قبيل دخولي المدرسة الابتدائية، تعرضتُ لحادث اختطاف.كنت ألعب في الصباح أمام المنزل مع أختي التي تكبرني بثلاثة أعوام، وفجأة جاء رجل ضخم الجثة حملني بين يديه وجرى. ظننت للوهلة الأولى أنه أحد الأقارب الذين لا أعرفهم، وأنه سيدخل بي المنزل، ولكن عندما انطلق إلى الأمام، سمعت صراخ أختي سناء وصياحها الذي لم يزل يرنُّ في أذني حتى الآن (أحمد اتخطف .. أحمد اتخطف).
ثم رأيت جموعا من الجيران كبارا وصغارا يجرون وراء الرجل الذي كان أسرع منهم في العدو. وعندما بدأ الجيران يصيحون (إمسكوا حرامي العيال .. إمسكوا حرامي العيال) فبدأ آخرون يجرون نحوه، وضعني الرجل على الأرض، وفرَّ هاربا. حملني رجل من الجيران، بعد أن تأكد أنني لم أُصب بأذى، وأسلمني إلى أمي التي كانت تبكي وتلطم. خطفتني أمي في أحضانها، وكان المنزل ممتلئا بالأقارب والجيران من السيدات والآنسات الباكيات في مختلف أعمار الخطف.
أحضرتْ واحدةٌ منهن كوب ماء، لأشربه لتذهب الخضة عني. واقترحت أخرى على أمي، أن تأخذني إلى سينما محرم بك، لأشاهد فيلم "حكاية حب" لعبد الحليم حافظ، ومريم فخر الدين، لأنسى حكاية الاختطاف، ولتسرِّي أمي عن نفسها بعد هذه الواقعة.
في الساعة الثالثة رجع أبي من المصنع الذي يخطفه من أولاده يوميا، وحكوا له عما حدث، فأخذني في أحضانه، ووافق على ذهابنا إلى السينما، وكانت المرة الأولى التي أدخل فيها السينما.
بمجرد دخولي الصالة، بعد خطف ثلاث تذاكر من عاملة الشباك، لأمي ولأختي ولي، وجلوسي على المقعد، وجدتُ أمامي ستارة بيضاء كبيرة، لا يوجد عليها شيء، سألت أمي: أين سيعرضون الفيلم؟ فقالت: على هذه الشاشة (وأشارت إلى الستارة البيضاء). بعد دقائق بدأوا يخطفون الأضواء من الصالة، وبدأت الصور تظهر على الشاشة.
كنت أسمع أغاني عبد الحليم حافظ في الراديو، ولكن عندما شاهدته على الشاشة، أنكرت في البداية أنه هو. نسيت حكاية اختطافي، وأخذت أتمعن في صورة عبد الحليم وفي طريقة كلامه، وملبسه، وكنت ابتسم لكلام وطريقة تمثيل عبد السلام النابلسي.
عندما أخذ عبد الحليم والطفل أحمد يحيى يتكلمان مع أمهما الضريرة في الفيلم (فردوس محمد) عن الأرز المفلفل، أخذت أضحك بصوت عال، وكانت أمي سعيدة، وكذلك أمهما.
عندما بدأ عبد الحليم يغني أغنية (نار يا حبيبي نار) خطف صوته كل نساء وبنات الصالة فأخذن يبكين. تركتُ الفيلم، ونظرتُ إليهن، وبدأت أنا الآخر في البكاء.
عندما سقط عبد الحليم على الأرض في نهاية الأغنية، وأسدل ستار المسرح الذي يغني به، سمعت صراخا وعويلا في الصالة. وقلت في نفسي إن عملية اختطافي أهون بكثير من موت عبد الحليم. ولكن اكتشفت أن عبد الحليم لم يمت في الفيلم، وأن العلاج سيخطفه إلى خارج البلاد.
سمعت واحدة في الصف الذي أمامنا بالصالة، تقول لجارتها: هذه هي المرة الخامسة التي أشاهد فيها الفيلم، وفي كل مرة يخطفني البكاء هكذا.
منذ ذلك الحين أحببت السينما، ولكن لصغر سني لم يكن مسموحا لي أن أذهب إليها وحدي. ذات مرة سألتُ أمي: هل المطلوب اختطافي ثانية لكي أذهب إلى السينما؟ أخذتني في أحضانها وقالت: استأذن من أبيك في الذهاب مع أخيك الكبير؟
كانت هناك عدة سينمات في حي محرم بك والأحياء المجاورة له. ولكن كان أفخمها على الإطلاق سينما مترو وسينما أمير، كان أبي يحب الذهاب إلى سينما مترو مرة في الشهر، وعندما كبرت قليلا، وعرف أن بي ولعا للسينما، بدأ يأخذني معه، ولكن الأفلام التي تعرضها سينما مترو كانت كلها أجنبية. فبدأت أعشق السينما الأجنبية، ولكن عندما عرفت أن سينما الدرادور في محطة مصر (تقاطع أول النبي دانيال مع شارع عبد المنعم)، تعتبر أرخص دور العرض جميعا (تسعة مليمات) وأنها تعرض أفلام فريد شوقي. فكرت أن أتردد عليها. ولكن أصدقائي الكبار في الشارع، كانوا يحذرونني من الذهاب إلى هذه السينما بالذات. خشيت أن أُخطف في ظلام الصالة. فلم أقترب من هذه السينما أبدا.