تظل العلاقة ملتبسة بين الشاعر والقصيد ، وتتمحور هذه العلاقة حول سؤال ملح بشكل دائم على الذات الشاعرة: ولماذا تتلبسني حالة الشعر ؟ سؤال شديد البساطة ، إلا أنه يشي أن المسألة ليست يسيرة ، فإذا كان الشعر شيطانا كما يرى الجاهليون ، فهو حاض على التمرد ، وإذا كان إلهاما في الرؤية النقدية ، فهو عطاء دائم ، يتوقف على التخييلية العالية التي يمتلكها الشاعر ، وتبدو في قدرته على صهر الكلمات ، مع المشاعر والأحاسيس والرؤية الكونية .
ومن معالم تجربة الشاعر الفلسطيني " لطفي زغلول " البحث في طبيعة العلاقة المتوترة بين النص ومبدعه ، ونعني بالمتوترة : تأمل الشاعر عن كنه هذه الوشيجة ، وهو بحث قلق . إلا أن لطفي زغلول لا يقف عند وصف هذا التوتر الشعري ، ويدور في فلكها ، بل يتخطاها بتحليلها بوصفها ظاهرة إبداعية ، فيتعمقها ، محاولا تقديم قراءة إنسانية البعد ، شاملة الطرح ، تستلهم التاريخ وعناصر الكون ، وفضاءات الشعر .
وأمامنا نصان : الأول مهموم بحضرة إلهام الشعر أو شيطانه ، والثاني يدخل في عراك مع الأسطورة " عشتار " ، ساعيا إلى أنسنتها ، وإنزالها من عليائها الأسطوري إلى السفح البشري ، ضمن تعمقه للتجربة الشعرية .
وبعبارة أخرى فإن كلا النصين المختارين يتحلقان حول طرح مشترك مفاده سؤال : كيف تخضع الذات المبدعة غير المادي ، الإلهامي ، الأسطوري ، وتجعله سابحا في فضائها ؟ ليست المهمة يسيرة ؛ أن يتعاور الإبداع أجواء الأسطورة ومن ثم ينزلها من سماويتها إلى أرضيته ، ويقهرها على أن تكون ضمن كونه الشعري ، مثلما ليست هي يسيرة في البحث عن كنه تخلق الشعرية في الذات الشاعرة .
ولعل عرض النصين يكون أنجع في فهم أبعاد هذه الافتراضية ، ومن ثم يكون النقاش تطبيقيا حول الوشائج الدلالة والجمالية الجامعة بينهما .
النص الأول : الليلة شعر .. وغدا شعر ( منشور في مجلة المشهد الأدبي الإلكترونية)
حِينَ تُضَاءُ فَضَاءاتِي .. شِعْراً
أَصْحُو مِن غَفوَةِ لَيْلِي المَصْلُوبِ ..
عَلى جُدْرَانِ مَنافِيهِ
يَتَسامَى الَّليْلُ ..
يَذُوُب رَذاذَ رُؤىً
يَخْضَوْضِرُ حِينَ تُقَبِّلُهُ .. قَمَرٌ
قَد جَفَّت عَيْناهُ يَبَاباً
وتَصَحَّرَ فِي زَمَنِ التِّيهِ
اللَّيلُ .. إذا تُلِيَت آياتُ الشِّعْرِ ..
تُلَوِّنُهُ الأَشْوَاقُ العَطْشَى ..
المَخْبُوءةُ سِرَّاً
نازِفَةً من شَبَقِ العُشَّاقْ
يَجْتاحُ الشِّعْرُ فَضَاءَ الكَوْنِ ..
الشَّمْسَ القَمَرَ..
النَّجْمَ الطَّيْرَ الزَّهْرَ ..
النَّهْرَ البَحْرَ ..
المَوْجَ المَرْجَ الأَوْجَ الآفَاقْ
الشِّعْرُ عَشِيقُ اللَّيلِ ..
رَبِيبُ الطُّوفَانِ الأَخْضَرْ ..
يُزْهْرُ أَلَقاً .. يَهْمِي عَبَقاً
يُبْحِرُ في زَوْرَقِهِ ..
يَصْطادُ الأَنْجُمَ والأَقْمارَ ..
