاء، تواصلت معها أختها، فقررت العودة لمدينتها، على أن يبقيا على تواصل، إلا أن الأخت الكبرى حبستها في غرفتها، تحسبًا للفضيحة كما تقول، وهيأت لها عريسًا للزواج فدخلت في موجة اكتئاب حادة، أوهموها أنها كانت في حلم، ولم تستيقظ منه إلا على صوت الرسائل الواردة من الدكتور يوسف، في هاتفها الجوال إلا أن أختها وابن أختها أحمد كانا يتوليان الرد عنها في محاولة لإبعاد الدكتور يوسف، ساءت حالتها، اصطحبتها زميلتها نهلة بعد أن رتبت لقاء مع الدكتور يوسف في حديقة مجاورة، جاء متأخرًا ومضى مسرعًا، عادت بوصلتها إلى شمال قلبه الذي علا نبضه مجددًا، زهدت في الحياة العادية للناس فاختارت أن تبقى مع يوسف كطيفين يلتقيان كل شهر مرة في رحلة برية، يوقدان النار في المساء، ينامان على الرمل، يغنيان معًا، ويحلمان معًا، أخبرها أنه مازال وفيًّا لزوجته الراحلة، وأخبرته أنها ستحافظ على المسافة بين قلبيهما دون المساس برغبات الجسد.
كانت القصة مشروع رواية كما أرادت الكاتبة، ولكنها برأيي استعجلت بعض الأحداث فلخصتها على عجالة، ولم تترك لقلمها السيّال أن يأخذ حقه في الكتابة، ما جعلها قصة من النوع الطويل، والنفَس الطويل، أثرتها ازدواجية بين الحلم والواقع، لدرجة تشعر معها أثناء القراءة أنك تقرأ كابوسًا، ما لبث أن تحول إلى حقيقة ملء السمع والبصر... كانت أمل تهرب من التقاليد الاجتماعية، وترفض القيود التي تشدها إلى الواقع بقوة، كانت رحلة نقاهة واستشفاء على يد طبيب ماهر اسمه يوسف عالج قلبها قبل أن يقطب جرح جبينها... تنجرف كقارئ مع أحداثها لدرجة يصعب عليك أن تصدق أنه حلم فتنفصل عن الواقع لتعود مجددًا من أحلام اليقظة إلى الواقع المرير، تتسارع الأحداث أحيانًا لتقطع طريقًا أو مسافة زمنية بسرعة فائقة، وهنا أشعر أن الرواية لم تنضج بالقدر الكافي لها، ليت الكاتبة تريثت، ولم تقطع هذا الخيط الرفيع من الكتابة.
والكاتبة (ليلى الأحمدي) كونها شاعرة وقد شاركت في مهرجان الجنادرية 32، للعام الجاري 1439/2018 وأحيت أمسية شعرية فيها، تكتب بلغة الشاعر أكثر منها بلغة الناثر، وتصوغ الأحداث برؤية فلسفية تسوغ لأشخاصها الانطلاق على سجيتهم متحررين من القيود والأغلال التي تواجههم في بيئة محافظة كالسعودية مثلًا، فتنزع بهم إلى الحرية والانعتاق بعيدًا عن أعين الرقباء وقيود المجتمع.
وفي قصة (وسقط القناع)، التي ربما استوحت الكاتبة عنوانها من قصيدة النابغة الذبياني التي يصف بها المتجردة زوجة النعمان بقوله:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه = فتناولته واتقتنا باليدِ
كون الأحمدي شاعرة قبل كونها قاصة، وهذه القصة تسير بسرعة أيضًا، وبلغة أدبية راقية جدًّا، تخالها قصيدة نثر تشد قارئها حتى ينقطع نفسه عند آخر سطر فيها، فالبطلة فيها (ندى) تعيش زواجًا تقليديًّا تعيسًا يفضي بها إلى الانفصال، وهي التي تمتلك ثقة كبيرة بنفسها وتعيش في الطرف الآخر مع حبيب يهاتفها ليتغزل بها عبر الهاتف، ويسقط قناع الحب المزيف بينهما عندما تسمع منه كلمات ما كانت تتوقع سماعها لدى إخباره بنبأ طلاقها من زوجها القديم، وتختم القصة بعبارة جميلة :( كنت لاجئة من صحراء زوجي إلى سراب حبيبي)، ربما أرادت الكاتبة من خلال تلك القصة أن تبرهن على فشل العلاقات العاطفية التي تنشأ عبر الهاتف، والتي ربما كانت وليدة لحظة إعجاب في موقف عابر، ولم تترسخ جذورها في الأرض بما فيه الكفاية، فتلاشت أشجارها مع أول هبة للريح، ولعلّها ودت أن تبرهن أن الحبيب الذي يطرق الشباك سيخرج من الشباك المقابل له مع الريح، وأن العلاقة الجسدية لا تكفي أن تكون رابطًا للحب بعد الزواج، فكانت (ندى) تعيش في جحيم لا يطاق مع زوجها، بينما كانت تبحث في المقابل عن حب مفقود.
وفي القصة الأخيرة (وأغلق الشباك) ونلاحظ أن الكاتبة استخدمت أفعالًا نحو(أغلق) وفي القصة السابقة (سقط) مستوحاة من صميم القصتين، ومأخوذة من صلبهما،.وقصة (وأغلق الشباك) مع قصة (أمل) هما الأطول في الثلاثية الجميلة، حيث تتجسد حياة القرية في مزرعة من مزارع قباء في المدينة المنورة من خلال الأشجار والأوراق والياسمين، وبركة الماء، والسماء الفضية، والقمر الجميل، والشباك المطل على المزرعة، وصوت المسجل حينما تندفع منه الأغنيات... وفتاة في الرابعة عشرة اسمها (ريم) تعيش تفاصيل يومها مع أختها، ويتوضح المشهد أكثر بقدوم عمتها نهاية كل أسبوع ومعها ولدها الوحيد(سلطان)، وفي جهة ما من المزرعة أينعت قصة حب جذورها في الأرض وأغصانها في السماء، نمت كغصن صغير كأحد شماريخ النخل ما لبث أن كبر فتدلت من فوقه العناقيد رطبًا جنيًّا، يلهوان معًا عند شجرة الياسمين، يجلب لها سلطان الحلوى والشوكولاته، وتخبئ له صورًا في صدرها حتى تتفتح أزهارًا تنبض بحبه، يكبران معًا فيحول السن دون أن يلتقيا، ليبدأ عصر الرسائل الغرامية الملتهبة، يطرق سلطان باب خاله ليزوجه ابنته ريم فيرفض الخال ذلك بعد أن ضبطهما متلبسين بجريمة حب خلسة بعيدًا عن أعين الرقباء، يكبر وحيد أمه فتزوجه لترى أبناءه، وتكبر الغصة في قلب الصغيرة الطري، فتوصده أمام أي طارق سواه، يمرض فتعوده، فيشفى وتبرأ جراحه، ليت الكاتبة لم تستعجل أيضاً في نثر الياسمين هنا؛ لتكون القصة رواية بحد ذاتها... يتزوج سلطان فينجب طفلين، وفي مرض أمه الذي ماتت به تطلب من أخيها والد ريم أن يزوج ابنته لابنها كوصية، فيمتثل الخال الرافض أساسًا لفكرة الزواج، ولكن بعد أن مضى القطار بـ(ريم)، وتقاذفتها حياة الغربة في مدينة أخرى وعالم آخر كرست فيه جل وقتها للدراسة، ولكنها كانت تعيش على ذلك الطيف الوديع (سلطان) يتبادلان الرسائل فيلتقيان روحًا لا جسدًا، هكذا أرادت (الأحمدي) أن تؤرخ لأبطالها أن يحيوا حيوات مختلفة بعيدًا عن شهوات الجسد ونوازع النفس الأمارة بالسوء، فتلتمس طريق جبران عندما وظف هذه الخاصية لدى شخوصه في بعض أعماله الأدبية، فأحب مي زيادة ولم يرها، وكان طيفًا محبًّا بدلًا من عاشق قريب.
أختم ما كتبته بأني استرسلت واستمتعت بقراءة (كان صرحًا)، وبودّي لو أن الكاتبة أفردت كل قصة برواية خاصة، فستكون بلا شك - وإن تأخّر صدورها - روايات مميزة بكل تأكيد.
التدقيق اللغوي:
.سماح الوهيبي