يحاول الأستاذ صلاح والي في روايته الجديدة " الرعية " الصادرة عن اتحاد كتاب مصر العام قبل الماضي ( 2002 ) أن يقتحم عالما جديدا متخطيا عالمه القديم الذي يشكل المكان المتضافر بين القرية / المدينة لحمته وسدته , وذلك باقتحام رواية الفكرة والرواية السياسية إذا جاز التعبير , بيد أن محاولته تعود به القهقرى إلى عالمه القديم مرة أخرى , إنه ذلك العالم الذي تعرضت له من قبل عندما درست الروايات الأربع السابقة على هذه الرواية , وقد قلت وقتها أن المؤلف يمزج الواقعي التاريخي بالسير ذاتي , أما الجديد هنا فإن المؤلف يقوم بالمزج السير ذاتي البارز بقوة بالفكري المتمثل في يوتوبيا سلومة وعبد الستار. إن سلومة وعبد الستار وهما وجهان لعملة واحدة , على الرغم من أن المؤلف حاول أن يجعلهما من لحم ودم , يبقيان في النهاية فكرة تغلفهما أيدلوجيا الكاتب , لقد صنعها الكاتب بوعي شديد ليجسدان الفكرة في الرواية , فالرعية أو بالضبط فكرة تكوين سلالة جديدة , تضحى بمثابة رعية جديدة بديلا عن الرعية الحالية التي لم تعد تصلح لاستمرار الحياة أو لخلافة الله في الأرض .
إن شخصية أشرف السائق أكثر حيوية من سلومة وعبد الستار , لأن الأخيرين يفكران أو قل يفكر لهما الكاتب أكثر مما يتحركان , وعلى العكس من ذلك شخصية أشرف .
العجيب في الأمر ( الواقع أنه ليس عجيبا إذا ما تفحصنا بناء الرواية ) أن الشخصية التي استأثرت بالحديث والحركة وجسدت بقوة حقيقية الفعل الروائي كانت شخصية الراوي , فهو لا يقوم بدور السارد فحسب , ولكنه يشارك في الأحداث , بل يكاد يكون هو البطل الرئيسي , وأعتقد أنه كذلك , لأنه على الرغم من صفحات الرواية , فإنه يفعل عن قصد , إذ هو متعاطف معهما , وربما كان داخلا في إهابهما , فلعله سلومة في صورة أخرى ! ولماذا نذهب بعيدا في تأويلنا , ألا يبحث سلومة عن سلالة جديدة نقية ؟ إن راوينا يبحث هو الآخر عن سلالة جديدة بديلا عن أهله الذين تنكروا له , وشككوا في ذمته , فتخلوا عنه وقت الشدة , ولم يزوروه أثناء مرضه , غير أن ما يميزه عن سلومة وعبد الستار أنه رغم غضبه على عشيرته يتمنى أن يعود إليهم أو يعودون إليه , وقد عوضه عن جفائهم حب أهل السكاكرة له فهم بمثابة السلالة الجديدة , كذلك حنينه إلى بيته القديم , منزل العائلة المهجور منذ سبعة وعشرين عاما , لذلك نجده يدخله خلسة في بداية الرواية عبر سور الحديقة , ثم يتمدد داخله وهناك يمر بخاطره معظم الذين يحبهم أو سلالته وعشيرته الجديدة والقديمة معا , عبد الستار وسلومة وعاطف عواد والسكاكرة وعائشة الخياطة والعم حنفي .
وأعود مرة أخرى إلى إشكالية رواية " الرعية " هل أراد صلاح والي أن يكتب رواية ذات فكرة محددة فحشد لها كل أفعال السرد وشخوصه ولغته لتجسيدها ؟ نعم , وأقول بيقين راسخ مرة أخرى نعم . والدليل على ذلك أن الراوي / المؤلف أشار في أكثر من موضع مخاطبا بشكل مباشر المتلقي , إلا أن هناك مغزى بعيدا وراء الرواية , ففي نهاية الفصل الثامن الذي تظهر فيه شخصية عبد الستار لأول مرة , وإن كان عبد الستار نسخة ثانية من سلومة ولنقرأ الجزء التالي من الرواية :
" فأخذت عبد الستار معي إلى البنك فصرف الشيك الذي أرسله أحد الأفراد من عشيرته الأقربين , وأهله الذين أرسلوا إلى بلاد الله خلق الله ليعملوا في أى عمل ليكتمل بناء بيوت لبعض العشيرة كأنما هو المسئول عن تصاريف الحياة وكأنهم من شجرة بدأت بهم وامتدت , غير مرتبطين بالأرض أو الزمان لكنهم ارتبطوا معا برباط العشيرة . "
ثم بين قوسين مخاطبا القارئ :
" هل أفسدت عليكم بالبوح والتصريح مكنون الرواية التي كان لابد أن يفهم بالتلميح أو من وراء السطور ؟
ومن قال لك أن ما صرحت به هو ما أريد ؟ ومن قال بأنني خلطت بين عبد الستار وسلومة " ( الرواية ص 38 )
وثمة إشارة أخرى تأتي في الفصل العاشر , عندما عرف الراوي وكان صغيرا بسر العلاقة بين الأستاذ عبد المعين وإحدى فتيات القرية , فنقرأ :
" حملته وظننت أنني فزت به وإذا هو يصيرني عبدا له " ثم يخاطب القارئ مباشرة واضعا كلامه بين قوسين أيضا :
( لا تصدق أن هذه فلسفة أو نوع من البوح فأفسد عليك مغزى الرواية البعيد , لا والله العظيم أنا أعرف ما أفعله جيدا , لكن هذه كانت الحقيقة ) " الرواية ص 47 "
إذن هناك مغزى بعيد للرواية , يختلف عن البوح أو التفلسف أو التصريح على حد قول الراوي , إن هذا المغزى هو ما يطلق عليه في الرواية القصيرة على وجه الخصوص الفكرة المركزية ( ولنلاحظ أن الرواية رواية قصيرة ) التي يجب أن توظف كل مفردات العمل الروائي لتحقيقها , وعلينا الآن أن نبحث عن هذا المغزى البعيد أو الفكرة المركزية للعمل .
يضع صلاح والي عنوانا خادعا لروايته هو " الرعية " , وأقول خادعا لأنه ربما كانت هناك قصدية من قبل المؤلف , وهنا قد يتسرع المتلقي / القارئ , فينساق وراء العنوان , ويقول : إن فكرة الرواية واضحة وليس فيها أي لبس , إن المؤلف / الراوي يتخفى وراء سلومة لتكوين سلالة من البشر بديلا عن السلالة الحالية , تكون في النهاية رعية جديدة ترتبط برباط وثيق بالراعي , وهناك إشارات كثيرة داخل العمل تشير إلى ذلك , مثل اقتباس الراوي من سيرة النبي (ص) عبر كتابي "تاريخ الإسلام " للذهبي و " سيرة النبي(ص) " لابن هشام ما يؤكد اقتناع سلومة بفكرته في تكوين رعية جديدة ذات أفكار جديدة وما هو يؤدي في النهاية إلى تكوين أمة جديدة .
وعلى الرغم من كل ذلك أجدني مختلفا مع هذه الفكرة التي تبدو لأول وهلة منطقية , فأقول أن الرعية أو البحث عن تكوين رعية جديدة ما هو إلا إهاب رقيق يغلف الفكرة الأساسية أو المغزى البعيد للرواية , ولا يعنيني إن كان هذا هو ما يقصده المؤلف أم لا .
أما هذا المغزى البعيد الذي تشير إليه مفردات العمل الروائي , فهو باختصار وفى كلمات قليلة أزمة الراوي / المؤلف مع الواقع المحيط به , إنه الإحساس بالاغتراب , ممثلا في عدم الانسجام مع الواقع المحيط , وسوء الفهم من أقرب الناس , من العشيرة الأقربين , فهم لا يفهمونه , بل لا يقدرونه , لذلك فهو يتوق إلى عشيرة أخرى , وقد وجدها في أهل السكاكرة وبيت العائلة المهجور , إن بيت العائلة المهجور رمز لنقاء السلالة والرعية التي يبحث عنها سلومة وعبد الستار وصلاح والي , وعليك أن تعيد قراءة الفقرة الأخيرة من الرواية , فنجد الراوي ممدا على كنبة في بيتهم المهجور :
" كانوا كلهم يقتربون وينظرون إلى ويبتسمون ابتسامة بلهاء من كل اتجاه , كلما اتجهت وجدتهم , صرخت من الرعب :
هل أنا ملتقى الاختلاف أم ملتقى الاتفاق ؟؟؟
مر في خاطري بسرعة البرق عبد الستار / سلومة / عاطف عواد / السكاكرة , وكنت أراني نائما على فخذ عائشة الخياطة والعم حنفي يتمتم بأوراده وست الناس وو……يرددون خلف العم حنفي بينما أرى مشهدي يمر من أمامي وأنا أتأمله" ( الرواية , ص 123 )
لقد وظف صلاح والي سيرته الذاتية بشكل جيد في هذه الرواية مثلما فعل في رواياته السابقة , ولكن ما استجد هنا , ذلك الهجاء المرير لكل من أساء فهمه , سواء من أقرب الناس إليه , الذين تربطهم به رابطة الدم والمكان , أم من الأصدقاء أو من كانوا أصدقاء ولم تربطهم به رابطة الدم , ولكنهم عشيرة المثقفين , بيد أن ثمة أمل في عاطف عواد وأهل السكاكرة معا .
إن رواية " الرعية " تستدعي في بنائها ومغزاها بنية قصيدة النقائض في العصر الأموي , فثمة خليط بين الهجاء والفخر والمدح والمعلومات التاريخية وعلم الأنساب والمغزى السياسي , وقوة اللغة وابتذالها أيضا , وإن غلب في النهاية عنصر الهجاء , ومن هنا كان بروز التشابه بين الرعية وقصيدة النقائض بشكل أوضح .
ولقد امتد تأثير النقيضة الشعرية إلى بناء الرواية أيضا , فالراوي يأخذنا عبر رحلاته داخل الذات ليسرد لنا تاريخه الشخصي أو سيرته المليئة بالمفاخر , وفى ذات الوقت يكشف لنا عيوب الآخرين , عشيرته سيئة الفهم , سواء كانوا من الأقربين أم من الأبعدين , أما ما جاء على لسان سلومة أو عبد الستار فكما أشرنا سابقا فما هو إلا صدى لمفاخر الراوي .
بقي أن أشير في ختام هذه القراءة إلى مسألة اللغة في هذا العمل , فقد لاحظنا أن تفاوت اللغة بين الارتفاع والانخفاض بصورة واضحة , فتقترب اللغة أحيانا من الشعر , وتنخفض أحيانا – ولا أقول في معظم الأحيان – إلى أدنى المستويات الفنية , وليس معنى ذلك أنني أطالب المؤلف بعدم التنوع الأسلوبي , فقد يكون هذا التنوع مطلوبا لتحقيق هدفا فنيا , ولكن أشير إلى أن هناك مستوى من اللغة لا يمكن تجاوزه وهو أن تكون اللغة سليمة من الناحية الصرفية والنحوية على الأقل , بعيدة عن الترهل , ولن أطيل عليكم , ويكفى أن أعطي مثالا للمستوى الأول وآخر للمستوى الثاني .
من المستوى الأول الذي تقترب فيه اللغة من الشعر وصفه لبزوغ الفجر والحياة وقت الصباح وشروق الشمس :
" كانت الدنيا واقفة هناك في البعيد وقد نهضت من نومها بجسدها الباذخ ورائحته المدوخة الأنثوية وقد بدأت في رفع جلبابها الأسود عاليا ليخرج من تحته نور جسدها الأبيض فتلوث الكون ببهجتها وأنوثتها وتفرغ شهوتها في الناس والنباتات والحيوانات , وعندما نتأكد من تفاصيل مفاتنها ونرى كل شئ بوضوح تنهض وقد ابتل جلبابها بالشهوات فنتمايل قليلا , ثم تفتح عبها لتشرق منه شمس الله على كون الله لترى بنات الناس وهن ينهضن لاستقبال النهار مقلدات أمهن الحياة , بينما أبناء الناس يعملون في أرض الله الواسعة ويسعون " (الرواية ص 94 )
أما المستوى الثاني فيكفي أن نشير إليه ونمثل له بالفقرة الأولى من الفصل رقم (17 ) : " ما الذي يمكن أن يحدث يا ناس وروح مخطوفة وملتاعة وخائفة خوفا مرتفعا كإنني كالعشبة قدام المنجل , أو كأنني أتوقع تنفيذ حكم الإعدام وأنا البريء , أخاف من صوت الهاتف أو جرس الباب كأنما كارثة سوف تقع على أم رأسك أنت وأهلك , ليس عندي ما يخيفني لأنني تعلمت من الحياة أن أكون رجلا بلا أسرار فما الذي يتهددني ؟؟؟ " ( الرواية ص103 ).
غير أني في نهاية قراءتي لا أملك إلا أن أشيد بهذا العمل الذي رجحت كفة حسناته كفة سلبياته , والكمال لله وحده .