كثيرةٌ هي الكتب والدراسات والأبحاث والمقالات التي تعرَّضَتْ لمفهوم الحداثة على أنها تعبيرعن اليأس والقنوط والكفر بكل القيم وإلغاءٌ أو نفيٌ للقديم ( الأصالة أو التراث)..ناهيك عن أن هذه المقالات تُخفي بين طياتها كثيراً من الطروحات العرقية والتكفيرية المخالفة للشريعة الاسلامية..

راجع مقالة للناقد سمير الشريف بعنوان الحداثة من منظور إيماني على الرابط التالي عبر دار ناشري


في هذا البحث أتناول مفهوم الحداثة لكن برؤية أكثر شمولية وعمقاً ومنطقية أي برؤية اسلامية..
ربما نسيَ البعض أن الثورة الاجتماعية ذاتها، وبواكير الديمقراطية قد ذكرها الله في القرآن،وتحققت في سُنّة النبي، و نهج الصحابة..

" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوَّكم وآخرين من دونهم لاتعلمونهم الله يعلمهم " 60 ـ الآنفال .
" ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من اموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون" 188 ـ البقرة.
" إن الله يأمرُ بالعدلِ والاحسان وإيتاءِ ذي القُربى وينهى عن الفحشاءِ والمنكر والبغي .." 90 ـ النحل.
" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا.." 13 ـ الحجرات.
" ولقد كرَّمنا بني آدم..... وفضَّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا" .. 7 ـ الاسراء.
" وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس..." 143 ـ البقرة.
" وما جعل عليكم في الدين من حرج ملَّة أبيكم ابراهيم.." 78 ـ الحج.
" واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرَّقوا .." 103 ـ آل عمران.
" يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة..." 208 ـ البقرة.
" إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم.." 10 ـ الحجرات.
".. وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".. 58 ـ النساء.

بالطبع هناك الكثير من الآيات القرآنية والأحايث الشريفة التي دعتْ إلى الديمقراطية والحقوق والانفتاح الفكري والعلم والعمل والانسانية والمحبة والتسامح والأخوة و....
إذن؛
* لماذا كان ومايزال الموقف العام من النظريات والاكتشافات الفكرية والثقافية الحديثة في المجالات غير المادية ، كعلم النفس و التربية و الاجتماع و التاريخ ، و اللسانيات و الأدب والفن موقفاً سلبياً بل قائماً على أفكار مذهبية تتعارض والدين الاسلامي ذاته؟..
* متى كان الاسلام يرفض التقدم، أليس مفهوم التقدم في الاسلام أقوى طرحاً وعمقاً منه في الطروحات الغربية؟..
* ألم يدعو الاسلام إلى التفكّر وطلب العلم والسـير في الأرض ودراسـة الآثار واكتشاف آيات الله تعالى في الانفس والآفاق؟..
* أليست أفكار لوك (تصور جديد لعالم سياسي يقوم على الحرية الشخصية حيث لا سيادة لأحد على آخر ) هي ذاتها أفكار بل جوهر الاسلام؟..
* لماذا استسلمنالأحضان الحداثة التكنولوجية والعلمية والعسكرية.. بينما نعارض الحداثة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية؟.. ألسنا في ذلك نشبه الذي يؤمن ببعض ويكفر ببعض ؟..
* لماذا يرفض المسلمون الحداثة مع العلم أن الاسلام دين الاعتدال والانفتاح؟..
* ومتى سيفهم المسلمون بأن قوة الغرب تكمن في أسلوب العمل وليس الحياة..؟..
* أليسَ الاسلام منهجَ حياة ؟.. أليسَ القرآن هداية؟.. أم أن المسألة صراع حضارات كما صرَّح هينتنغتون؟..

