من خلال التجارب العنيفة والمخاضات العسيرة التي تعرضت لها الثقافة العراقية أو ثقافة وادي الرافدين ، نجد أن الصوت الأدبي ظل حاضراً في تدوين الحدث ورصد التحولات النفسية والإجتماعية مروراً بحالة التقمص القسرية التي انتهجتها بعض النصوص الأدبية ، وأعني بحالة التقمص تلك ، الحالة التي أضفت الكثير من السمات الأسطورية والرمزية على ملامح النص كحالة تدوينية أفرزتها مرحلة حرجة تمثّلت بالإحداثي القمعي الذي دفع بالنص إلى الإتكاء لعنصري الأسطورة والرمز بشكل يتجاوز حالة التوظيف الفني في تفعيل موقف الشخصية الآنية مما يحدث ، وكلنا يعرف حقيقة الحدث وما ترافق معه من تسييس للكلمة الأدبية بطريقة سافرة أنتجت ما يسمى بثقافة الإستبداد. القصة العراقية عانت الكثير من التشويه الذي أصاب منجزها على امتداد أربعة عقود من الزمن ، فكانت النصوص المنتجة أما أن تكون مغيبة بسبب رؤيتها الواقعية التحليلية أو تكون نصوص معنونة لخدمة غايات سياسية فئوية ولاسيما أن السلطة الثقافية التي كانت تحتكم على الصوت الإعلامي كانت تسوق النص القصصي المسيس على أنه واقع حال للواقع القصصي مما أثّر سلباً على تكوينها الفكري الذي عكس رؤية سطحية تفتقر للموضوعية والعمق في الطرح ومعالجة القضايا الإنسانية والتحولات الإجتماعية التي يعيشها المجتمع ، ونتيجة لهذا السلوك ظهرت حالة التقمص التي مارسها الكثير من الكتاب من الذين رفضوا نظرية تسييس النص الأدبي على حساب القيمة الفكرية والإبداعية ، وبالتالي ظهرت الكثير من النصوص القصصية التي غلب عليها الطابع الأسطوري والرمزي الذي تجاوز حالة التوظيف الفني ، مما زجها في متاهات الغموض والتشكيل اللغوي المكثف .
وبنفس الوقت الذي كانت فيه القصة العراقية تعاني من التكسيح والضبابية نجد أن بعض الأصوات الأدبية التي هاجرت خارج الوطن كانت قد رسمت ملامح واضحة لوجود القصة العراقية ، ومع قلة هذه الأصوات في باديء الأمر إلا أنها إستطاعت أن تؤسس لمرحلة حقيقية وجادة في جسد الثقافة العراقية ، فكانت شخوص غائب طعمة فرمان تتكلم بحرية وتمارس الحياة برغبة تعبيرية واضحة مستحضرة الذاكرة التاريخية التي منعت من تجسيد رؤيتها داخل حدود الوطن، ومنطلقة من ذات الذاكرة بكنوزها الإرثية لترسم ملامح شخصيات قصصية غنية بإنسانيتها وعميقة برؤيتها ، منفتحة على التجارب الحياتية للمجتمعات الأخرى ، منسجمة في تدوين تجربتها الحسية والسلوكية خارج حدود التأطير والتهميش ، ومثلها كانت شخوص فاضل العزاوي التي حضرت بمشهدها اليومي ورؤيتها الساخرة التي مزجت ما بين الواقعي والتخيلي في تشكيل الحدث ضمن بيئة تراثية تجاوزت حدود المنطقية ، فكانت الشخصية تعكس همومها وهواجسها من خلال تهشيم ملامح الأمكنة المعتادة في أبراج الذاكرة ، أو بالأحرى كانت تستثمر تداخل الواقعي بالأسطوري ضمن مناخات تاريخية وتراثية ، فنجد شخوص فاضل العزاوي في قصص الهبوط إلى الأبدية بحبل تتحرّك في أمكنة مفتوحة وذاكرة مستفزة ، فالأموات يواصلون حواراتهم مع واقع الحياة الحاضرة لتجسيد فعل الموت بإلغاء حدود الزمن المعلنة ، وبذلك تتم إدانة الواقع من خلال عناصر الواقع ودونت القاصة سميره المانع تجربتها برؤية تجريدية استطاعت من خلال نصوصها أن تعكس عمق الألم الذي خلفه فراغ الوطن ، وبنفس الوقت أنتجت شخصيات ظلّت متشبثة بروحها الحضارية وجذرها التاريخي .
