محمد جبريل (المولود في الإسكندرية عام 1938م) واحد من أبرز الروائيين وكتاب القصة القصيرة المصريين في الجيل التالي لنجيب محفوظ، وهو قد نشر نتاجه في القصة القصيرة في معظم الصحف والمجلات الأدبية المصرية والعربية؛ فقد نشر قصصه في "المساء" و"القصة" و"الهلال" و"أكتوبر" و"الأهرام" (في مصر)، و"العربي" (في الكويت)، و"الفيصل" و"الأدب الإسلامي" (في السعودية)، و"المنتدى" (في الإمارات) … وغيرها. وقد أصدر سبع مجموعات قصصية، هي: تلك اللحظة من حياة العـــالم (1970)، وانعكاسات الأيام العصيبة (1981)، وهل؟ (1987)، وحكايات وهوامش من حياة المبتلى (1996)،وسوق العيد (1997)، وانفراجة البـــاب (1997)، ورسالة السهم الذي لا يخطئ (2000م)، وله مجموعة مُختارة من قصصه بعنوان "حارة اليهود" (1999م).
كما صدرت له اثنتا عشرة رواية، هي: الأسوار (1972)، وإمام آخر الزمان(1984)، ومن أوراق أبي الطيب المتنبي (1988)، وقاضي البحار ينزل البحر (1989)، والصهبة (1990)، وقلعة الجبل (1991)، والنظر إلى أسفل (1992)، والخليج (1993)، واعترافات سيد القرية (1994)، وزهرة الصباح (1995)، والشاطئ الآخر (1996)، ورباعية بحري (1997 ـ 1998م).
وهذه قراءة لقصتين من مجموعة رسالة السهم الذي لا يخطئ (2000م):
في قصة "رسالة السهم الذي لا يُخطئ" (من المجموعة التي تحمل العنوان نفسه) نرى باحثاً عربياً تؤرقه نهاية اليهود الحمر في أمريكا، فيعد دراسة عنهم، مفترضاً في البداية، أن لليهود الحمر دوراً فيما وقع بهم على أرضهم من الأوربيين الغزاة.
يقول في المقطع الأول من القصة الذي حمل عنوان «فقرة أخيرة في رسالة من ثلاث صفحات» يبدو أنها موجهة من الباحث إلى المُشرف عليه:
«لم يكن ما حدث مسئولية الغزاة وحدهم. الهنود الحمر يتحملون جانباً من المسئولية. أعرف أن التأكيد في الدراسات العلمية مما ينبغي تجنبه. الأدق ـ ولو من قبيل التواضع ـ أن نكتب: ربما، ولعل، وحسب اجتهادي .. كلمات تنفى التأكيد، وترجح، وتحمل معنى التواضع .. لكن انشغالي بما جرى، في بحث شجعتني على البدء فيه، ومواصلته، وإتمامه، جعل من عدم التأكيد على مسئولية الهنود خطأ علمياً، أثق أنك ستؤاخذني عليه ..» ( ).
ويصف السارد تسلل الأوربيين إلى أرض الهنود الحمر، وكأنه يصف تسلل اليهود إلى أرض فلسطين:
«حين قدمت السفن الخشبية الصغيرة إلى السواحل المتباعدة، أطلق السكان صيحات الترحيب. دلّوا القادمين على أصلح الأماكن لرسو السفن. أظهروا الود، وأقاموا الحفلات الراقصة، وتناثر ريش الطيور ..
رفع الجندي عصا، صوب مقدمتها، واهتزت في يده بانطلاق شرارة منها، وصوت كالانفجار. وسقط هندي ـ في اللحظة التالية ـ فلم يتحرك ..
كانوا يركبون الجياد، ويتكلمون بلغة لم يفهمها الهنود ..
تكرر رفع العصي ذات الألسنة النارية في أيدي ذوى الوجوه الشاحبة. وتوالى سقوط الهنود قتلى. طردهم ذوو الوجوه الشاحبة خارج أرضهم، طاردوهم أينما ذهبوا، وكانت بنادقهم تحمل الموت دائماً ..» ( ).
ولم يترك ذوو الوجوه الشاحبة الهنود في الأراضي التي رحلوا إليها ـ ألا يذكرك هذا بمطاردة إسرائيل للفلسطينيين في بيروت وتونس؟ ـ وهذا ما أشار إليه السارد من خلال مطاردة ذوي الوجوه الشاحبة ـ في القصة ـ للهنود الحمر في كل مكان توجّهوا إليه:
«ألفوا صوت النفير، يفاجئهم في الأماكن التي رحلوا إليها، يتصورون فيها ابتعادهم عن شر ذوى الوجوه الشاحبة، يتركون الخيام إلى مناطق أخرى يعرفونها، ويثقون أن خطوات الرجل الشاحب الوجه يصعب أن تصل إليها، لكن صوت النفير يقترب بعد فترة تطول أو تقصر، ويتكرر الفرار إلى مناطق أخرى ..
نهب ذوو الوجوه الشاحبة، وحرقوا، ودمّروا كل ما وجدوه في طريقهم. فرت ـ أمام الهجوم ـ قبائل بأكملها، استقلوا المراكب، أو ساروا على الأقدام .. »( ).
وتدعو القصة إلى المقاومة، فالنار لا تعرف الرحمة ولا الشفقة ولابد أن نكون كذلك أمام أعدائنا لأن القطعان المتناثرة تغرى الصياد باقتناصها:
« قال الإعصار المدمر :
ـ القطعان المتناثرة تغرى الصياد بها ..
ورسم بإصبعه دائرة واسعة، وعلا صوته بالغناء:
إن النار لا تعرف الرحمة ولا الشفقة
ولابد أن نكون كذلك أمام أعدائنا
وأعاد الإعصار المدمر قوله :
ـ القطعان المتناثرة تغرى الصياد بها .. » ( ).
إن القصة تدعو إلى تجمع العرب فـ« القطعان المتناثرة تغرى الصياد بها» والحرب لا يفلها إلا الحرب فـ« النار لا تعرف الرحمة ولا الشفقة، ولابد أن نكون كذلك أمام أعدائنا».
وتشكل قضية فلسطين هما كبيراً للقاص يُفصح عن نفسه في كتاباته وأحاديثه، يقول في حوار معه:
«أعجبني جدا ما شاهدته في قناة «المنار» الناطقة بلسان «حزب الله» ... ظهر على شاشة القناة مجموعة من الأطفال الفلسطينيين، هذا يقول: «أنا من حيفا» وآخر يقول «أنا من يافا»، وثالث يقول «أنا من القدس»، ورابع يقول «أنا من دير ياسين» ... وهكذا، ثم جاءوا بزعماء الحركة الصهيونية، فإذا بهم جاءوا أشتاتا من مختلف بقاع الأرض، فمن جاء من بولندا، ومن جاء من أوكرانيا، ومن جاء من روسيا ... وهكذا. فلسطين لم تكن أبداً وطناً للصهاينة» ( ).
ويقول في موضع آخر من الحوار نفسه:
«القضية الفلسطينية هي قضية مصر وقضية الوطن العربي كله. البعض يتصور أن واجب الدفاع عن فلسطين محصور في كونها أرضاً عربية مجاورة، وهذا خطأ فادح؛ لأن أحلام الصهيونية تمتد من النيل إلى الفرات، وحتى المدينة المنورة، وهذا ما يُعلنونه بكل صراحة ووقاحة، وهو مذكور في كتبهم وفي تراثهم وفي مُعتقداتهم ... إنهم إذا نجحوا في القضاء على فلسطين اليوم، فسوف يزحفون في الغد إلى الأردن وسورية ولبنان ويلتهمون المدينة المنورة مروراً بالنيل ومدينة الإسكندرية»( ).
*ومن قصصه التي تنتظر الآتي قصة «الأفق» من مجموعة «رسالة السهم الذي لا يُخطئ»، وتتحدّث عن شخص قد تقتحمه العين ولا تأبه به ـ وهو يمثل بطلاً من أفراد الشعب العاديين ـ لا يمل من تكرار صيحته التي عُرف بها، وهي: «متى يأتي المد ؟» .
وتبدأ القصة بالإشارة إلى البطل والمكان:
« الصيحة التي أطلقها الرجل، حين وقف على الصخرة الناتئة، الصغيرة، في ساحل الأنفوشي، قبالة شارع الحجاري، ذكرتنا بقدومه إلى المكان للمرة الأولى ..
لم نكن رأيناه من قبل على الشاطئ ، ولا في شوارع بحري أو قهاويه أو مساجده. قامته الطويلة، ورأسه المفلفل الشعر، وعيناه الواسعتان، الحادتان، تظللهما رموش دائمة الارتجاف، وأنفه الكبير المستقيم. يرتدى قميصاً أحمر، وبنطلوناً شمره إلى ما تحت الركبتين، فبدت ساقاه نحيلتين طويلتين كصاري مركب، وحذاء من الكاوتش ..
ـ متى يأتي المد ؟ » ( ).
وتمر أيام وشهور وسنون، وتتغيّر الفصول ومازال هذا الرجل لا يُفارقه حلمه بأن يأتي المد، وتنتهي القصة بهذه الفقرة:
« ألفنا وقفته، فلم نعد نطيل تأمل تصرفاته، ولم تعد تثير انتباهنا. ركب الرجال البحر، ينطلقون إلى الصيد، ويعودون، وامتلأت الكراسي وعلت النداءات والصيحات فى القهاوى المقابلة للموضع الذي وقف فيه الرجل، وانشغل الأولاد بلعب الكرة ومتابعة تحليق الطائرات الورقية، وعادت حلقات الذكر وقراءة البردة إلى صحن البوصيري، وتقاطر النسوة على الأضرحة ... وازدحمت حلقة السمك بالطبالى والفصال، وصف الباعة عرباتهم أمام متحف الأحياء المائية وقلعة قايتباي يبيعون الآثار المقلدة، وأقيمت سرادقات العزاء، ودارت مواكب الأعراس أمام جامع أبو العباس، وارتفعت الأعلام والبشاير في الجلوات والموالد، وأغلقت الأبواب والنوافذ اتقاء برد الشتاء وحرارة الشمس، وفتحت المصاريع لاستقبال النسائم القادمة من البحر، وصرت عجلات الترام في انحناءة الطريق إلى الأنفوشي ..
عدنا إلى ما كنا نحياه ..
ظل الرجل ـ وحده ـ في وقفته، يطيل النظر إلى الأفق، ويشير بيديه إلى توهج الشمس، وانهمار المطر، وهبوب النوات، واستواء الأمواج، ويصيخ السمع إلى ما لم نكن نتبينه، ويتحدث ـ في صوت متعب كالحشرجة ـ عن الجزر الذي لا بد أن ينتهي .. والمد الذي لا بد أن يأتي .. لابد .. أن .. يأتي .. » ( ).
والقصة أنشودة جميلة عن الحالمين بالغد الذي لا بد أن يأتي بالخير والعدل والسعادة، حتى بعد أن يمل الآخرون من ضعاف الهمة وقليلي العزيمة، وينطلقون يعيشون حياتهم الوقتية التي تعوّدوا عليها.