وللتذكير أقول بأن الحداثة الفكرية والعلمية والتقنية الغربية ( القرن السادس عشر) تعود للفكر العربي الاسلامي..
حيث جسَّد العلماء والحكماء ذلك في تعاملهم مع العلم والبحث العلمي في التعليم والتحصيل والكتابة والتأليف والترجمة والبحث والتحقيق..
( ابن سينا، الامام الغزالي، ابن المقفَّع، الطبري، حنين ابن اسحاق، جابر ابن حيَّان، عمر الخيَّام، ابن زُهر، ابن طُفيل، ابن بطوطة، زارادشت ، الفارابي، محي الدين ابن عربي، ابن الفارض،الادريسي، و.....)
كلهم كانوا من الأندلس والمغرب ومصر والكوفة وخراسان وفارس والبصرة والهند وأثينا و ..
إذن لولا انفتاح الأمة الإسلامية على الأمم الأخرى ، ما كانت لتصلَ إلى أوج الحضارة والازدهار والتطور وقتئذٍ؟..

الحداثة إذن تعني أن للمفردات دلالة كما الحياة ،الطبيعة،الإنسان، والكون بأسره..
فهي بذلك قائمةٌ على العقلانية والتنوير لا على الغيبيات والخرافات والأساطيروالغموض والديني و...
وبذلك ننفي تلك التهمة القائلة بأن الحداثة مذهب فكري جديد يحمل أصوله من الغرب ..
فالعقلانية والحرية والعدالة واحترام إنسانية الانسان ليست قيماً غربية، بل هي قيم كونية تستمد وجودها من تطلع الانسان عبر التاريخ إلى الكمال.. ( ولقد كرَّمنا بني آدم...)..
وعليه؛ فالإنسان ليس لعبة في يد التاريخ بل عليه أن يوجِّهَ حركة التاريخ نحو أهداف أخلاقية وإنسانية لإعطاء معنى لوجوده..
من هنا لجأَت المجتمعات الغربية إلى نزعات روحية انتهت إلى نهاية الفلسفة ونهاية التاريخ ونهاية الانسان.
والسؤال ؛ لماذا عجزتْ البشرية عن إيجاد الحل لأزمة الانسان الذي فقدَ معنى وجوده؟..
قطعاً لأنها عجزتْ عن فهم واستيعاب الواقع .. لذلك انتهت إلى قيمٍ ضد القيم..
هذه القيم والمفاهيم و الفلسفات الغربية انعكاسٌ للواقع وللتاريخ، فهي بذلك لايمكنها أن توجه التاريخ..
وهل نستطيع أن نغيِّرَ العالم إن لم نتمكَّنَ من إعطاءِ معنىً له؟..
هنا نحن بحاجةٍ إلى فلسفة تستمد رؤيتها من الدين بصورة تعبدية واجتهادية..
فالشريعة الاسلامية كانت وماتزال صالحة لكل زمان ومكان وحال لكن ذلك لن يتم إلاَّ عن طريق الاجتهاد كمنهجٍ علمي..
فالاجتهاد يتطلَّبُ تعاملاً مع النص يتصف بشدة الفحص وعمق النظر ما يعجل النص مفتوحاً للمعنى في كل زمان ومكان .. ما يمنع احتكار الفهم على طبقة أو جيل من الناس..

* يقول الدكتور حسن حنفي :
"إن الاسلام (من خلال الاجتهاد )هو أكبر دين حداثي، لأنه يعطي الفرع شرعية الأصل، ويعترف بالزمان والمكان وبالتطور، وإن إجماع كل عصر غير ملزم للعصر القادم.. "
لأن الاجتهاد لن يكون له معنى حين يتناول قضايا ومسائل و موضوعات مرتبطة بالماضي ومُشبَعةبالبحث والنظر ...
* ويقول الدكتور محمد إقبال :
" الاجتهاد هو مبدأ الحركة في الاسلام. وتلك الحركة تعبر عن جوهر وروح الحداثة"..
فالاجتهاد ابتكار والحداثة ابداع .. وليس بين الابداع والابتكار أي فرق...

