قليلة هى الشخصيات الأدبية التى تكتب ما تعيش, وتعيش ما تكتب. تلك المفارقة تخضع لاعتبارات فى البناء النفسى والمزاج الشخصي للمبدع, قبل أى اعتبار آخر. وهؤلاء الكتاب عادة ما يقل انتاجهم كما, ويتميز كيفا.. منهم القاص "يسرى أبوالعينين".
يصعب تناول مجموعة قصصه الأخيرة "سيناريو المشهد الأخير", دون التوقف أمام تجربته بعامة, وكيف كانت أعماله معبرة عن ذات تكتب الشعر فى نسيج القص الحكائى؟ على الرغم من عدم جدوى اقحام الكاتب ضمن فكرة الأجيال, الا أنها –أحيانا- تبدو وجيهة, على الأقل بالنسبة للمتلقى الذى لم يتقابل أو يتعرف على الكاتب من قبل. فكاتبنا من جيل السبعينيات, وله تجربته الحياتية الخاصة, والتى اتسمت بقدر وافر من مماحكة الواقع اليومى المتنوع, ليس على مستوى مصر فقط, بل وبعض البلدان العربية أيضا. ومع ذلك (غالبا) لا تبدو قصصه (على الأقل فى المجموعة الأخيرة) نافذة على وقائع بعينها, وان كانت بلا شك نافذة على دواخل شخصياته وكائناته القدرية, المفعول بها, المسالمة والوديعة.
أخيرا جدا صدرت مجموعته القصصية "سيناريو المشهد الأخير". ومع الاطلالة الأولى تبدو خصوصية المجموعة. فالغلاف (وان بدا حديثا غير نقدى بالمعنى المباشر) الا أنه فى الواقع والحقيقة, الغلاف يلعب دوره ومشاركته الفاعلة فى بناء حالة, سوف يتلمسها القارىء فورا.
صمم الغلاف والاخراج الفنى للفنان التشكيلى "أحمد الجناينى"..فالغلاف الأزرق اللون بلا زوائد, الا من شق مربع وكأنه نافذة. تطل تلك النافذة على الصفحة الأولى التى هى صورة "منحوتة الحوائط" للنحات المصري "محمد العلاوي" (حيث أحدهم وجهه الى حائط رافع الذراعين الى أعلى, بينما الحائط نفسه مشقوق بمربع هو نافذة أخرى) ..نحن أمام لوحة فنية, قليلة هى الأغلفة التى تحرص دور النشر على رعايتها وتحميلها دلالات المحتوى.
الصفحة التالية تحمل اسم الكاتب والمجموعة, نلتقط منها أن تاريخ كتابة القصص من 1994-1998م. أما "الاهداء" فلابنته المتوفاة "دينا": "يا زهرة الفل الأبدية, على شباك الحياة, اعرف والله أنك ستفرحين".
وفى صفحة أخرى تالية, "مشاطرة شكلية للكاتب "رينيه شار" يقول فيها: "اننا نشبه تلك الأسماك الحية فى جليد البحيرات الجبلية. تبدو أن المادة والطبيعة تحميانها, فى حين أنهما (لا يفعلان سوى ) التقليل من نصيب الصياد." ثم تأتى القصص متتالية فى "133صفحة" و"11قصة".. مع مراعاة أن قطع الكتاب من الحجم الصغير "10×20سم" وهو قطع يناسب الدواوين الشعرية (ربما), الا أنه اضافة الى الحالة التى تلتقطنا للولوج الى عالم القصص ومضمونها,وقبل قراءتها.
الاطلالة الأولى لعناوين القصص "طعم مختلف للحزن", "لون آخر للغضب", "برواز ذهبى للذكرى", "الجلباب", "كل ما أرجوه أن تفهمونى", "على الأقل هذا ما يريده الآن", "اطار للصورة الجميلة", "سيناريو المشهد الأخير", "نفق معتم", "البرنس", "رعشات مقاومة".هى عتبة دالة وكاشفة عن تلك الحالة , التى هى مزيج ما بين الشجن ورجاء الفرحة.
فيقول فى مفتتح القصة الأولى: "الآن..وحدى معك..لقد مضت الساعات طويلة ,وبعد قليل سوف ينتهى كل شىء, لأكون وحيدا..أعرف أنى سأكون وحيدا...".وفى الخاتمة يقول:"..ومع من سأفتعل تلك الأشياء الطفولية التى كنت أشعر منها خوفك على....وليس لى سوى أن الجأ اليهم ,عسى أستمد وجودك بينهم, وأعرف كم سيكون صعبا" .انها قصة أحدهم يرثى زوجته.
