(زرايب العبيد في ثوب جديد) هكذا اختارات نجوى بن شتوان، الروائية الليبية اسم كتابها، ومعروف لدينا أن الزرايب أو الزرائب جمع زريبة، وهي الحظيرة الخاصة بالمواشي، وربما جاء اختيار الاسم كناية عن الزرايب التي يعيش فيها حيوانات على هيئة بشر، أو بشر ولكنهم يعاملون معاملة الحيوانات، وهم العبيد!
صدرت الرواية عن دار الساقي عام 2016، وكانت ضمن مجموعة الكتب المرشحة للبوكر في العام نفسه، ونالت كاتبتها بموجبها جائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال المسرح، وجائزة (هاي فيستيفال) لأفضل 39 كاتبًا عربيًا للعام 2009، ولا أدري كيف كتب على غلاف الرواية الأمامي حائزة على جائزة الرواية العربية في السودان عاصمة الثقافة العربية للعام 2005 مع أن الرواية صدرت في العام 2016!
تقع الرواية في 352 صفحة من القطع المتوسط، راحت تقسمها الكاتبة إلى فصول معنونة بعناوين جانبية، تدور الرواية حول الظلم والاضطهاد الذي يتلقاه فئة من الناس في أواخر الحكم العثماني في ليبيا، وهم العبيد الذين جاؤوا إلى هذه الحياة لأعمال السخرة فقط دون أدنى مراعاة لمشاعرهم كآدميين، فهم الآلات للكنس والطبخ والغسيل، وهم الحيوانات لحمل أسيادهم البيض، "السيد يركب ظهر عبده جاب الله ويناديه يا عبد السوء" وهم الجواري والإماء وملك اليمين إن أراد أسيادهم التسري بهم أيضًا، وهناك سوق للنخاسة يباع فيه العبيد بأقصى درجات الامتهان.
تعويضة بطلة الرواية إنها عبدة سوداء نشأت في أعشاش الصفيح والتنك في محلة الصابري والزويريعية على شاطئ البحر حيث ينعزل الحي تمامًا عن المدينة، ولا يوجد به سوى العبيد والكلاب والقطط التي تبحث في القمامة عن بقايا طعام.
لقد كانت تحلم بكسرة مرآة فقط كي ترى وجهها فقط، هؤلاء العبيد القادمون من النيجر والسودان، يباعون كما تباع الأغنام في سوق خاص، والدلالون الذين يأتون بهم يغتصبون البنات الصغيرات في طريق عودتهم وقبل تسليم البضاعة للأسياد البيض، وهذا (سيناريو) قائم آنذاك ومتعارف عليه ومسلم به أيضًا.
وشحت الكاتبة روايتها بأغانٍ وأناشيد محلية، ربما لا يفهمها إلا أبناء المنطقة، كقولها على لسان نساء روايتها:
ميت موت عليه غزالي
يهبل يا ربي نجيه
غزالي لا ما نسلم فيه
عيوني لو يبي نعطيه
من العادات المتخلفة التي سلطت عليها الكاتبة الضوء هي عادة التقفيلة، وهي قراءة طلاسم وتعويذات وطقوس شيطانية تقوم بها عجوز بمقابل مادي لتقفل أرحام الفتيات عند البلوغ حتى لا تطالهن أيدي الرجال.
نشأت تعويضة ومفتاح وعمتها صبرية في زرابي العبيد على البحر وهي لا تعرف من هذا العالم سوى البؤس والشقاء وغسل الحصر والملابس، وأكل العدس والقمح المليء بالديدان، وأخوها مفتاح العامل في الملح يشقى ليحضر لهما بطيخة أو حبتي طماطم لا أكثر.
رفيقتها درمة في زرابي العبيد اتخذت طريق الكويسات المومسات كمهنة أراحتها من جلب تنك الماء، فهي بغي لا أحد يريد سماع اسمها، غير أن الرجال يرتادون براكتها (بيت من الخشب والتنك) ليقضوا حاجاتهم، وقد أتقنت حرفة الغناء بصوتها الشجي ثم انتهى بها المآل لاحتراف البغاء.
لحياة كل شخص تفرد، (نجوى بن شتوان) نمط من الحياة لا يخلو من المرارة والكدر طالما يعيش في زرابي العبيد مثله مثل الحيوانات المدجنة.
حتى يأتي ذلك اليوم الذي يطلب فيه أحد السادة البيض خادمة تخدم ابنته العروس فطومة لدى زواجها من ابن جارهم حماد، وهناك تطلع تعويضة على ما لم تسمع به من قبل، تعرف عن قرب أن الشرف العربي مجرد خرقة بيضاء منقوعة بدم البكارة، وأن الرجال لا تستريح بنادقهم من الرمي إذا ما رأوا تلك الشارة في يد العريس.
تعرف كثيرا عن حياة العبدات اللائي اغتصبن ومتن بصمت، وربما نهشتهن الغربان في الصحراء بلا أدنى رحمة، في الزوايا الخلفية من البيوت تمارس الدعارة تحت مسمى آخر.
ينتهي بها المطاف في بيت سادة بيض تجار، تخدم سيدها محمد الصغير من عائلة ابن شتوان الثرية، تتبادل مع سيدها الحب فيعجب بها ويفضلها على زوجته رقية ابنة خاله التي لم تنجب له سوى كومة بنات بينما يحلم بمولود ذكر.
يمكن لسيد أن يتسرّى بعبدة فهي ملك يمينه وله أن يفعل بها ما يشاء، ولكن ليس من المقبول مجتمعيًّا أن يعترف بها كزوجة وإن أنجبت له أطفالًا، يبقى السيد سيدًا والعبد عبدًا، أحبها سيدها فكان يقول لها: أنت سيدتي وأنا عبدك، أحبته تعويضة حبا جر عليها كثيرا من المشكلات ووجع الرأس، فأمه دبرت لها المكائد حينما علمت بحملها فعلمت على إجهاضه بإجبار تعويضة على تناول شراب سام أدى إلى إجهاضها مبكرًا، ثم حملت مرة أخرى من محمد بعد أن أقنعت السيدة للاعويشينه زوجها محمد الكبير بضرورة زواج العبيد عندهم كي يأتي من ذريتهم من يكمل الخدمة في البيت بعد أن يهرم العبيد عندما يكبرون في السن، تعويضة لسالم وعيدة لجاب الله، وكان جاب الله وعيدة، محبين لبعضهما فجاء الزواج لمصلحتهما، بعد لقاءات حفلت بها حظيرة الماشية أما سالم فطلب إليه محمد الصغير الذي تزوج من تعويضة بورقة كاغد (عقد) ألا يلمس جسد تعويضة وإلا قطع يديه، فيما ثبت أن سالما هذا رجل عنين.
تدور المكائد في البيت للتخلص من تعويضة بأي شكل كي يلتفت محمد إلى زوجته وبناته وتدبر الأسفار لمحمد في تجارة إلى مالطا كي يبعد عن تعويضة وهذه مكيدة الشيخ الفقي مفتي السوء وصاحب المنامات الكاذبة، أراد أن ينتقم من محمد الصغير بحرمانه من تعويضة بعد أن ضبط محمد العبد سالما وابن الفقي واسمه حسين في وضع مخلٍ استفز الشيخ بكلماته الموبخة له ولابنه بعد أن لقّن حسينا درساً في الأدب بلطمةٍ على وجهه.
ما زالت الدسائس تدور هنا وهناك للخلاص من تعويضة، تلك العبدة السوداء فقلب محمد منصرف إليها بالكليّة وهذا ليس من عادات العوائل الكبيرة، كل الرجال يتسرّون بالإماء(العبدات) ولكن لا يتعلقون بهن كما فعل، لا بد من بيعها هكذا أشارت للّاعويشينه على زوجها فأمر ببيع العبدة مع عبيد آخرين للتخلص منها وقد كانت حاملًا، عرضها في سوق الجريد حيث يقف العبيد فجاء التجار يتفحصون أثداء العبدات يقرصونهن في إشارة إلى امتهان آدميتهن تشير إليها الكاتبة من طرف خفي، وتقول تعويضة في نفسها يهصرون الأثداء للمتعة وليس للتجربة كما يزعمون، دفعوا ثمنًا قليلا في تعويضة وكادت أن تتم الصفقة لولا تدخل علي ابن أخت محمد الصغير لقد سحب سكينه في وسط السوق وهو ابن السابعة عشرة وقال أنا أشتري عبيد جدي، وهو لا يريد لخاله محمد أن يتعذب بفقد تعويضة، وليس من أجل الخدمة كما ظن الآخرون، لقد أحرج الصبي جده في السوق وانتهى الأمر برجوع العبيد إلى بيت الجد وبطرد علي من بيت جده الذي تربى فيه بصحبة أمه.