وهاهو العالم الاسلامي وقد تحرر من أقصاه إلى أقصاه منذ الخمسينيات، لكن أين هو من بناء الأمة الواحدة ومؤسساتها
واكتساب العلوم وتأمين الازدهار للناس ؟!...
بعد نصف قرنٍ نتبيَّن أن مشاريع التنمية كانت عبارة عن خطط عشوائية .. وأن الادارات فاسدة..
بالطبع نشعر بخيبةٍ كبيرة إثر هذه الإخفاقات والهزائم والانكسارات العربية الاسلامية.
لذا انصرفنا عامةً ومفكّرين بحثاً عن الأصالة والهوية والخصوصية بدل أن ننكب على إنجاز مشروعنا الذاتي للحداثة ما أضاعَ مصيرنا فيما يتعلق بمشاريع التنمية والبناء وتحسين العيش وتحقيق الكرامة الانسانية..
وهاهي الأمة الاسلامية وقد أصبحت على مفترق الطرق،ومصيرها معلق بإعادة النظر في رؤيتها إلى الانسان والمجتمع والتاريخ..
بينما في الغرب ظهرت الحداثة كتمرّد ضد الماضي وضد القيم المرتبطة بالكنيسة وترافقَ ذلك تحديث السلطة وتقييدها, وإطلاق المبادرات الفردية عن طريق إطلاق الحرية الشخصية..

و نحن! ..
ألا تهمنا الأرض ومايدور عليها من كوارث وحروب ودمار؟..
ألسنا عليها لإعمارها برفض الظلم والطغيان الاجتماعي؟..
وهذا الكون المحيط بنا، ألم يحن الوقت لفكِّ رموزه وألغازه بما يخدم مصلحتنا؟..
وهل الله خلقَ السماء والأرض والانسان عبثاً؟..
وهل العلوم والمعارف ستبقى حكراً للغرب؟!..
وهل التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري والثقافي محرَّمٌ علينا؟..
وإلى متى سنبقى في التقوقع بعيداً عن أية قدرة أو نفوذ أو وجود شأننا في ذلك شأن أهل الكهف؟..
وهل يُعقَل أن نبقى في تخلفنا لنغوصَ أكثرفي الاغتراب والعولمة؟..
ومتى سنواكب الواقع ونتطور في الزمان وفقاً لمشروعنا الحضاري الاسلامي؟..
ماهو العقل؟.. ممَّ يتشكَّل وماذا يُشكِّل؟.. ماقيمة الانسان بلا عقل؟..
ومتى سنعقِل هذا الكلام؟!..

قديماً، كان الانسانُ مرتبطاً بالطبيعة أشد ارتباط معتقداً أنها مسكونةٌ بأرواحٍ تهبُ له الخير أو الشر.. فحينما تعطي الأرض كان يحمدها.. وحين تمطر يُصلي للسماء.. وحين يحلُّ القحط ينذر القرابين
ويذبح الأضحيات للسماء أي للأرواح التي تسكنها .. بل يجسِّد هذه الأرواح بموجب معتقده أو وعيه البدائي على شكل صنم أو وثن يطوفُ حوله طالباً الرضى والخير والبركات..
إن غياب المعرفة كان وراء هذا الفكر البدائي الذي عجزَ عن مواجهة الطبيعة ..
ونحن العرب المسلمون .. نصلي ونحمد الغرب ، نطوفُ حوله، نتمسَّحُ به، ننذرُ له أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأعراضنا لنيل الرضى والقبول.. أيعمى عن الحقِّ كل البشر؟!......

