( لغة الجمر) مجموعةٌ شعريةٌ صدرتْ عن دار المقدسية للعام /2001/ في 160 صفحة من الحجم الصغير و تضم 23 قصيدة..
قدَّمتْ ليلى لمجموعتها بهذه المقولة لابن عربي( دواؤكَ فيكَ و ما تعلمُ، وداؤكَ فيكَ وما تُبصرُ، أتحسبُ أنكَ جِرمٌ صغيرٌ، و فيكَ انطوى العالم الأكبر).. هذا الانعطاف الصوفي إلى جانب الحكمة و التأمل الفكري نُعرِّجُ عليه في المجموعة من أول كلمةٍ حتى الأخيرة فيها...
في قصيدة " سيدة التكوين" كتبتْ ليلى:
" هات يدكَ، كرقة نسمة صيفٍ،تلمسُ معي، قلوباً وديعةً بالطهر، قل للملأ، النور باقٍ معكم قليلاً،فامشوا، مادام لكم النور، لئلا يدرككم الظلام"..
إنها دعوةٌ للانسان لمواصلة البحث عن سر الوجد الروحي بغية اكتشاف حقيقة الوجود قبل أن يلفَّه الظلام,فما يزال هناك ثمة نور ـ بصيرة يستطيع من خلالها أن يواصل الانسان المبصِرُ طريقه في هذه الحياة الشديدة الحلكة..
و في قصيدة " سيد العبور" كتبتْ
" يا سيد العبور،وجهي وجهكَ، الباقي تجاعيد،كغيمةٍ ممسوسةٍ،بفرح احتضار مطر تموزي، أشعل ما تبقى من يقيني، على مدار غصنٍ مرصَّعٍ بفجوات الرغبة"..
لعل القصيدة بأكملها تصور ارتداء لحظةٍ شعريةٍ عبَّرتْ عن جمالية العمق الابداعي الذي فلسفَ الفكرة حين منحها أبعادها الجمالية لدى المتلقي..فالغيمة و المطر و الغصن جميعها
ترمز للحياة بل و تمنحها يخضور الاستمرارية..لكن ليلى قامتْ بتعرية هذه الحياة بغية
إظهار الجوهر الحقيقي من ثبات ـ الباقي تجاعيد ، من حركة ـ العبور، من نار ـ أشعل،
و من ماء ـ مطر تموزي...
أما في قصيدة " فيوضات الاشراق"
فقد استحضرتْ الحلاج و الشبلي و النفري و الشيرازي و الجميع من الزاهدين الواصلين لتجليات الذات الالهية و اشراقات الوله الصوفي...
ها هي تطوف في دوائر خلواتهم لتكشفَ لنا لذة تذوق الوصل و أسرار الواصلين و نشوة الفيوضات...
" و النفري ـ الباطن الكاشف، له آياتٌ و سبحات، استوقفتْني آلهات فجره،أضائتني قالت لي: الجهلُ حجاب الرؤية، و كلما اتسعتِ الرؤية ضاقتِ العبارة، قلتُ:زدني،قال:في سرِّي،
سل عن كلِّ شيء، و لا تسألني عني.."
تبين تلك القصيدة أحوال الصوفيين و غاياتهم و ملامحهم ، و كما هو معروف فالصوفية هي تصفية القلوب من الضغوطات الذاتية..و غايتها المعرفة ـ الجهل حجاب الرؤية،
و كذلك إيقاظ الفكر و إعماله للإتصال بالوجود المطلق ـ سل عن كل شيء، حيث الاستغراق فيه..
يقول الشبلي:
رآني فأوردني عجائب لطفه فمتُّ و قلبي بالفراق يذوبُ..
هكذا.. و يظهر الابداع الحق في جمالية الكشف المرتكزة على فكرة الصوفية التي نقلتْنا إلى عالمٍ يستجمعُ الكون في ذاته حين نصغي لنداء الروح و المعرفة الماورائية...
في قصيدة " ترهل الرضى"
استحضرتْ ليلى الجنيد و تحرقاته حباً بالذات الالهية و شوقاً إليها..
" التففتُ حول الجنيد،هدب النار يتَّقد، سبع دورات في طوافي، مدَّ لي سلة خبز يابسة،
قال: خذي لقلوب بشر، تائهةٍ، في تيه عذاب ذاتها،رغيف الغفران"..
و الخبز اليابس يعني قلة الطعام و ذلك آيةٌ من آيات الرضى لدى الصوفيين، إنه رغيف الغفران الذي ينقذ البشرية من الضياع و العذابات،
فالشفافية و الصدق و التحرر من الشهوات و حواسَّاً فوق الخمس لا ينسجم إلا مع القليل من الخبز بغية المحافظة على فكرٍ يقظٍ و بالتالي توجيه الذات إلى الغاية ـ الاتصال بالرب..
في قصيدة " انعطاف"
" و أحببتُ فيكَ ، وجع البجع يحبو ، على أقدام حوريات البحر،رجرجَ الموجُ ايقاعه،من فرحي من حزني"..
هل بقي وجدانٌ أشفٌّ أو حسٌّ أرهف أو ذوقٌ أجمل مما ذكرتْه ليلى فيمن تحب؟..
و يفيضُ وجدها فتشطح بتلك الانعطافات الغيبية و التي بدورها شطحتْ بنا إلى غيبة الاستغراق في اللاوعي الواعِ..
و في قصيدة " اخترْ ما تكون"..
" اخترْ ما تكون، كاهنة الانتظار، دمع شموعها كجرحٍ سال، على مرمر وهج الروح، أرشف شرارات الحريق، أتدثَّرُ بالبرد، لوليمة الخشوع.."
ها هي ليلى ..مشتْ في طريق الضوء ـ وهج الروح، إنها صابرةٌ و زاهدةٌ في نفسها تدثرت بالانقطاع عن الناس إلى مائدة العشق الإلهي ـ وليمة الخشوع، حيث عجائب اللطف
و المحبة..
و في قصيدة " لغة الجمر" كتبتْ تقول:
" ضعْ لي قليلاً أو كثيراً، من رقة حنان الزنبق، شجرتي، التي كنتَ تألفها،تبكي،تجعَّدَ خريفها، تُساكن ما تبقى من الوقت بيننا، أساكنكَ هروباً من ذاتي، يستهويني فرحنا المهدل،
على خدِّ فجرٍ مورقٍ..".
هذا السكون الابداعي ـ تسكن وأساكنكَ، اتخذ مساحةً تشكيليةً في تعبيرها الأجمل الذي
من خلاله استطاعتْ ليلى سبر جوهر مشاعر الوقت بتلك المساكنة ـ الهروب من الذات و إليها على أجنحة الرغبة لارتشاف الألم و الوجع الانساني ـ فرحنا المهدل...
و بتلك الحتمية في تعرية الزمان ـ خد فجرٍ مورقٍ...
أما الزنبق و الخريف و الغصن و الشجرة فقد ساهمتْ جميعاً ببناء وادي الشعر المقدس الذي انفردتْ ليلى بدخوله...
في قصيدة " احتضار وردة"..
" لا تذرف دمع الندم، محرقةٌ نذور أحاسيس لكَ، كانت عذارى وفاء، لن أغني، من بهو أهازيجنا، غير أغنية التوحد ، لقد تهشَّمَ صوتي..".
هي دائماً ليلى التي عوَّدتنا على مكابدتها بالوقوف على عتبات الكون لمناجاة و مناداة الحبيب بشفافيةٍ و شوقٍ يطفحُ كلٌّ منهما من أعمق أعماق غنائها الميتا حسيّ لكنه الموغل في العشق إلى درجة الغيبية ـ لقد تهشّم صوتي...
و في قصيدة " وهن الوقت"..
" و شمْتني بلدغة العشق، حفرتَ تضاريس نبضي، ما بين شروقٍ و غروب، زاغ قلبي في لجّة الحب،، غلغلْتني بشكوكِ حزنكَ و حزني، أضمرُ الانتظار"...
إنه العشق أولاً وأخيراً، ذاك الذي يعصف بالروح فيجعلها من دمع الحلم تورق أملاً يدعمها لمواصلة الانتظار..
هو نبض ليلى بين غيث الشروق و قحط الغروب و قد أدمن جمر اللغة و الابتهالات...
قصيدة " إلى الأكثر من أمي"..
" خريفٌ غدَّارٌ، شطبَ أنوثتها، قفَّلَ معنى سرها، تمطَّى التعب على نهر عشقها، خرخرة دمعها، كحرون أطفالٍ صغار..".
هي الأنثى الأولى، عشتار الحب الخالد بطقوسه السرية الخصبة و ربيعه الأبدي الذي مرَّ عليه ثمة تموز ـ خريفي، عميق البرودة و القسوة مقترفاً فصول الغدر و الخداع..فكان الهروب الدائم للحب و الربيع، وكان المحو للجمال...
و من قصيدة " خضرة قلب"..
" ثمار جراحي،تمزِّقُ أكفانها، على غليان صخرةٍ مثقوبةٍ، تزيحُ نزَّ عتمتي، * هذا الحب أطعمته، ملح دمي*، هذا الحب دثّرته، بزغب شقائي، هاربٌ من ذاكرة لذاكرة، لن يدخلَ مملكة الأفول."..
إنه الحب و تعتُّقُ ذات الشاعرة ليلى فيه لهذا كان رفضها أن يدخلَ مرحلة الأفول رغم الجراح الأليمة التي خلَّفها..رغم الشقاء المضني الذي غرسه في رحم ذاكرة نبضها الأخضر..واقعةٌ هي بين فكّي الجراح و الواقع ـ صخرةٌ مثقوبةٌ ، الذي يغلي بوجع الاهتراء و تشظّي القادم..
من قصيدة " حُفر الوجع"..
" للمرايا غمامات بياضٍ،كصلوات عشقنا القديم،نديمنا هفهفة نعناع، نرفو لأيقونات الحب، لألواح الخلقِ، رموزنا المغمَّسة بماء الذهب، أنا الوثنية الصامدة،في محافل تاريخنا الطويل،لأنهار العذوبة،طيبي،لخريرها المتناغم حيرتي الساهمة"..
هي الذكريات ـ المرايا، التي تتناول الغيبية لتراودنا على الدوام وصولاً حتى إلى الجزئيات الخاصة منها ـ نديمنا هفهفة نعناع،
هي الحقيقة المضنية التي تعيشها الشاعرة ليلى ـ أنا الوثنية الصامدة، مع رموز الأمس و صلوات العشق الذي كان أنهاراً عذبةً تأرَّجتْ فيها ليلى بطيبها و طيوبها و حيرتها المستغرقة في السهو..
وبهذه المقولة للبسطامي تختتم ليلى مجموعتها الشعرية:
" عجبتُ لمن يقول ذكرتُ ربي، و هل أنسى فأذكر ما نسيت، شربتُ الحب كأساً بعد كأسٍ، فما نفذ المدام و لا رويتْ"..
حقاً.. لقد استرسلتْ بنا إلى ملكوت العشق الروحاني، إلى برازخ الميتائية، معقل الاشراقات الصوفية و الفيوضات الوجدانية التي تفجَّرتْ من وهج الشوق و لهب العذاب و الحرمان...
بالطبع.. إن صور المجموعة تستحقُّ الوقوف و التأمل و التفكير و التفكُّر،فالشاعرة قد أوغلتْ عميقاً و بعيداً في عالم الأفكار و المشاعر النازفة من روحٍ تشظَّتْ على جنبات الكون..ومهما أسهبتُ في وصف عالم بل عوالم ليلى، ومهما حاولتُ ولوجَ تلك البرازخ الوجدانية فلن أفيها حقها في حقيقة الأمر..