ويقول فى قصته التالية: "كان يجب أن أن لا تتوقف عن البكاء, ولا أن تخرج منديلها الأبيض لتمسح دموعها التى ذرفتها وهى خارجة من كابينة التليفون". وخاتمة القصة "شردت للحطات وهى تقفل باب الغرفة بالمفتاح.. خلعت قميصها والقت نظرة فاحصة الى جسدها الذى راحت تتحسس جوانبه بكلتا يديها...ثم راحت تتمدد ببطء فوق السرير وهى ساهمة فى مرآة السراحة". انها قصة الزوجة التى تتشوق الى زوجها المسافر هناك,وقد تركها وحيدة.
ويقول فى قصته التالية: "لأننى محبط..فقط لأننى محبط, كان يبدو أننى أكرهه, رغم أننى كنت أحبه جدا.." ثم يختم قائلا: "فكرت أن اشترى فى الصباح بروازا ذهبيا, أضع فيه الصورة, وأكتب تختها بالخط العريض "من سيد للذكرى الخالدة". فالراوى والولد سيد صديقان فى سن الصبا, الراوى أخبر صديقه أن أمه دخلت بيتا وخلفها "حامد", فما كان من سيد الا ركوب العجلة وانتهى به الأمر بحادثة أودت بحياته..مات.
ويقول فى قصة تالية: "ما ان دخلت الى حجرتها , حتى تخيلت هذ النفق المظلم الذى كانوا يعودون منه, وهم فى طريق العودة الى بيتهم...". وفى خاتمتها يقول:"جلست بين السريرين (سريرا أولادها فى غرفتهم) نظرت الى السقف والجدران ثم خرجت بعينيها الى خارج غرفة الأولاد ...شمت رائحة عرقه (عرق زوجها المتوفى) تحت ابط الجلباب ..سمعته يستعجلها من الغرفة الأخرى.. انحنت حتى زحفت فوق بطنها وغاصت أسفل السرير.." انها اذن قصة زوجة تركها زوجها ومات, بينما تحمل ذكرياته وأشيائه (حتى العرق) بين جوانحها.
أما القصة التالية فهى عن خطاط اللوحات الرخامية فوق شواهد القبور, يقول قى بدايتها:"رغم نظراتكم التى تصيبنى بالخجل, فان هذا اللوح الرخامى لم يفارق يدى منذ ساعات.." وفى الختام : "نوال أيضا حينما عرفت أننى أحفر أسماء الموتى على الواح الرخام, لم تعد تعرفنى, .. , لذا أرجوكم أن تفهمونى جيدا , حتى اذا مر أحدكم من أمامى وهو يرمينى بنظرة تصيبنى بالخجل, لا أقول دعه ينظر هكذا فهو لا يفهم.." ..أما وقد كان يخجل من نظرات الناس, لم يعد كذلك لسبب بسيط..لأنه يشعر بدنو أجله, لكنهم لا يفهمون أن الموت قادم وأن كتابة اللوحات قبل الممات واجبة ولا يخجل!!.
هكذا جمع "الموت" بين القصص الأولى تلك..من خلال الزوج المكلوم, والزوجة الحزينة, وحتى ذاك الذى ينتظره واعيا به, وفى اشارة أخرى ان الفراق أحيانا لا يكون بالموت وحدة, أو أننا قد نعيش الموت بلا موت فيزيقى , كما فى حالة الزوجة الوحيدة, بعيدا زوجها المسافر.. أو قد نتعرض للموت كحادثة مثلما حدث مع الولد "سيد" فى قصة "برواز ذهبى للذكرى".
فى قسم تال من المجموعة ,قدمها الكاتب بجملة "نيكوس كازانتزاكى" على صفحة وحدها.. تقول: "ان الحقيقة –وهذا ما اختبره كل يوم- شىء فى منتهى السهولة , عديم الوجه, عديم الارادة سائل أعمى, أحمق ومتضرع, وهى تتوسل الى ارادتنا ويتمثل دورنا فى اكسابها وجها وطباعا".. بعدها عرض أربع قصص.
قصة "سيناريو المشهد الأخير"..وهو عنوان المجموعة أيضا. فقد قدم الابن بعد طول غياب, هرب من أمه وزوج أمه وأهل الحارة كلهم. ولما عاد وعرف ان "الموت" نال من البعض, و"الفراق" بالسفر أو حتى ب"الزواج" نال من البعض الآخر.. فقرر ألا يعود ثانية الى الحارة. وكأنه يرفض الماضى, ويستطيع أن يهيىء المستقبل كما يشاء.
قصة"نفق معتم"..لا هو نفق ولا هو معتم ذلك المكان/الأمكنة التى سردها القاص عفوا..المقهى, الشارع, موقع كبريت على الضفة الشرقية للقناة, شقة زميل الجيش .