ثم تطور الفكر البشري الغربي بموجب العلاقات الاجتماعية والظروف البيئية ، فانفصلَ الوعيُ عن هيمنةِ الطبيعة..
لكن الفكر العربي الاسلامي لم يتطور لأننا لا نعيش وِفقَ قوانينٍ تربطنا بما حولنا... لهذا لم ينفصل الوعي عن الطبيعة
( تأمُّل ساعة خيرٌ من عبادة ستين عاماً) بل راح يعبد من سيطرَ عليها وواجهها بالعلم والمعرفة والبحث..
أذكرُ أن البابليين برعوا في الحساب والعلوم الفلكية بسبب وجود نهر النيل وما يرافقه من ارتفاع وانخفاض منسوب المياه..
لكن هذه العلوم كانت مُحْتَكَرة من قبل الكهنة ..
وأذكر أن سقراط انتحرَ بالسم لأنه وضع فلسفته على أسس عقلية لم تقبلها وتتقبلها تلك الطبقة المستغِلة ؛
( لسنا أعضاءً لمدينتنا بل للمجتمع ككل، لسنا مواطني أثينا بل للعالم ككل )..
وأعتقد أن الحداثة ( كمذهبٍ فكريٍّ نقديٍّ معرفيٍّ فلسفي) لم ولن تتقبلها العقول القروسطية لأنها سلاح موجه ضد
هذه العقول..
فمن الجهل ، حين ننقدُ فكراً آخر، أن نجتزىءَ فكرةً من هنا وأخرى من هناك..
والأكثر جهلاً أن نحكمَ على هذا الفكر من خلال رؤيتنا السطحية دون الغوص في المعنى أو القصد الكامن وراء/ في الكلمات ذاتها..
أيُعقَل على سبيل المثال أن نقول عن السياب ونيتشه وهنري ميشّو بأنهم أكثر حداثةً من ابن رشد وامرؤ القيس والنفري ؟..
إننا حين نقيِّمُ فكراً أو شعراً أو فناً فإنما نقيِّمه بإبداعيته.. وليس بحداثته إذ ليست كل حداثة إبداع..
من هنا نلخِّص الحداثة بكلمة واحدة وهي الابداع.. ذلك الذي لن يهرم..

إن القراءة التي تنزع إلى خلق رؤية فنية وجمالية ما بين النص والقارئ ، تعمل على إنتاج قراءة بمفاهيم لا تخضع للتقليدي والنمطي، إنما للفلسفي المعرفي الذي يمس النص وسلطته المعرفية والقارئ وسلطته المعرفية ..
هذه القراءة حداثوية لأن التلقي في هذه الحالة لاينزعُ إلى تقبيل اللحى أي التقليدي السائد إنما إلى إنتاج وإخراجٍ جديد (حداثوي)..
وهذا ما أعلنه بارت في الستينات ( موت المؤلف).. وذلك لأن النص هو الأكثر أهميةً من كاتبه أو مؤلِّفه ..
أو إن المؤلِّف حسب تعبير فوكو لم يعد ذلك الاله السلطوي المطلَق بل مجرد "وظيفة" ..

نحن ( في الاسلام) ليس يهمنا البحث في الذات الالهية أو عنها إنما الوصول إلى معنى النص القرآني.. إلى جوهره والمضمون..
كذلك( في النقد) ليس يهمنا البحث في ذات الكاتب إنما الوصول إلى جوهر النص ومضمونه ومعناه..
فما من تعارض ولا تنافٍ بين الاسلام والحداثة..
وعليه؛ فالنص الحداثوي المنطلِق من وعي الكاتب وتجاربه ومرجعياته الثقافية وحسه الفني والأدبي يحتاج إلى
إلى حركة نقدية مميزة شمولية لاتنتمي إلى مذهب نقدي معين وإلاَّ أصبحَ الناقد في مأزقٍ لايُحسَد عليه..
ولأنني ( في الانسان) ليس يهمني البحث في شكله أو بيئته أو جنسيته إنما إنسانيته وسلوكياته ،
أدعوه أن يكون أكثر شموليةً وعمقاً وانفتاحاً على المطلق.. ( وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا...)

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية