أخي غسّان.. جراحك المقيمة.. ما زالت تنقلنا إلى صباحات عكـا..)
عدنان كنفاني
الساعة الواحدة، ظهر يوم السبت 8 تمّوز 1972 خبر مقتضب بثّته إذاعة لندن..
[انفجار سيارة يودي بحياة الأديب غسان كنفاني وسط ظروف غامضة..] بعد دقائق كنت في سيارة أجرة، منطلقة، تطوي تحت عجلاتها الطريق إلى بيروت..
أتوسل لأول مرة في حياتي أن تقابلني هناك كذبة.! أجمل كذبة يمكن أن يستقبلها إنسان، تقول: إن الخبر برمته ليس له أساس من الصحة..
ولأول مرة في حياتي أيضاً أجتاز حدوداً بين دولتين، بلا جواز سفر، ولا تأشيرة، ولا تصريح..
فتحوا أمامي البوابات، وحمّلوني بنظراتهم الطيبة الحزينة، وتصرّفاتهم الجاّدة الصغيرة المخلصة والمرتبكة، أنبل المشاعر طافحة بالأسف والعزاء..
مذياع السيارة يدندن لحناً شعبياً ليس له معنى، أجاهد كي لا أطلب من السائق تبديل المحطة، أدحرج في رأسي كرة ثلجية أريدها أن تكبر وتكبر..
توهمني -فأقبل- أن كل ما يحدث أضغاث أحلام، كذبة سخيفة كبيرة، ليس أكثر..
يهتّز الدب القماشي الصغير المعّلق على المرآة.. يتراقص وهو يفتح فمه عن ابتسامة طفولية بريئة.. لونه أسود أيضاً..
ذلك الدب الأسود القبيح الكبير الذي علّقه والدي فوق سريري..
أيقظوني ليلاً..
أخبروني والبشر يطفح من وجوههم، أن أمي ولدت..
سألت.؟ قالوا طفلة جميلة.. أدرت ظهري ورفعت الغطاء فوق رأسي..
في اليوم التالي، أحضر والدي ذلك الدب الأسود القبيح.. علّقه فوق سريري تماماً.. أردف بنزق:
- لن يترك مكانه إلا عندما يتأكد أنك تحب أختك. الطفلة الجميلة التي جاءت بها أمك، هدية لنا من السماء..
كنت في السادسة من عمري.. بكيت كثيراً في تلك الليلة، وكلما أدرت وجهي أهرب من اهتزازه المرعب، تلاحقني نظراته القبيحة.. فابتلع صوت بكائي، أخاف أن ينّقض علي ويأكلني.. يهتّز يمنة ويسرة، أسمعه يسألني بين الفينة والفينة:
- هل تحّبها.؟
أقول: - نعم.. نعم..
ولا أسمع صوتي من شدة الرعب..
يقترب غسان من سريري، يسألني بلهفة:
- خائف.؟
أهّز رأسي. فيبتسم بسخرية..
كان عمره عشر سنوات.. همس في أذني..
- تقف على حافّة السرير، وتقطع الخيط الذي يتعلّق به، ثم تلقيه من النافذة..
تملكتني مشاعر بلهاء.. كأنني سألته.. وبعد.؟
أجاب وهو يرسم على شفتيه ابتسامة انتصار:
- تنام الليلة مطمئناً.. وفي الصباح تقول إن الدب غادر مكانه بعد أن أيقن أنك تحبها..
كنت في السادسة من عمري..
أدركت فيما بعد أن الأخ الشقيق، بنتاً أو صبياً، أغلى وأجمل ما يمكن أن يحصل عليه إنسان..
نظرت ملياً إلى الدب الصغير المعلق على المرآة، يهتّز بعنف، ينظر إلي تارة، وإلى الطريق المتعرّج تارة أخرى..
تقابلني نظرات السائق الخاطفة، يطفو صوته الدقيق فوق صوت اللحن الرديء الذي يطلقه المذياع..
- أقل من ساعة ونصل..
تأخذنا المنعطفات الضيقة المتلاحقة، تنساب الطريق على حافّة حادّة بين جبل درزته الخضرة حتى القمّة، وواد سحيق بعيد مفروشة عتباته بألوان زاهية.. خضراء وبنيّة.. صفراء وحمراء.. تتخللها قطعان تتحرك بكسل.. وبيوت متناثرة بينها، تلفظ سحابات دخان باهتة تحمل روائح فيّاضة..
هي الصورة ذاتها التي حملت خطواتنا منذ زمن بعيد.. بعد رحلة لجوء مّر اقتلعتنا بقسوة من يافا إلى عكا إلى الغازّية إلى حمص ثم إلى الزبداني ببهائها وجمالها، قابعة بأنفة على سفح الجانب الآخر من الجبل الأخضر..
نحمل بين أيدينا نحن الثلاثة حصصنا المتساوية.. نصف رغيف وقطعة صغيرة من الجبن، وجبة طعام خفيفة نتناولها بين الظهيرة والمساء يسمّونها "العصرونية"..
نخرج بها إلى الفضاء المفتوح، نتمشّى إلى جانب جدول ماء، ولأن أخي الأوسط لم يحسب الأمر بدقّة، فقد التهم قطعة الجبن ولم يجد بين يديه غير شريحة خبز جافّة..
راقب بحسرة قطعة الجبن التي تخصّني، ما زالت كبيرة.. ناضل بشتى الوسائل للحصول عليها أو على جزء منها.. لكنني رفضت بإصرار وعناد.
ألح أكثر، ورفضت أكثر.. تفاقم الأمر بيننا، ولم يجد بدّاً من التقدّم صوبي، معتمداً على قوته البدنية فهو يكبرني بسنتين، لانتزاع قطعة الجبن عنوة.. فهربت..
ولحظة أحسست أنه سيدركني لا محالة، لم أدر كيف رميت قطعة الجبن برمتها في الجدول مما أثاره إلى أقصى الحدود.. التقط حجراً ورماني.. أصابني على جانب وجهي الأيسر.. ارتطم وجهي على حجر مدبب في سور حجارة، لينفتح جرح عميق في خدّي الأيمن، لم تلبث الدماء التي نزفت منه أن غطت وجهي وثيابي..
انقلب الموقف.. وضع غسّان خرقة على الجرح النازف وضغط عليه بكل قوته، وانطلقنا ثلاثتنا إلى الصيدلية الوحيدة في القرية ليتبرع الصيدلي بتنظيف الجرح وقطبه خمس غرزات دون تخدير بعد أن ثبّتني على كرسي، وقام بعمله مستخدماً أدوات بدائية..
كان همّنا الأول أن لا يعلم والدي بالأمر، أو بأنه على أقل تقدير لم يحصل على الوجه الذي حصل.. نعلم أننا سننال العقاب الصارم..
تطوّع غسّان لإنقاذ الموقف..
اتفقنا على أننا تعرّضنا فجأة للتواجد بين فريقين من الفتيان يتراشقون بالحجارة، وهو تقليد طبيعي يتكرر حدوثه بين فتيان الحارتين الشرقية والغربية بين الحين والحين..
ولأننا مؤدبون ومن أسرة كريمة لم ندرك حجم الخطر الداهم.. وعلى حين غرّة أصاب حجر طائش وجهي..
والدي رجل منصف.! يأخذ حقه ويعترف بحقوق الآخرين. تقدم بشكوى عاجلة إلى مخفر البلدة..
أثناء التحقيق، ولأن غسّان أكبرنا، "لم يكن تجاوز الثانية عشرة بعد" ولأننا على اتفاق أننا فوجئنا ولم ندر كيف حدث ما حدث.. تطوّع للإجابة..
كان المحقق صارماً. أراد أن يتابع بذكاء أدق التفاصيل للوصول إلى الحقيقة.. مما فرض على غسّان أن يقدم وصفاً مفصّلاً ودقيقاً.. وصف المكان الذي يفترض أن يكون ميدان القتال بين الفريقين.. أشار باستفاضة إلى مجموعات الفتيان من كلا الجانبين.. الأشكال والملابس والعلامات الفارقة لكل واحد منهم، ما كان على الرؤوس وبين الأيدي، أشكال الحجارة وأنواع المقذوفات.. طريقة الهرب بعد وقوع الحادث.. الخ.. كل ذلك بوصف دقيق كأنه يقرأ من لوحة مرسومة أمامه..
وقد أصرّ المحقق على الوصول إلى الحقيقة.. طلب من غسان إعادة سرد القصة أكثر من مرة.. وكان يكرر في كل مرة القصة، حرفاً بحرف، دون زيادة ولا نقصان..
في الأيام القليلة التالية كنت أنا وغسّان نتقاسم قطعة الجبن حصّة شقيقي الأوسط، يتنازل عنها على سبيل الرشوة فيما بيننا، ونحسّ بشيء من التلذذ ونحن نراقبه يتناول الخبز وحده، يتبع وراء كل لقمة جرعة ماء..
بعد أيام لم أستطع مواصلة الصمود..
اعترفت لوالدي بالحقيقة.. نلنا ثلاثتنا كالعادة حظنا الوافر من العقاب، وحرمنا لأيام كثيرة من تناول "العصرونية.."
ما زال الدب الصغير يحدق في وجهي.. ويبتسم..
نعود مساءً حفاة عراة من شاطئ بحر يافا إلى بيتنا القريب المستلقي في حي المنشية بعد ساعة السباحة اليومية المدرجة على جدول نظام صارم يضعه والدي بترتيب دقيق لحركتنا اليومية. ندخل الحمّام لنغتسل بالماء الحلو.. تغطس أجسادنا الصغيرة في الحوض الكبير، نسبح ونتدافع، ولحظة يرفع أحدنا رأسه فجأة يصطدم بالحنفية البارزة.. ينفتق جرح جديد.. وننال العقاب..
تزداد حركة السيارات كلما اقتربنا من بيروت..
فجأة يصافحنا البحر..
لآول مرة يسكت المذياع، وتتوقف حركة الدب الصغير المبتسم.. ولأول مرة أفقد لون البحر الأزرق..
التفت السائق، قال بصوت خفيض وهو ينعطف إلى اليمين:
- "الحازمية.."
في اللحظة نفسها رأيت غسّان..
في ساحة بيت يميس بين الورود والزهور، وعبق الكبّاد والنارنج، يحتل مكاناً أثيراً في حي القنوات بدمشق، تتحدث جدرانه المزخرفة والمعشّقة والملوّنة عن عظمة دمشق وتاريخها.
يجلس على كرسي مرتفع، يحرص "فخري بيك البارودي" أن يحمله إليه بنفسه..
فتى نحيل أشقر، شعره مجعّد، عيناه تشعّان ذكاءً، يمسك بين يديه سنوات عمره التي لم تتجاوز الرابعة عشرة، وكتاباً يقرأ منه.. بين جمهور من الأدباء والفنانين والسياسيين ينصتون باهتمام واستحسان إلى قراءته السليمة المؤثرة التي يضيف عليها صوته الصافي مسحات رائقة تزيدها بهاءً وجمالاً..
نراقبه من فرجة الباب بشغف، تنتهي الجلسة اليومية.. ليعلن "فخري البارودي" كما في كل ليلة:
- إن هذا الفتى سيصير إلى شأن عظيم...
تتوقف السيارة..
ترتجف أطرافي المتحفّزة، أتلهّف لاستقبال مفاجأة الكذبة.. أتوسل أن تتدحرج أمامي على مساحة الأفق...
يمسك السائق يدي..
يفرد أمام خطواتي المضطربة حزنه المسفوح على حصيرة من شفقة..
يقودني عبر الحطام والدمار.
يصل بي إلى حافّة واد عميق الغور. فيه رجال يلتقطون عن الأغصان قطع لحم صغيرة، يجمعونها في كيس أبيض..
في الزاوية الأخرى رأيت وجه غسّان ونصف صدره..
ورأيت شيئاً متفحّماً يشبه الصّبية الجميلة "لميس"..
كان يبتسم، صافحني وهو يبتسم..
وكأنه تحسّس بأصابعه النحيلة أثر الجرح الطافي على صفحة خدي الأيمن..
رأيت الدب الصغير، ثابتاً صامتاً حزيناً..
رأيته يبكي..
فبكيت...

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية