من ضمن الردود كانت هناك إشارة إلى قصيدة الكولاج وتمني على اليوميات أن تنفتح على سعة نثر الشعر كما أشار تعقيب ورد من الباحث تيسير مشارقة بينما ورد في ذات الوقت من الشاعر سمير العمري إشارة لطيفة أيضا إلى ذات العامل البنيوي في النص الكاريكاتور بأنها قد استهوته وجذبته خاصة وأنها أقرب إلى خببية العمود الجميلة ، وفي هاتين الإشارتين تكمن حقيقة إضاءة لما توقّعت هذه اليوميات سلفا أن يتم تناولها عبره ولذا وجدت أن الوقت قد حان لتقديم هذا النص الكاريكاتور كما أردناه وأخرجناه على نحوه المخصوص بحيث تعالج هذه اليوميات تاليا على أساس هذا التقديم.
اليوميات هي استجابة لعاملين معا أولهما أن القصيدة العربية باتت بعيدا وللأسف الشديد عن المتلقي العربي بحيث على الأغلب انفصلت عن مسارها الموروث وخاضت معترك تجريبية غرائبية معجونة بكثير من الافتراضات المقتبسة عن غير واقعها تارة وبنوع من النزوع إلى اللهاث خلف الفضاء المفتوح دون تسلسل بنائي مترابط ذي مرجعية فنية أصيلة في حياة هذا المتلقي العربي ، ومن ناحية أخرى فإن نزعة الكولاج تلك أو فن اللصق بصريا عبر الفن التشكيلي أحدثت حقا إضافة جمالية كونها استخدمت أدوات من ذات التسلسل وبذات الشروط الفنية التي يسمح بها الفن التشكيلي ، ترى لو قام فنانو الكولاج المبدعون بلصق نصف لوحة وتركوا للناظر مثلا تخيّل وافتراض النصف الآخر هل كانت ستؤدي ذات الأثر الفني وتحصد ذات القيمة الجمالية ؟
أجزم بلا ولا يمنع ذلك هؤلاء من التجريب ولنرى ، هذا بالضبط هو ما يحدث عند تطبيق الموضوع على القصيدة العربية مفتوحة على أسس العمود أو أسس التفعيلة أو حتى في شكل النثر المتدفق والمحمّل بعضا من قماشة الشعر ، وحينما توغل القصيدة العربية في الافتراضية عبر تقديم نصف قصيدة عبر اللغة وأدوات فن الشعر الأخرى وإن انتهى النص على البياض وُطلب من القارئ العربي تلمّس وتخيّل بقية العلائق واستجلاب الجماليات والرسالة بعد ذلك دونما معيار أو معين أو سابق دربة أو تجربة أو حتى مرجعيات من ذات النص تصبح القطيعة بين المتلقي وهذا النص قائمة لا محالة مهما تجاهلنا أثر ذلك واستعلينا بطلب فهم ما يقال طالما لا نحسن نحن القول أولا !
لذلك جاءت هذه اليوميات في شكلها الفني الذي أتت عليه حاملة معها كل َّ أدواتها الفنية البنائية من لغة وموسيقى وملحقات بحيث تغدو سهلة الهضم مضمونة الاستقبال من القارئ وفي ذات الوقت مؤكّدة التفاعل لأن النصوص التي لا تحدث أثرا ولا تفاعلا بينها وبين قارئها مهما كان مستواه الفني والمعرفي ومهما كان شكلها ونوعها الفني والتصنيفي هي نصوص إما ميتة أو نصوص داخل الإنعاش ، وبما أن هذه اليوميات تجد علة وجودها أصلا في الرسالة المحمولة وهي العامل الثاني الذي برَّر هذه اليوميات فقد لجأت إلى هذه البنية وهذا الشكل التقني بالتحديد حتى تصبح أقرب إلى حديث النفس الخاص وهمس الوجدان الذاتي لقارئها دون حواجز ودون معوِّقات .
إذن فاليوميات هي جسر جديد يعيد جمهور القصيدة إلى حلقتها بعض انفضاض أغلب هذا الجمهور وهي في هذا تجعل هم هذا الجمهور الإنساني أولا لسان حالها بحيث ينتهي النص مع رسالة القصيدة التي تتحد مع رسالة هذا المتلقي الوجدانية في ذات الوقت فيحدث نوع من الحميمية بينهما تحمله الشخصية الحكائية الواردة في مجموع اليوميات ، لقد أشار الكاتب نضال حمد في معرض تعقيبه على أبي الحسرة إشارة لطيفة وحقيقية عندما جعلنا كلنا أبي الحسرة الممتد من تطوان لبغدان وهذا هو في الواقع ما أرادته اليوميات من رسالة وقد وصلت بذلك ، أما كماليات العملية الفنية بما تستخدمه من تقنيات سواء أكانت مسرحية أم ظرائفية أم غير ذلك فهي أدوات معينة في الواقع وليست الغاية .
اليوميات أخذت شكلا تقنيا معينا هو استفادة من الموسيقى المباشرة والتي تكفلها نوتة الخليل الثرية والحرية الجميلة في توزيع القافية والأشطر بل وحتى التفعيلات أحيانا والتي أتاحتها منظومة قصيدة السطر الشعري " التفعيلة " ومزجت بينهما في قالب لغوي قصد أن يكون على درجة عالية من السهولة وأحيانا الاقتراب من لغة القارئ اليومية بانتقاء وبما يخدم النص بشكل عام وليس قصدا أو تصيّدا وسابق تصميم ، وقد اختارت القصيدة الكاريكاتور أن تسبح خببيا وأحيانا بالمتدارك جزئيا مستفيدة من إمكانات الإيقاع العالية في الخبب وتفعيلاته التي تمكّن من القفز مع سرعة انتقال مقاطع اللوحة الأربعة وتتيح بذلك حالين متضادين الراحة والسرعة معا حينما يكون لزاما استخدام أيها ، أما تفعيلة (فاعلُ ) و( فعلن ) وأحيانا قليلة (فاعلْ ) فقد أمكن لها أن تتيح هذه الفسيفساء الإيقاعية وبناء الموجات التي حرصت أن لا يكون ترتيب الإيقاع إلا بحسب الموقف فهناك إمكانية الحصول على موجة موجبة تمثل الحركة في الخبب كما أن هناك إمكانية الانتقال الخفيف عبر المتدارك وأحيانا الحصول على أشبه ما يكون بالوقوف عبر الموجة الصفرية ومرة أخرى باستخدام هذه التفعيلات .
أما قضية القافية فهي لم تكن من العسير ولا هي من المتعذّر علينا ونحسبها على كل شاعر لا تحدّه اللغة وتحصره إعياء وليست بقضية أراها تستحق الوقوف عندها مثلما يظن البعض ، بل على العكس فإن القافية في اليوميات هي جزء رئيس في البناء المقصود لاستكمال إيقاعية النص مثلما هي الفراغات البصرية أو البياض في الكاريكاتور الذي حملت هذه القصيدة أو هذا النص اسمه ضرورة فنية لاستجلاء الصورة العامة ولتوليد الجمالية في الوقف مثلما في الحركة ، إن تنويعات القافية بما تتيحه قصيدة السطر الشعري " التفعيلة " غدت في اليوميات إحدى الأدوات اللازمة والمختارة بقصد مثلها مثل الوزن واللغة تماما كي تحدث هذا التكامل في الشكل الذي خرجت عليه ، وبقي في البناء قطعا الصور الشعرية والتي تأتي هنا في هذه اليوميات ضمن مرتبة أدنى من المراتب السابقة وهو حقيقة استجابة مباشرة لطبيعة هذا النص أساسا فالخيال والجمالية المستدرجة من الخيال وأفقه المفتوح ربما ليس المكان الأنسب لها في نص اليوميات مثلما أنه ليس كذلك في الكاريكاتور الذي يختلف عن لوحة فنية من جنس التشكيل على اختلاف مدارسه وتصنيفاته ، وهكذا فاليوميات بنت نفسها لتقارب نوع الكاريكاتور إلى حد كبير.
هناك ثلاث عوامل فنية داخل اليوميات يحسن الإشارة لها استكمالا لقضية البنية الفنية ، فاليوميات تستخدم فعلا البعد المسرحي من فن المسرح عبر شخصيات اليوميات ومكانية وزمانية هذا النص كما تستخدم الظرف الحكائي فهي حكاية إن أردت ليست على نحو ما قصدته كليلة ودمنة لأن شخصياتنا هنا مستمرة النمو مع الحكاية ودوما هي ذات الشخصيات الحكائية من البشر ناهيك عن تطورها الشعري والقصصي في المخرج المسرحي المقصود لها ، وهذه الحكائية والحبكة الواردة المبنية عبر تطور وانتقال المفاصل الأربعة في نص الكاريكاتور لا تلبث أن تنهي حكايتها بالرسالة التي يوجزها صاحب الشخصية المركزية خلال الفقرات الأخيرة من النص وهذه الرسالة أو استجابة الوجدان الذاتي هي نفسها حافز الحكاية وهي ذاتها مفتاح حبكتها .
أما العامل الفني الثاني الذي تعتمده اليوميات في تقنيتها الفنية فهي مزيج ما قدّمته عدة ردود من الأخوة القراء عن هذه النصوص في توفّر الظرائفية أو السخرية أحيانا أو التهكم إن شئت وأحيانا أخرى المرارة والألم ، نعم هذا المزيج الإنساني هو في الواقع مزيج أبي حسرتنا الأكبر وهو وجدان كل منا فنحن نقرأ ما تختزنه مشاعرنا في ذات الوقت الذي نقرأ فيه أو نسمع هذه اليوميات ، وحقا إن هذه اليوميات قد تعرِّج على السياسة في معرض تطوّر حكايتها ولكنها تختلف عن الرسائل السياسية في غيرها من القصائد باعتبار أنها مستمرة كشخصية ولا تنتهي بانتهاء القصة أو الحكاية لأنها تأتيك لاحقا بحكايتها القادمة فهي نص مستمر على كلِّ ما يختزنه الوجدان .
لقد كتبنا نصوص محددة مثل قصيدة آخر دروس النحو في كتاب أبي أيوب العربي وقرأنا ونقرأ قطعا النصوص الرائعة لعدد من الشعراء مثل نصوص أخي أحمد مطر أو لافتاته ولكن تلكم وما كتبناه مسبقا على ذات السمة الفنية المنتهية بالنص ، أما اليوميات فلا عوضا عن أنها تعود إليك على ذات النسق الفني والبنائي فهي حقيقة نوع مستقل بذاته فيما يحاول ، ومن جهة أخرى فإن اليوميات منفتحة من حيث الاستجابة إلى شرطها الذي قدّمته باعتبارها اليومي أو المدخل الواسع للنمذجة في كتابة السيرة الوجدانية لما يعترض حياة المتلقي العربي بل وحتى حياة الإنسان ذاته فهي مفتوحة على التقليد نحو تناول أيا من الموضوعات القومية أو الأخلاقية أو الوطنية أو ما شئت من عناوين عريضة فهي بناء طيّع ومرن وبناء محبب في ذات الوقت .
في هذا نحن لا شك قد يرد إلى ذهن القارئ شيء من الموروث في المقامات التي كانت على أي حال رواية فنية للنثر العربي ولكن هذه القصيدة أو النص تختلف في بعدها الأدبي عن تلك تماما وإن استوحت حقا ثبات الشخصية في المقامات كبديع الزمان الهمداني ، ولكن البعد البصري كان أكثر تأثيرا عبر ريشة الفنان الراحل الخالد ناجي العلي في شخصية حنظلة ، لقد استلهمت حنظلة ناجي وأردت لأبي الحسرة الأيوبي أن يقتفي أثر حنظلة ولذا اجتمعا يوما في أحد اليوميات وهنا فإن الرسالة الرائعة التي أرادها حنظلة الشهيد ناجي هي الرسالة التي يتوسم خطاها أبو حسرة الأيوبي في اليوميات والفارق أن تلكم قد خلقت بالريشة وهذه خلقت باللغة ولعل هذا هو العامل الفني الثالث في اليوميات ومنها أخذ النص صفة الكاريكاتور وليس من أي شيء آخر .
لقد رسمت اليوميات مقاطعها الحكائية الظرفية المسرحية الأربعة بريشة لغتها المطواع وقفزت على أنغامها الخببية الأخاذة لتوجه رسالتها تماما كما لو أن لوحة كاريكاتور ناجي تناولت رسالة في تقنية اللون والظل والفراغ وحنظلة الذي يقوم مقامه أبو حسرة الأيوبي ، وبعيدا عن المداخل الفنية فإن إلهام ناجي ومحبتي له وتقديري العالي لما كان عليه فنه وكانت عليه رسالته دفعني لأن أرسل في طلب أبي الحسرة الأيوبي ليقول من جديد أن ناجي لم يكن فقط فنانا مجيدا وعلى نحو خاص بل هو أيضا ملهم مجيد وعلى النحو الذي يقدم بين يديه أبو الحسرة الأيوبي ذات الرسالة ويجتهد في أن يبقي له امتداد اللغة مثلما امتداد الريشة ولذا فقد أحسست برغبة في أن يأخذ أبو الحسرة شكله الكاريكاتوري وهو ما قام بمهمته فنان الكاريكاتور المصري الرائع الأخ بديوي الذي أود معاودة شكره هنا من جديد .
هذه اليوميات أتشرَّف بأن أقدمها إلى جمهور الشعر والأدب والثقافة والفن على شكلها الذي خرجت به وأقدمها إلى الإنسان أولا المتصالح مع وجدانه وإنسانيته وثانيا للإنسان الراغب في التصالح مع القيم النبيلة للإنسانية المستهدفة في عصر إمبراطوريات المادة الصلدة الصماء ، أقدمها لكي تكون لسانا ويدا في ذات الوقت عن ذلك الإنسان المقهور والمغدور في وطنه وقوميته ومشارف مستقبله ومجمع ربلات عيشه وحياته ، أقدمها إلى أبناء عروبتي وإلى سماء وأرض هذه العروبة الناطقة بلسان الضاد أبدا مهما دار الزمن في دولاب أو في فلك ، وأما أبو الحسرة الذي حمل حسرته في اسمه مثلما في لسان حاله على ما هو قائم فلقد حمل في ذات الوقت أيوب الصابر الذي يتقن صنع الأمل في صبره مثلما يتقن صنع الفجر عبر أيوبيته المفتوحة على صلاح الدين .
أتمنى أن أكون في هذه العجالة قد قدّمت لليوميات بما يتيح لقارئها تلمّس نبضها عن قرب وبما يتيح لمعالجها تاليا الوقوف على ما أرادته وما لم ترده ، ولعل هناك ما يستدعي التوقّف عند هذا النحو الذي قدمنا عليه اختصارا أملا في أن تفتح هذه العجالة نقاشا علميا نقديا أو إنسانيا حولها بحيث تتيح تاليا استشراف ما تبقى الحديث عنه ، لم ندرج كثيرا مما شعرنا أن وقته ربما ليس مواتيا ولكن المقدّم يحمل أهم السمات الواجب الحديث عنها في هذا المقام ، ولعل سعادتنا الكبيرة تكمن في وصول رسالة هذه اليوميات إلى الحد الذي نتلقى فيه ما يشبه التمني من رسائل القراء بدوامها ونتمنى أن نستطيع تحقيق هذه الأمنية التي هي أمنية لنا ، وقبل أن أنهي هذه المقدمة لزمنا أن نشكر الأخت العزيزة حياة الياقوت وموقع ناشري على إفراده مساحة خاصة بهذه اليوميات وسلسلتها واهتمامها البالغ بهذا النص الكاريكاتور أو الفن الجديد الذي قدمنا وهو إنما ينم عن استشعار ثقافي مميز ومواكبة ومثابرة رائعة للثقافة والأدب العربي وجديدها .