ولدت تعويضة طفلا أبيض كأبيه غير أن أهل الدار يظنونه لسالم بينما سالم كان بعيدا عما يدور فهو أب أمامهم فقط، وذات جمعة كان البيت على موعد مع ضيوف وتجار كبار سيأتون للغداء عند بيت السيد الكبير وعلى الخدم أن يستنفروا جميعا لتجهيز الغداء، نسيت تعويضة أن تعلق اللحم بعيدا عن القطط فصار ما لا يحمد عقباه، أكلت القطط اللحم، وقعت الكارثة أرادت تعويضة أن ترضع ابنها الصغير وتذكرت ما حصل فضاقت بها الأرض بما رحبت، أشار عليها سالم أن يشتري لحمًا دون أن يشعر أحد بالذي حدث، فكان ولكن تأخر الطبخ حتى طلوع الشمس جعل السيدة للاعويشينه ترسل إحضاره خادمتها المطيعة والتي سخرتها للتنصت وشمشمة الأخبار لدى الخدم فهي همزة الوصل بين المطبخ والحرملك، أفادت أن اللحم قد أكلته القطط وأن العمل سيتأخر، وصل الخبر للسيد محمد الكبير لينهال بالسوط ضربا على جسم تعويضة المنهك أصلا وأصر على تعليقها كما تعلق الذبيحة في المطبخ حتى لا تنسى في قادم الأيام أن تعلق اللحم بعيدا عن القطط الجائعة.
تدخل الكثيرون لإنقاذ الموقف ولكن السيد أصرّ وأغلقوا الباب عليها وعلى ابنها بجوارها ظل الصغير يصرخ جائعاً حتى قضى، كان صراخه باعثا على قدوم سالم من المربوعة (غرفة الضيوف) بعد أن كان يسكب الماء على يدي أحد الضيوف إلى المطبخ وبيده حديدة يضرب بها الباب حتى هشمه لينقذ الصغير على الأقل، أما تعويضة فمتعودة على الإهانة والضرب والشتم، ثم جاءه سيده فضربه حتى أقعده أرضًا وكسر رجله ما أدى إلى إعاقة فيها حتى صار يعرج والدم يشخب من أنفه، عبد السوء هكذا كان يناديه سيده هو وجاب الله أيضا عبد سوء برأي السيد مع أنه يحمل سيده على ظهره مثل دابة.
سكن سالم وسكن الصغير إلى الأبد وتعويضة فاقدة الوعي فقال سالم: هو ابنكم وليس ابني فأسقط بيد السيد وأكله الندم، كيف سيكون موقفه بين الرجال، لو عرف أنه حفيده لما فعل فعلته بتعويضة.
جاءت فكرة جهنمية من الشيخ الفقي بأن لفق الحكاية بالطريقة المناسبة بأن صلى على الطفل في الجامع موهما المصلين أن الطفل لابنه حسين من إحدى جواريه، فوقف حسين والناس يسلمون عليه ليقوم بدور الأب الغائب.
انتهت مراسم الجنازة والتشييع والعزاء، بقي أن نتخلص من الأم ولتكن هذه إحدى مهام الشيخ الفقي الجديدة نكاية بابنهم محمد الذي ضبط حسينا وسالما في وضع مخل بمكانة الشيخ على الأقل أما سالم فهو في النهاية عبد مقطوع من شجرة.