هناك جملة وحيدة تعنى وتدلل العنوان: "بعود "كبريت" تبينت طريقى فى ظلمة السلم وأنا أصعد الى شقته" ..الحكاية ببساطة, أحد زملاء الوحدة العسكرية طلب من الراوى طلبا (لعله مبلغا من المال)..لم يستجب له الراوى..شعر الراوى برغبة فى ارضائه والاعتذار عما بدر منه..فذهب اليه..وتذكرا معا أحداث ما كان قى "كبريت" وصور الزملاء من الشهداء.هكذا أضاء "كبريت" الموقع والمشعل النفق الذى قد يبدو معتما داخلنا جميعا (أحيانا).
قصة "البرنس".. أو هو "نشأت محفوظ" الذى عاش مع الراوى فى احدى الدول العربية, وكانت مشكلته, أنه يعيش حياته هو, بهمومها الخاصة جدا, حتى ولو كانت من خلال الاهتمام بشحن الجرائد اليومية الى القاهرة , فى ختام سنوات العمل والعودة. عرفنا الكثير عن نشأته وقهر الأب له..وعرفنا عالمه السحرى الخاص فى بلاد الغربة.. وتعرفناعلى لقائه مع الراوى فى ميدان طلعت حرب, فلما انتهت المقابلة:"..لا أعرف لماذا شملنى حزن عميق عليه فى تلك اللحظة..مضيت خلفه ويقين قوى يسيطر على قلبى أننى لن أرى هذا الرجل مرة أخرى".
قصة "رعشات مقاومة"..هل بعد هذا الاغتراب النفسى, والموت الفاعل فى شخصيات قصص المجموعة, والرحيل, والعودة التى أفضل منها اللاعودة..هل من أمل, هل من مقاومة؟
تبدو القصة الأخيرة من تلك المجموعة "رعشات مقاومة" ترد بالايجاب. فهى فى الحقيقة أربع قصص تحت عناوين: توحد" , "اجتياح" , "حنين" , "نهاية"..هم أقسام القصة. الأولى يسند الرجل المضعضع ويتكىء على العجوز, وعلى الرغم من تلك الرعشة , يقاوم ليقضى وقتا هادئا على شاطىء النهر..يقول القاص فى الخاتمة: "أراحت يدها فوق صدره, وهو أراح يده حول رقبتها..من بعيد بديا كتلة من ظل, لم يكن ليحركها شىء..".انه توحد جميل اذن!
أما "نهاية" وهى القسم الرابع من القصة ومن المجموعة, حيث الشقة القديمة,كل ما فيها متهالك, الا ذكريات الرجل المريض. استحضر زوجته "اليوم كان سعيدا وكان يحب أن يتذكرها بشكل مختلفا .. فتذكرها وهى جميلة ورشيقة"فى هذا الوقت لم يكن هناك واحدة فى مثل جمالها, كانت فى الثلاثين من عمرها"...لكنه فى النهاية (آخر سطر فى القصة) "تثاءب مرة, ثم مرتين متتاليتين..لم يلتفت اليها..أغمض عيناه ونام".
كم هائل من الشجن ورغبة عارمة لتحدى أحزان الموت على الرغم من غلبته على شخوص وأحداث القصص. ولما كانت "الحقيقة" غائمة , وحاول القاص التقاطها فى أربع قصص..فكان الندم للعودة بعد غياب, والحرب بأحداثها وأشجانها على الشهداء, مع غربة السفر الأشبه بالموت أو الرحيل الغامض, وأخيرا "أغمض عيناه ونام"..استسلم الجميع لحالة الشجن ومحاولة كشف الحقيقة التى لم تنكشف بعد.
لعل تلك الحالة, لا تبين وتكشف عن نفسها, لو لم يستخدم القاص تلك اللغة الشعرية الشفيفة..بمفرادتها التى قد تبدو من اللهجة العامية, ومن توظيف لغوى خاص. حتى أن القاص لم يحرص على استخدام المثنى بقاعدته بل كتبها جمعا .."وليس بينهم/بدلا عن وليس بينهما"..وفى موضع آخر حيث الحوار بين صديقين "لقد قال لى ونحن واقفون/ بدلا عن ونحن واقفان".. وهى زاوية هامة قد يلتفت اليها البعض..الا أن القارىء قد يغفلها لسطوة الحكى والحالة المعاشة مع العمل.أما وقد استخدم القاص تجربة "الحرب" ..ليس لمناقشتها, أو حتى سرد بطولاتها..لكونها شكل آخر من الموت , ومثيرة للشجن ..ولها وقفة أخرى. حتى كانت الحالة التى يعايشها القارىء من خلال محاولة اصطياد "المبهج" فى مقابل "الموت".