الملاحظة الاكثر تجلياً في نصوص القصة العراقية التي كتبت خارج حدود الوطن أنها تمسكت كثيراً بذاكرتها التاريخية ، وأضاءت بيئتها كما لو كانت تمارس الحياة بين حيطانها وفوق ترابها ، كانت نصوص مهجوسة بمحليتها ورموزها وموروثها ، ومن خلال هذا التجذر والإلتصاق استطاعت هذه النصوص أن تتعامل مع التراث برؤية منفتحة ، أي وظفت الرمز والأسطورة ضمن منطق تدعيم المفاهيم لا الإلتفاف عليها وسلبها مضامينها ، وإحالتها إلى تهميشات عاجزة عن التعريف عن نفسها ، فنجد الكثير من كتاب القصة العراقية يغوصون في بيئتهم رغم البعد الجغرافي والزمني ويشكلون شخوصهم بفطرية تعكس إلى حد بعيد أصالة قيمية وثراءاً تاريخياً ، ولم يتوقفوا عند هذا الحد ، فالتراث والتاريخ كانا بمثابة حقل مفتوح يعكس تجليات الحاضر من خلال تداخل عناصر الرفض والوجود ، وكانت المعادلة الإنسانية تأتي بثوابتها الفلسفية ضمن إطار تجسيد الفكرة بعمقها الروحي والحضاري لتسجل تدويناً آخر يكمل إسقاطات الرؤية الحاضرة ، أي كانت القصة العراقية التي كتب لها أن تلد خارج جغرافيات الوطن صادقة إلى حد كبير في تأكيد وطنيتها من خلال تجسير ذاكرة الوطن ، تلك الذاكرة التي احتوت كل قنوات الوصل مع مساحات الحضارة والإبداع ، مع تراكمات الأسطورة والتقاءاتها مع التجارب الحضارية التي عاصرتها ، فكانت حضارة وادي الرافدين ترسم تنويعات شتى في نصوص الإبداع القصصي العراقي الموسم بحس إنساني ، وكشفت تلك النصوص الجانب الغني في أساطير بلاد الرافدين ، إذ نجد الكثير من الرموز والأساطير التي كانت سائدة في أقاليم متباعدة من المعمورة تلتقي مع بعضها من خلال تكامل أدوات الكشف لمسرح الأسطورة العالمي ، وأن أساطير بلاد الرافدين من خلال نصوصها الأبداعية تشكل حلقات وصل للكثير من تلك التكوينات الأسطورية ، وهذا ما عكس الجانب الإيجابي الذي حققته نصوص القصة العراقية المكتوبة خارج حدود الوطن ، ففي قصة الوباء يعكس القاص عدنان مبارك كيف تحتفل الأسطورة التي تمثل منحوتة خشبية لزعيم القبيلة الراحل في أستراليا بتموجدها في تاريخها وكأنها عاصرت الأزمان القديمة ، وكيف أنها تتصل من حيث البناء النفسي والتاريخي بأساطير في مناطق شتى من المعمورة من ضمنها منطقة بلاد الرافدين التي تحتفل بتماثيلها هي الأخرى برؤية أسطورية تشكلت مع تأسيسات الممالك الأولى للحضارة مروراً بعصور التحدي والإنتقام الذي مارسته الآلهة حول أسوار أوروك وانتهاءاً بتجليات التماثيل التي شكّلت صورة القمع في ذاكرة ذالك الطفل الذي أشار بيده صوب تمثال كبير مستفهماً .
تفاعلت القصة العراقية المنتجة خارج حدود الوطن بإيجابية مع التجارب الإنسانية من خلال إنفتاح النص وتفاعله مع التجارب الحياتية ، وأثرت اللغات الأخرى بمناخاتها وصورها على ذائقة الكتاب الذين مارسوا فعل الكتابة والترجمة في آن ، وبدت النصوص المنتجة خارج حدود الوطن تتميز بنكهة تمتزج فيها المفاهيم الإنسانية التي تعكس تأثراً عميقاً بأصالتها الحضارية مع النظرة التحليلية الواعية ، النظرة التي ترتكز إلى رؤية صادقة في تجسيد الفعل الكتابي بعيداً عن أدوات القمع ، وبذلك شكلت صوتاً إنسانياً واضحاً تفاعل مع المتغيرات السياسية والإجتماعية التي شهدتها البيئة العربية عموماً والعراقية خصوصاً بشكل إيجابي وموضوعي ، فكانت النتاجات القصصية التي كتبت في الخارج تمثل وثيقة إدانة لكل ما يحدث على أرض الرافدين ، وكانت متناغمة مع حرارة الذاكرة الحاضرة أبداً في معظم النصوص ، ففي مساءات القاص كاظم الشاهري كان الحدس يتجاوز كل أسيجة الإستلاب ، فكان النص يدمر كل الحيطان والحواجز المرتبة سلفاً ، ليعكس صورة حية لشخصيات حقيقية تمارس الحياة بكل تجلياتها ، وبذات الوقت تستنكر الرموز التي شكلها الواقع المزيف الذي مثلته ثقافة القمع أو سلطة الثقافة ، وبقدر ما كانت الخطوات محسوبة في ذاكرة القاص العراقي الذي كان يمارس حدسه في تغريب النص ضمن بيئته وهو محاصر بأسيجة اسمها الوطن .
