مقتطفات من وثائق شخصية للأديبة الراحلة أروى صالح تقديم عزة الوكيل
فى الوثيقة رقم < 1 > كتبت أروى صالح :
القاهرة فى 15 ديسمبر 1988
عزيزى <.....>
باكتبلك و أنا مش متأكدة انى حاكمل الجواب ده ,
لأنى مش متأكدة انى قادرة على الكتابة دلوقتى , المشكلة الحقيقية فى الكتابة دلوقتى انى مفتقره لما يكفى من العاطفة عشان أكتب ,
لما بتكتب بعاطفة بيتفجر الاكتشاف و يسبق الفكرة المجردة بالحدس الفذ , الموجود
عند كل انسان لو عرف يلقطه , فى اللحظات دى ما بتفكرش , و متلحقش تفكر ,
حتى فى شكل التعبير المنهمر على السطور فى كلمات قابضة على الحقيقة الحية
بتسطع فيها زى الجوهرة .. حقيقة ماكنتش متعرف عليها أبدا قبل ما تطلع متبلورة
زى النبوءة !
فى الفترة الصغيرة اللى ازدهرت جوايا مشاعر ناحية <.....> اللى اضطريت
أقتلها قتل , كانت المشاعر العذبة الحنونة و هى بتتفجر بعد موات طويل , بتفتح
معاها أبواب الاكتشاف و الرؤيا الحدسية الرائعة دى لما تشف و تبصر بحده
لا تعرفها فى الأوقات القاحلة , و يزدحم وجدانك بالأخيلة و الأفكار الملهمة ..
مع ان كل ده ما مكنيش أشوف هول القسوة اللى واقع فيها <.....> ..
يا ترى ازاى ديستوفسكى كان قادر يشوف كل ما ينطوى عليه البشر من رقة
و من قسوة فى نفس الوقت ! ده صعب قوى يا أخى !
< مش يمكن ده السبب فى انى ما انفعش كاتبة ! .. اوعى تصدق دى نكته
ع الماشى لكسر الرومانتيكية > ..
و بعد <!> .. نهاية درامية لتجربة <معركة أخيرة فى الشغل> وضعتنى وجها
لوجه أمام الأسئلة التى كانت تراكمت حول الى أى مدى قدمتلى هذه " الحياة "
منجى من قدر العزلة عن الحياة ؟ .. و ثانيا , و هو السؤال الحرج , بل المخيف
شوية بالنسبة لى الى أى مدى " تجاوزت مشاكلى " القديمة , و حليت المعضلة
اللى طوحت برؤوس كثيره , معضلة العثور للحلم الرقيق على قدمين راسختين
فى أرض البشر الواقعيين , العيانين , اللى مضطرة أعترف ان لسه أذاهم
بيوجعنى أكثر ما خيرهم بيدفينى ! أو , بعيدا عن التعبيرات الشاعرية ,
هل أفلحت بعد كل الرحلة الطويلة الشاقة دى , فى أن أصبح كائن صالح
للتعامل مع العالم الواقعى , دون أن يفقد اما توازنه و اما حلمه ؟
... على امتداد العمر, اللى بقى طويل دلوقتى, كان دايما بيحمينى و يصونى من السقوط "يقين" بيربطنى بالبشر اللى بيفزعونى و هم كائنات حية باتعامل معاها فى الحياة اليومية مستمد من العلاقة مع أخطر منجزات البشرية, رأسا! ... ديستوفسكى قدملى و أنا مراهقة أول يقين ان عذابى مفهوم و مبرر, و لعله كان أول صك انتماء لطفلة, شىء ما فى ذلك المحيط الهائل المسمى بالعالم يثير ذعرها ... حتى الدناءة فى الروايات دى بتثير بفضل عبقرية مشاعر عذبة, بل جميلة ... بس ما كانش فيه حد يقوللى فى الوقت المناسب ان المسافة بين الجمال العبقرى ده و الأصل الواقعى, ممكن تتقصف فيها رقاب.
و يمكن من اللحظة البعيدة القديمة دى بدأت ترتسم ملامح قدرى الخاص, ان رابطتى الأكثر حقيقية بالواقع, تبقى الايمان الصلب بأجمل ما أنتجه البشر و هم يحاولون اكتشاف حلمهم و صنعه ... نقيا, ناصعا, و مبرأ من وساخة هؤلاء البشر أنفسهم! اللى كنت عاجزة فى العلاقة المباشرة معهم - بدون واسطة - عن تفسير لغزهم, فضلا عن التعامل معهم, فاقدة أبسط روابط الثقة بهم ... و كان الواقع مصر على السخرية من ايمانى الحصين فى قلاعه الخاصة, الحقيقية جدا رغم كل شىء, و اللى كنت باجرى أحتمى بأحضانها من قساوته كل ما تعضنى.
لكن الى أى مدى "الوصفة" دى ما زالت صالحة انها تمشينى؟ ... "الواقع" حكم بانها ما عادتش كافية <و يظهر ان الواقع هو اللى له القول الفصل دائما فى آخر المطاف> لانى بقالى سنة بالتمام و الكمال مش قادرة أقرأ!! و رغم ان فضولى للمعرفة ما انتهاش, بالعكس لكن "السلام" اللى كنت مطمئنة دايما انى حا لاقيه فى القراية, ما عدتش قادرة أبحث عنه فيها, و مش عارفة هل السبب فى ان الصيغة دى اللى ربما تكون بتحولك الى متأمل صرف لم تعد قابلة للاستمرار, و لو بحكم المرحلة دى من العمر؟ أم ان السبب فى الحرمان الطويل, العريق, من الدفء الانسانى الكافى لبعث الاطمئنان و القوة فى القلب, ليجترىء على مصاعب رحلة الكشف و التمرد... انه جف خلاص و ما عادش قادر يقتات على فتات قديمة, معظمها كان - فى الواقع - أوهام اتحطمت, كأن قدرتى على الاستمرار بعد الصدمات, كانت هى القدرة على تجديد الوهم! ... كنت دايما باعزى نفسى بالظن بانى أخطأت السبيل لمقصدى, و أواصل البحث محملة بنفس الأوهام غير منقوصة, عن الجمال
فى بشر غير اللى عرفتهم, و فى النهاية, لما باتطلع داخلى مش لاقية غير مقبرة جماعية.
يا ترى هو ده السر ورا احساسى الدائم, المسبق, الدفين بالعجز؟ ...
أنا عايشة الحياة حقا كحدوتة من حواديت الأطفال, فيها الأشرار اللى لازم يدفعوا الثمن فى الآخر, و فيها الطيبين اللى باحدف نفسى عليهم, و لما يخذلونى و يظهر فيهم وجه شرير, أتخبط فى ذعر بحثا عن معين ... ما كنتش قادرة أفهم الناس أبدا لأنى باقرب منهم و فى قلبى من الخوف ما يعجز عن أى فهم! و لأنى فى نفس الوقت باقرب برغبة عارمة فى التسليم, تسليم نفسى كلها, و عشان كده اللى كان بيتأذى كان نفسى كلها!.
أنا كنت با طلب من الناس الكثير اللى أنا فاقداه, بابحث عندهم عن سند يصلب الانكسار فى داخلى, و باطلب من كل قادم جديد أن يطيب الجرح اللى خلفته الخيبات السابقة, و بتتكفل بتجديده الخيبات المحتومة اللاحقة ... و فى كل ده با كشف نفسى و جرحى" بصدق" مبعثه الحقيقى الاستغاثة من جرحى و نواقصى, اللى من فرط استغراقى فيهم ما انتبهتش ان "الآخرين" أيضا مجروحين و مش كاملين, زيى! ... "الناس" كمان, كانت بالنسبة لى مفهوم مطلق, "الانسان" بالغ الجمال و الكمال, اللى قادرة أسلم انى مش قده, لكن مش قادرة أفهم و لا أسامحهم هم على انهم مش قده!.
عزيزى <....>
انتوا بتطلبوا منى من الجسارة و من القدرة الانسانية ما لا أملكه ... الكتابة عايزة وجدان خصب, أما أنا فمن أى معين أجلب, من ندوب؟! أنا لم أعرف الناس, و انما عرفت فقط خوفى منهم, و الخوف شعور فقير, و طبعا مش ملهم ... و هنا أقدر أدخل "التاريخ" عشان ما ابقاش ظالمة مع نفسى, و أقول أنا أيضا "بطل من هذا الزمان" الرمادى على حد تعبيرك, و أقدر أراجع معاك الفترات اللى كتبت فيها, و هى مش كتيرة , بالتحديد لان كان فى "زمنها" شىء ملهم ....
1- فترة كتابة المذكرات من سن 16 : 18 هى فترة 68, فترة القلق الخصب الباحث عن طريق, اللى أجهضت على حد رأيك الصائب بعد 73.
2- فترة 73 , الكتابات السياسية , حين بدا أننا أخيرا نعثر على الطريق, و كذلك أنا, و اتضح أنها "حلاوة روح" لكلينا.
3- و أخيرا الكتاب اللى كتبته فى الخارج و أنا لأول مرة باحلق بعيدا عن مشوار القبح الطويل فى السياسة, و أسبح فى جمال صافى بلا أعباء, بلا ثمن من النوع اللى تعودت أدفعه, ثمن انفضاض الوهم … لكن هنا أيضا كان ينتظرنى ثمن, ثمن القفزة من الارهاق الطويل, ارهاق عمر مثقل بتأملات فوق طاقته, و محكوم عليها بالعقم لأنها سجينة الخوف, و لا تتنفس بما فيه الكفاية, الحياة … بالذات لأنها قفزة, كان لازم أفقد التوازن اللى كان مفتقد فى الاتجاه الآخر … و خطر ببالى, و كان لازم يخطر, انى أتطلع للماضى بتشفى, و كتبت كتاب بالغ الشاعرية و مسموم, و ما كانش فيه مفر انى استنشق بخار ده كله … أنا دلوقتى معنديش أى شك فى انى لما كتبت الكتاب ده كنت فى حالة و ان كتابته كانت هى السبب الأساسى وراء اصابتى بحالة الشيزوفرينيا المؤقتة اللى جت قرب نهايته <معذرة انى استطردت تانى, بس دى كانت نقطة محيرانى لغاية دلوقتى>.
الجمال المحلق ده, اللى مالوش صلة بواقعى الكئيب, جه على هوايا, و طبعا كان فيه مقتلى, فهل أبحث عنه اليوم مرة أخرى, مع فارق, انى أعرف! أعرف انى باصدر حكم نهائى ليس فقط على علاقتى بالشيوعية التى أحبها من أعماق قلبى <و ان يكن أيضا- ربما كمفهوم مطلق فقط!> بل و على علاقتى بالكتابة, و بالبشر القليلين اللى بيربطونى بواقعى و أهلى … باصدر حكم نهائى فى الحقيقة على نفسى, و أنا لسه يا دوب بابتدى أتعرف على الدنيا؟ … متهيألى المفارقة دى نفسها, أصدرت الحكم بالفعل … أنا اتأخرت قوى, و جاية ابتدى فى زمن ليس فيه ما يكتشف, مافيش خيط جمال أمشى وراه, و ابقى مستعدة أدفع ثمنه … لكن حتى لو كان فيه, هل بقى لدى, بعد كل الرحلة المنهكة دى <دون أن يكون الانهاك ده ذنب حد> ما أدفعه, مهما كان جمال "الوعد"!.
أنا فعلا ما راودتنيش لحظة ندم على الطريق الوحيد اللى بيفتح أبواب اكتشاف العالم من جديد … لكن اللى حصللى على مدى المشوار, كان فيه شىء فوق طاقتى, بالتحديد لأنى كنت فيه فى الواقع وحيدة … كل أحلام العالم لا تغنيك عن لحظة الدفا اللى يقدر يديهالك وجه انسانى, كانت دى "اللمسة الأخيرة" عشان تكتمل الهوة السحيقة اللى بتفصل أحلامى عن واقعى … و لما يكون الحلم الخاص اللى أغراك و جرأك على الرحلة دى, "الوعد" اللى كان بيلوح فى آخر الطريق هو الرغبة العارمة فى التواصل الانسانى, تقدر تتخيل قد ايه كان ثقيل حمل الهزائم على كتفى الوحيدين, و أنا باحاول أكمل رغم الاصطدام المتكرر!.