تمت البيعة بطريقة خبيثة وبعقد محكم بأن تشتري تعويضة حريتها مقابل خدمتها عند الفقي الذي أودعها بدوره في ماخور تديره سيدة ساقطة ولديها عبدة قوادة تساعد سيدتها في البغاء، سقتها الخمر حتى نسيت أين هي، أضاعتها في هذا الماخور لأشهر حتى نسيت كل شيء كانت تشرب العرق المحلي الرديء فقط لتغيب عن الوعي، بينما تتكفل الشنشانة (العبدة المديرة) بإصلاح هندامها وغسل ملابس تعويضة وتزيين وجهها بالأصباغ لتجلب الزبائن، رفضت تعويضة بشدة ودخلت في عراك مستمر مع الشنشانة ولكنها رضخت في النهاية، وجاء الفرج ذات صباح مع ولادة طفل غير شرعي لفتاة صغيرة السن، تم إجهاضها في الماخور، وأرادت التخلص منه صاحبة الماخور بقتله لتبقى أمه في مأمن لديها، فأشفقت تعويضه عليها وأقنعت صاحبة الماخور أن تضع الوليد لقيطا على باب الجامع عند صلاة الفجر كي يأخذه أحد المصلين، لفته أمه برداء وردي كعلامة يعرف بها إذا ما كبر ورافقت تعويضه شنشانة أخرى خشية من هروبها، وضعته تعويضه أمام الجامع واستطاعت أن تفلت من الشنشانة المرافقة لها لتهرب من سجنها المزري فتحمل الطفل وتمضي تتعرف بنغازي من جديد، لقد تغيرت المدينة كثيراً، لابد أنها قضت زمنا ليس باليسير في هذا النزل الرخيص القذر، كان محمد يحاول في محاولات مستميتة الوصول إليها بعد رجوعه ولكنه لم يستطع، خاصم أهله وزوجته وراح يسأل عنها كل من عرف ولم يجدها، إلى أن أخبره سالم أن تعويضة في النزل بناء على كلام حسين بن الشيخ الفقي، فحينما حاصرت زوجة الشيخ زوجها بأن يتردد على النزل الرخيص فأخبرها بشأن تعويضة هناك التقط حسين تلك الكلمات التي تفوه بها والده لحظة غضب، فأسرها حسين لسالم وبدوره سالم أخبر سيده محمد الصغير بذلك.
أسرعا إلى النزل فأخبرتهما صاحبته أنه اليوم هربت، وأرتهما غرفتها وأوقعت بينه وبين الفقي بأن الأخير كان يتردد على النزل وهو من زبائن تعويضة أيضًا للانتقام من الاثنين ولتسلم على مهنتها كما تقول.
اهتدت تعويضة إلى بيت السيد فبلغت عيده وجاب الله فأخفيا الأمر عن محمد الذي راح يخطط للانتقام من الشيخ الفقي بأن سبب له إعاقة دائمة وتركه هائما على وجهه.
أرادت تعويضة الخروج إلى زرايب العبيد لأن بنغازي رفضتها ولفظتها خارجا وها هي تعود بصحبة طفل من الصعوبة أن يقتنع محمد أنه ليس لها، وهكذا أمضيا ردحا من الزمن يذهب إليها ويعيش معها ثم ينقلب عنها مشككا بسلوكها وتصرفاتها، وأنها كانت على علاقة مع الشيخ الفقي، هكذا بقي مشككا بها، حتى وجد ميتا في فراشه في ديار الغربة بينما ولدت تعويضة بنتا اسمها عتيقة وجدت اسم أبيها مطرزًا على عباءته، وها هو أحد أقاربها وهو ابن عمتها علي بن شتوان ذاك الذي اشترى أمها تعويضة كيلا تبعد عن خاله محمد، وها هو يعود ليخبرها بذلك بعد أن مضى الزمن بأهله، تزوجت عتيقة من يوسف الذي أحبها وكانت تعمل في الإرسالية التبشيرية لمعالجة المرضى فقد أتقنت مهنة التمريض كما أتقنت اللغة الإيطالية.
لقد ولى زمن العثمانيين وولى معه عهد الرقيق فتحرر الجميع إلا من يبحث عن سيد آخر كما يقول سيد قطب: (العبيد إذا أعتقهم سيدهم يبحثون عن سيد آخر) في عهد الاستعمار الإيطالي الحديث أصبحت البلاد كلها عبيدا لهم وثرواتها نهبا لهم وإن تحرروا من عبودية الإنسان لأخيه الإنسان.
التدقيق اللغوي: سماح الوهيبي.