وفي الوقت الذي كانت فيه الشخصية القصصية في سلطة الثقافة تمارس التغريب في محاولة لنفي تهمة الواقع والتلبس بمفاهيم فانتازية تحاكي الناس والمجتمع من خلال طروحات سياسية تحاول تجنيد الأدب في تدوينها ، كانت الشخصية القصصية في أدب الخارج تجاهر بمفاهيمها التي تتجذر في واقعها ، ففي نصوص القاص عباس خضر يمتد الزمن في ذاكرة الشخصية ليبدأ من عهد الأسطورة والمعبد مروراً بأقانيم بلاد النهرين التي تؤسس لتجربة إنسانية تتجاوز حدود جغرافياتها الوهمية ، وبالتالي فالشخصية تستثمر كل الإرث الحضاري لمجتمعات المعمورة في تدوين مكونات حلمها الإنساني ، وكأن العالم يدور في أفلاك متعددة تمثل الشخصية القصصية في نصوص القصة العراقية المكتوبة في الخارج محوراً لها ، ولا يني القاص محسن الرملي في تأكيد ذات المعنى من خلال تأكيد مفاهيم الوجود والإنتماء ، والمزج ما بين الرؤية التهكمية لواقع مستلب حد المفاهيم ورؤية ترسيخية لتلك المفاهيم ، ففي تجواله ما بين الأندلس وموانيء البلاد العربية يخبرنا أن الشخصية كانت تتكلم عن نهارات بغداد وتموز بغداد وأمزجة الكهنة في بلاد سومر وترانيم الفلاّحين في مستنقعات الفرات الأوسط ، ويتجلى ذلك التجسيد من خلال امتداد عمق الرؤية التحليلية للشخصية القصصية التي بدت مفعمة بالحياة والنشاط إلى الحد الذي دفعها أن تقول كل شيء عن الواقع المعلن والغير معلن برغبة جامحة لتعرية الأمكنة و التواريخ والوجوه المتوارية وراء شعارات صنعية أو وهمية ، وفضح ما يدور خلف ستائر المسرح الأيديولوجي النفعي الذي كرس الثقافة لتدوين الغطرسة ورسم بوسترات لنظم فكرية وسياسية مقحمة في تاريخ مجتمع سجل مراراً عدم انتمائه إليها برفضه لتلك التدوينات والفلسفات التي تعمد إلى تهميش الحس الحضاري للفرد المسكون بواقعه وحريته وإنسانيته ، ونحى القاص علي السعدي منحى من سبقوه من كتاب القصة العراقية المحكوم عليهم بتسجيل تجاربهم بعيداً عن موطن ذاكرتهم ، فراح يستحضر الواقع من خلال تشكيل الماضي بملامحه الأسطورية ليرسم شخصيات قادرة على تجاوز عقبات الممنوع واللامسموح في عرف الثقافة السلطوية ، فوظف الأسطوري بكل إحادثياته لتدجين الواقع المشاكس ، الواقع المقموع بصيغته الفعلية المعلنة ، وكذا القاص علي السوداني الذي سخر من حكاية الواقع تلك فدون نصوصه من خلال رؤية تسخر من كل شيء لتؤكد كل شيء ، رؤية تستفز اللون والترنيمة المزيفة ، ففي قصصه التي تحمل عنوان المدفن المائي وتواصلاً مع كتاباته الأخيرة يؤكد رؤيته التي تحاصر الواقع بأسئلة كثيرة ، أسئلة إدانة ورفض تارة وتأويل تارة أخرى .
ومن خلال سياسة إنفتاح النص القصصي التي مارسها معظم كتاب القصة العراقية في الخارج يستثمر القاص نصرت مردان التراكم الإرثي الذي يمزج ما بين الديني المقدس والقبلي الصارم لرسم صوراً لشخصيات محشوة باليقين حد السذاجة بقدسية ما هو كائن وموجود ، عاكسة رؤية محمومة لما يجري الآن في واقع المجتمع العربي الذي يتكىء إلى حد ما في إرهاصاته التراثية إلى الحكاية والملحمة التي تخدم الأغراض الدعائية أكثر مما تخدم التدوين الفكري لمخططات حضارة كانت قائمة ومتفاعلة ، ويحاول من خلال شخصياته القصصية أن يوصلنا لنتيجة الإحباط والفشل التي طوقت الشخصية الإنسانية في دخيلة الفرد العربي ، فكانت المفارقة ما بين الحلول اللامنطقية وسلبية النتيجة ، وبكل وضوح يتجاوز القاص نصرت مردان تحديدات السلطة الثقافية الفاشية ليرسم لنا ملامح الشخصية الحقيقية ، الشخصية المطوقة بالمعاهدات والوعود ، الشخصية المفزوعة من كثرة التراكم اللامجدي ، أو بعبارة أخرة الشخصية المستلبة من كل شيء ، والمتداعية بإنطواء نحو دواخل مريضة غير قادرة على تسمية صوتها .
في محاولته التي تكشف عن عمق الفجوة التي أنتجتها نظرية تسييس النص المتبعة من قبل سلطة الثقافة ، يعكس لنا القاص سعد هادي في قصة الأسلاف في مكان ما حالة الخواء النفسي والروحي التي أنتجتها عقود القمع ، وحجم الخراب الذي أصاب المنظومة الفكرية لمجتمع تأصلت فيه التجارب الإبداعية ، وتبرز الرؤية التي تؤكد صراع المفاهيم والقناعات من خلال تجسيم المكان ضمن أبعاده التاريخية والنفسية والإجتماعية ، وتجريد رؤياه التي تتسلل لتكشف كل المساحات وراء هذا التراكم ، إضافة لإظهار صورة الرحيل بين وجوه المكان الواحد ، المكان الموسم بعناوين مراحله ، المقهى الذي يحتكم على شهادات تاريخية تؤكد عمق الرابط بين هذا الإنسان المستهدف من قبل قوى التهميش والهيمنة ، وتداعيات الحلم الغارق في تأويل الواقع ، ومن هنا نستطيع ان نستنتج أن القصة العراقية في الخارج كانت ترصد كل المتغيرات والهواجس التي تنتاب ذاكرة الفرد العراقي ، الإنسان المنخرط قسرياً ضمن دوامة تسقط تاريخه وحضارته على مسميات مزعومة لتتجاوز حضوره ومكونات تشكله إلى شعارات أيديولوجية مستوردة من تجارب فكرية مبنية على فكرة الهيمنة والإستلاب ، فكانت القصة العراقية في الخارج واعية لرصد مثل تلك المحاولات ، وكانت مستفزة دوماً للتعريف بالوطن الأم ، الوطن الممتد في بطن الحضارة والتاريخ ، واستثمر كاتب القصة العراقي في الخارج المناخ المشفوع بحرية فكرية وانسانية فعمد إلى تدوين مأساته لتكون حاضرة في ديوان التجارب الإنسانية الأكثر بروزاً في العصر الحديث ، ويكاد ينحوا معظم كتاب القصة العراقية في الخارج منحاً متشابها ً في تدوين المأساة بكل الأدوات الفنية المتيسرة لديهم ، وبالفعل استطاع هؤلاء الكتاب أن يقدموا نتاجاً قصصياً غنياً بأساليبه الفنية وراقياً في المستوى اللغوي الذي يعكس حقيقة احتفال القاص العراقي باللغة التي يعتبرها من السمات المميزة للعمل الادبي ، كذلك أجادوا في توظيف الأساطير والرموز بطريقة تحترم كل من النص والرمز ، وهناك الكثير من الأسماء الجديرة بالأهتمام والتي لا يسعنا التطرق لإبداعاتها في هذه الدراسة ساهمت في تدوين الصفحة المشرقة للقصة العراقية التي كانت الصوت والشاهد على أحداث العصر ، وختاماً أستطيع القول أن القصة العراقية بنخبة أسماء كتابها استطاعت أن تتحصل على عدة منجزات على مستوى السرد القصصي ، فمن التحرر والإنفتاح مارست القصة العراقية مفهوم التأويل ، كذلك حرصت على إستحضار ذاكرة الوطن ، تناولت التاريخ والحضارة ، وظّفت الرمز والأسطورة ، تبنت الرؤى الفلسفية في تحديث مفاهيم الوعي كسلوك تطويري ، شخصت الإحداثي القمعي وتبنت وجهة النظر التي تدعم المفاهيم الإنسانية .