< أروى صالح >
و فى الوثيقة رقم <2> كتبت أروى صالح :
عزيزى <….>
أنا بقيت منسجمة مع التوحد, كل ماضيا و خبراتى بتتصاغ دلوقتى و تلتحم فى موقف نهائى من الحياة و من الآخرين … الخبرات المريرة "اللى قتلتنى" بقيت فاهمة دلوقتى انها ببساطة ثمرة قسوة الحياة نفسها فى مجتمعات ميتة, و وصلت من زمان مرحلة اللاانسانية <<سبحان الله, الواحد يدفع عمره عشان يكتشف بديهيات!>> … أنا كنت باطمح لحياة جميلة و مليئة, و للفرار من قدر الملل جوه بيوت الطبقات المتوسطة, و فى كل مرة كان بيتحطم الحلم ده, و يسيبنى ركام وراه, كانت دهشتى بتعادل عذابى, ليه أنا بانأذى, مع انى مش عايزة أأذى حد, بالعكس, عايزة علاقة بالناس توصل لدرجة الاندماج الكامل! <ما كنتش عارفة ان ده بالذات , كان كعب أخيل>, لكن دلوقتى سلمت بان "الفرار" ده مستحيل, بالظبط زى ماهو مستحيل خلق يوتوبيا من الجمال و العلاقات الانسانية فى مجتمعات ماهياش انسانية, كان من العدل ان الحياة تسخر بقسوة من أوهامى, اللى فى الحقيقة لا تخلو من أنانية, أنانية الرغبة فى تفادى القدر المأساوى اللى بيلف حياة الغالبية العظمى من الناس, و اللى بتفرضه عليهم الأقلية المالكة فى كل مكان فى العالم بايد من حديد.
< أروى صالح >
تعليق بقلم عزة الوكيل:
الجواب الحرج , بل المخيف كتير بالنسبة لى هو أن " أروى صالح " لم تستطع
أن تتجاوز مشاكلها و حلت المعضلة بالرحيل عن " الحياة " هربا من أرض
البشر الواقعيين , العيانين .. لم تحتمل وجع أذاهم .. لم تفلح بعد رحلتها الطويلة
الشاقة أن تتعامل مع العالم الواقعى , فاختارت الرحيل بحثا عن حلمها الرقيق
و احتفاظا بتوازنها .. فهل يا ترى وجدت " أروى " حلمها الرقيق و انتصرت
فى نهاية معركتها مع الحياة !
لم تستطع أروى أن تخرج من حواديت الأطفال الى واقع الحياة و تتعايش ... لم تستطع أن تسامح "الناس" و أن تغفر للانسان عدم بلوغه الجمال و الكمال ... فقررت أن تقتل خوف قلبها و أن تضع حدا لشعورها بالعجز و تأذيها من الخذلان السابق و اللاحق ... فى لحظة قد يسميها البعض يأس و البعض كفر و البعض قد يرى أنها منتهى العقل و البعض أنها ربما فقدت عقلها ... ترى ماذا لحق بأروى بعدما أنهت حياتها ... بعدما لم تجد سندا أو سببا فاسلمت روحها متخلصة من جروحها و خيباتها و نواقصها ... أنا أيضا يا أروى وجدت أن الطفولة ببرائتها و خيالاتها و احلامها تختلف عن واقع الكبار فى يوم ما فكتبت هذه الكلمات و اهديها لك حيث أنت ... فهل تستطيعين قراءتها؟
فى صغرى,
كنت أتخيل فى صغرى أنى اصطاد بشباكى النجمات و الأقمار
و أزين بها قصور الرمال ...
أنى أزرع الورد فى الصحراء و البساتين فوق الجبال ...
أنى اجتاح اليم بمراكبى و افرد اشرعتى
و انتشل الدر من اصداف البحار ...
لم أكن أعلم أن للكون مدار
و أن السحابات كانت بخار
و أن الموت نهاية الأعمار
و نفذت أروى خطة الفرار الممكن … الانتحار بحثا عن الجمال و هربا من واقعها الكئيب … اصدرت حكما نهائيا بنهاية كل شىء و رحلت … لكنها بقيت فى ذاكرتى رغم أننا لم نلتق أبدا و لم أسمع عنها الا عندما نشرت الصحف و المجلات حادث انتحارها منذ بضعة سنوات …. لم أقرأ لها سوى مذكراتها التى اسعدنى الحظ مؤخرا أن أحصل علي نسخة منها لأتعرف عليها و أعيش عذاباتها و اشاركها معاناتها … صدمتنى أروى بانتحارها و أتعبتنى بقراءة كلماتها … آسفة يا أروى أنى لم ألتق بك لأربت على كتفيك و أحاول أن ازيح عنهما حمل الهزائم الثقيل … آسفة لأنى تأخرت فى التعارف عليك … ربما كنت استطعت أن أساعدك فى تحقيق حلما من أحلامك أو على الأقل أواسيك لعدم مقدرتك على تحقيقه …