يُلَوِّنُها شَبَقاً
ويُلَوِّنُ وَجْهَ الأَرْضِ ..
يُسافِرُ بَينَ حَنايَاها
يُمْطُرُها عِشْقَاً .. يُغْرِقُها
يأسِرُها بَينَ ذِرَاعَيْهِ ..
لا يَعْتِقُها
اللَّيلَةَ شِعْرُ ..
وغَدَاً شِعْرٌ مِدْرَارُ
حتَّى تَنْتَحِرَ الشَّمْسُ ..
وُيْغِمضَ عَيْنَيْهِ القَمَرُ المَحْزُونُ ..
وَيَرْحَلُ عِنْدَ الفَجْرِ ..
يَجُرُّ حَقَائِبَهُ الثَّكْلَى
لَم يَُبْقِ بِعُهْدَتِهِ إلاَّ بَعْضَ الأوْرَاقْ
تَنْزِفُ أسْطُرُهَا ..
شَيْئَاً مِن تَارِيخِ العِشْقِ ..
وَتَحْكِي بَعْضَ فُصُولٍ ..
مِن سِيَرِ العُشَّاقْ
****
القراءة النقدية:
ينطلق هذا من لحظات تكوين النص الشعري ، وقد تركت كل المواضيع وتفرغت لوصف هذه اللحظات الرائعة ، حيث الشعر يتكون في أعماق الذات المبدعة ، فترى الليل والكون والنجوم والقمر من منظومة الشعر .هنا نرى الشاعر مع شيطانه أو بالأدق مع إلهامه الشعري وجها لوجه حوارا ورصدا وتحليلا ، ومع الكون واللغة والقصيد .
ويستوقفنا عنوان النص:
" الليلة شعر .. وغدا شعر " فهذا عنوان متناص مع المقولة التراثية الواردة في أيام العرب عن أحد أمراء القبائل – قبل الإسلام – " اليوم خمر وغدا أمر " وهي مقولة تعبر عن حالة من الرغبة القصوى في الاستمتاع باللحظة الوقتية الآنية إلى غايات الاستمتاع ، ومن ثم يتقرر ماذا يراد بعدئذ ، ونلحظ أن المقولة تحمل اختلافا مقدما في الطبع ، فالآن : تجرع الخمور ولذة السكر في شدتها ، وغدا سيكون أمرا جديا ( بالحرب والقتال ) ، فإننا أمام استباق للحدث : اللعب ثم الجد، وهذه بالضبط حياة الإنسان : يريد جدا ولعبا ، لعبا وجدا ، ضمن المستوى الأدنى من الفهم الإنساني ، اللعب للترفيه ، والجد للسعي والكسب ، وقد قالها الجاهلي راغبا أن يكون الترفيه خمرا وعربدة ، والجد حربا ودماء ، قمة الاستهتار الإنساني . عنوان النص هنا " اليلة شعر ، وغدا شعر " ليدخلنا عنوة إلى الكون الشعري المؤسس في النص ، فهو استباق للرؤية ، تجعلنا نحبس أنفاسنا ، ونتهيأ نفسيا لمحراب الذات الشاعرة ، التي لا تعيش انفصالا إبداعيا ، بل هي في توحد:
ليلي ونهاري ، حالي ومستقبلي وقد أخذت القافية الرائية من المقولة التراثية وطريقة بنائها الزمنية العطفية ، وبنيت مقاطع النص عليها عبر وتكرارها في بداية المقاطع ، لتكون وشيجة نصية تربط المتلقي بالكون الشعري الذي ولجه ، حتى لا يضيع في صبواته ، فيعمد الشاعر إلى ترديد :
" اللَّيلَةَ شِعْرُ .. وغَدَاً شِعْرٌ مِدْرَارُ "
ومن خلال المحافظة على قافية الراء في النص ،تتكون وحدة صوتية جامعة بين المقاطع النصية بطرق مختلفة ، والراء حرف متكرر على اللسان يعطي نغم قلق يعبر عن قلق النفس الشاعرة ، ويمثل الوجه الصوتي لتشكل التجربة الشعرية في تنور التوهج الإبداعي .
ويمثل التناص وجها آخر في جماليات النص ،وهو إن بدا في العنوان ، ولكنه يتخطى العنوان ليكون ملمحا جماليا ، حيث يقول :
اللَّيلُ .. إذا تُلِيَت آياتُ الشِّعْرِ ..
تُلَوِّنُهُ الأَشْوَاقُ العَطْشَى ..
المَخْبُوءةُ سِرَّاً
" إذا تليت آيات الشعر" ، تناص لفظي مع تلاوة آيات الله ، وهذا اقتباس جائز ومحبوب فالقرآن يضيء النص ويجعله متألقه بألفاظه ، وقد تفارقت دلالة التلاوة هنا من خلال " تُلَوِّنُهُ الأَشْوَاقُ العَطْشَى .." فأصبح فعل التلاوة متخطيا الدلالة الصوتية والقرآنية ، إلى دلالة النظم الشعري ، بحيث يشمل الترديد والتأليف .
وأسجل هنا سمة أخرى وهي مزج العاطفي النفسي مع الحواس الأخرى ، فالأشواق نفسي ) ، والعطشى لساني وفمي وجسدي وهذا طبيعي في نص أساسه التأمل النفسي والشعري .
كما يقيم الشاعر حوارا مع عناصر الكون المختلفة ، فيقول :
يَجْتاحُ الشِّعْرُ فَضَاءَ الكَوْنِ ..
الشَّمْسَ القَمَرَ..
النَّجْمَ الطَّيْرَ الزَّهْرَ ..
النَّهْرَ البَحْرَ ..
المَوْجَ المَرْجَ الأَوْجَ الآفَاقْ
الإصرار على ذكر عناصر الطبيعة : السماوية والأرضية هو إمعان في الصبغة الكونية الشعرية ، وجاء هذا متوافقا من خلال قافية الراء ، وجمع بين المائي :
النهر والبحر والمموج ، والضوئي : الشمس والقمر ، والنباتي : الزهر والمرج. فتكتمل بذلك جزئيات الكون الحسية والمادية .
ومن جانب آخر ، فإن اجتياح الشعر ليس طوفانا مائيا ، بل هو الرؤية الشاعرة للشاعر وهو يقرأ الكون من خلال منظوره الشعري ، وهو منـظور عشق ، ليس عشق النساء بل عشق الكون ،بعناصره ومكوناته التي تصنع النـص ، وهذا التلبس الشعري للنفس وما حولها ، يجعلنا نرى أن الشاعر أشاد قلعة شعرية شديدة الخصوصية به ، ومن خلال هذه القلعة ، ستكون قراءته للأسطورة عشتار في النص التالي ، ذلك أن أجواء الأسطورة بكل سموها وضبابية كنهها ، لا يمكن التعامل معها إلا من خلال كون شعري يشملها ، ومن ثم يخضعها لشروطه ، وينزلها من عليائها إلى بشرية الشاعر وسفح الأرضية .
ويقول :
الشِّعْرُ عَشِيقُ اللَّيلِ ..
رَبِيبُ الطُّوفَانِ الأَخْضَرْ ..
يُزْهْرُ أَلَقاً .. يَهْمِي عَبَقاً
يُبْحِرُ في زَوْرَقِهِ ..
يَصْطادُ الأَنْجُمَ والأَقْمارَ ..
يُلَوِّنُها شَبَقاً
ويُلَوِّنُ وَجْهَ الأَرْضِ ..
إن العلاقة بالليل شديدة الخصوصية ، علاقة عجيبة ، فيها التألق الضوئي مع ظلام الليل ، والشعر يصبغ الأرض باللون في عيون الشاعر ، ونرى الأخضر – كلون – معبرا عن الديمومة والحياة والنماء ، فليس الشعر هادما ولا طوباويا بل يحمل في مفردات الخير والحياة . فالأخضر يحيلنا – ضمن ثنايا دلالته – إلى النبات ، والنبات : حياة ، وغذاء ، وطمأنينة ، وتوالد لا نهاية له ، وجمال طبيعي يريح النفس ، ويلهم الشاعر . وفي المقطع السابق ، يجتمع : الفضائي والأرضي، وتكون أداة الجمع الشعر ، وهذا متسق مع القلعة التي بنيت في النص ، فالشعر – لفظ ورؤية وخيال – لديه القدرة على تأليف المتناقض ، وجمع السفلي والعلوي، وفقا لمنظومة جمالية ، وفلسفية .
أما النص الثاني المنشور في منتدى مرافئ الوجدان الإلكتروني ، ولنعرض النص ومن ثم تأتي القراءة النقدية :
عشتار .. والمطر الأخضر
من ديوان عشتار .. والمطر الأخضر
كيفَ أُنَاجِيكِ .. بِأَيَّةِ لُغَةٍ ..
أَرْوِي تَغْرِيبَةَ شِعْرِي
أَخْشَى أَنْ تَسْرِقَ مِنْ سِرَّي ..
يَوْمَاً سِرِّي ..
نَجْمَاتٌ تَرْصُدُنِي .. تَتَرَبَّصُ بِي
وَتَبُوحُ بِهِ فِي نَزْوَةِ شَبَقٍ لِلأَقْمِارْ
أَخْشَى أَنْ أَصْحُو فِي عَيْنَيْكِ ..
وَقَدْ أَصْبَحْتُ غَرِيبَ الدَّارْ
آهٍ عَشْتَارْ ..
أَنَا تَارِيخٌ حَطَّ التَّارِيخُ ..
رِحَالَ قَوَافِلِهِ فِي بَاحَةِ أَيَّامِي
وَغَدَاةَ ارْتَاحَ زَمَانَاً ..
شَدَّ حَقَائِبَهُ
وَبَقِيتُ وَحِيدَاً أَجْتَرُّ الذِّكْرَى
أَتَدَثَّرُ دِفْءَ عَبَاءَتِِهِ شِعْرَا
آهٍ عَشْتَارْ
أَنَا طَيْرٌ .. لَم أَتْبَعْ سِرْبِي
لَمْ أَتَرَجَّلْ عَنْ صَهْوَةِ كِبْرٍ
سَافَرَ بِي .. ظَلَّلَ بِغَمَامَتِهِ دَرْبِي
مَنْ غَيْرُكِ أَنْتِ يُلَوِّنُ أَوْجَ خَيَالاتِي
بِصَلاةٍ تُوقِظُ أَوْتَارِي
وَتَسُوقُ إلَى مِحْرَابِي ..
المَطَرَ الأَخْضَرَ مِدْرَارَا
مَنْ غَيْرُكِ تَغْتَسِلُ الرَّعْشَاتُ بِصَبْوَتِهَا
فَتُصَلِّي سِرَّاً وَجِهَارَا
مَنْ غَيْرُكِ أَتْلُو الشِّعْرَ لَهَا
كَيْ تُشْعِلَ فِي شِعْرِي النَّارَا
لا تَرْتَحِلِي .. اَلَّلَيْلَةَ شِعْرٌ ..
وَغَدَاً شِعْرٌ يَا عَشْتَارْ
لَنْ أَصْحُو مِنْ سَكْرَةِ قَلَمِي
الشِّعْرُ شِرَاعٌ يُبْحِرُ فِي أَنْوَاءِ دَمِي
لا تَرْتَحِلِي
مَازَالَ صَهِيلُ كُؤُوسِ الشِّعْرِ يُطَارِدُنِي
يُدْنِينِي السَّاقِي مِنْهُ ..
وَيَرْجِعُ عِنْدَ الصَّحْوِ يُبَاعِدُنِي
وَسِيَاطُ قَوَافِيهِ تَزْحَفُ تَتْرَى نَحْوِي
تُلْهِبُ صَحْوِي .. حِمَمَاً مِنْ نَارْ
لا تَرْتَحِلِي
أَغْلَقْتُ عَلى ذَاتِي .. ذَاتِي
هَيَّأتُ لِهَوْدَجِكِ الأَزَلِيِّ مَدَارَاتِي
وَوَقَفْتُ عَلى شُطْآنِ بِحَارِي أَزْمَانَاً
أَرْنُو مِن نَافِذَةِ الكَلِمَاتِ ..
أُجَدِّفُ شَطْرَكِ لَيْلَ نَهَارْ
فِي كُلِّ مَسَارْ
يَحْمِلُنِي فَوْقَ جَنَاحَيْهِ نَبْضُ حُرُوفِي
يَرْمِينِي بَيْنَ يَدَيْكِ ..
أُصَلِّي .. عَلِّي أَفْرُشُ مِحْرَابِي
بِرُؤى خَضْرَاءَ ..
تُضِيءُ ظلام فَضَاءاتِي
آهٍ عَشْتَارْ
لَوْأَنِّي لَمْ أَقْرَأْ فِي لُجَّةِ عَيْنَْكِ ..
الأَلَقَ بُحُورَا
لَوْ أَنِّي لَمْ أُبْحِرْ فِي تَارِيخِكِ ..
أَزْمَانَاً وَعُصُورَا
لَوْ أَنِّي لَمْ أَنْزِلْ فِي تَارِيخِكِ ضَيْفَاً
لَوْ أَنَّكِ لَمْ تَلِدِي عِشْقِي
لَرَسَمْتُكِ فِي أَوْجِ فَضَائِي ..
غَيْمَةَ عِشْقٍ ..
تُغْرِقُنِي بِالمَطَرِ الأَخْضَرْ
وَأَضَأتُكِ فِي مِحْرَابِ جُنُونِي قِنْدِيلاً
يَزْرَعُ لَيْلاتِي أَقْمَارَاً
بِوِشَاحِ رُؤاهَا أَتَدَثَّرْ
لَوْ لَمْ تَنْحَتْكِ رُؤىً ..
ثَمِلَتْ لَيْلَةَ عِشْقٍ
لَنَحَتُّكِ مِنْ شَبَقِ حُرُوفِي
أَلَقَاً عَبَقَاً .. نَارَاً نُورَا
القراءة النقدية :
يمثل هذا النص بقية اللوحة الشعرية التي سعى إلى إحداثها في هذا الديوان فإذا كان في القصيدة السابقة يقدم قراءته حول طبيعة الشعرية ، ويبرع في هذه الحوارية المتألقة ، نجده هنا يستكمل هذه القراءة ويضفي عليها المزيد من الرؤية مما يجعل عشتار الأسطورة ذات بعد متكامل عميق الرؤية ، فلسفي الفكرة ، فيتجاوز بذلك عشتار الأسطورة إلى عشتار الذات الشاعرة وعشتار الكون الشعري، حيث يقول :
آهٍ عَشْتَارْ ..
أَنَا تَارِيخٌ حَطَّ التَّارِيخُ ..
رِحَالَ قَوَافِلِهِ فِي بَاحَةِ أَيَّامِي
وَغَدَاةَ ارْتَاحَ زَمَانَاً ..
شَدَّ حَقَائِبَهُ
وَبَقِيتُ وَحِيدَاً أَجْتَرُّ الذِّكْرَى
أَتَدَثَّرُ دِفْءَ عَبَاءَتِِه شِعْرَا
هنا نرى حوارا بين الذات الشاعرة والتاريخ : أَنَا تَارِيخٌ حَطَّ التَّارِيخُ .. ، لقد امتزجت الذات مع التاريخ كله وباتت قادرة على الحوار مع عشتار التاريخية ، وهو حوار زمني ، يشي بعمق الأزمة التي تعانيها الذات ، وهي أزمة اغتراب ، ناتج عن هزيمتها في هذا الواقع الأليم ، لا أستطيع أن نفصل ذات الشاعر الفلسطينية عن قراءة النص ، فأرى أن اجترار الذكرى ، والسعي إلى دفء العباءة ، إنما هما رمزان لضياع الذات وسط واقع عربي إسلامي مهزوم ، وواقع ذاتي يعاني الاحتلال . والرمز هنا ليس لغويا وإنما يجمع اللغوي والشعوري وفقا لمفهوم الرمزية في النقد الحديث الذي جعل الرمز ذا بعد نفسي يفضح الذات ويشي المكنون .
ويقول :
لا تَرْتَحِلِي .. الَّلَيْلَةَ شِعْرٌ ..
وَغَدَاً شِعْرٌ يَا عَشْتَارْ
لَنْ أَصْحُو مِنْ سَكْرَةِ قَلَمِي
الشِّعْرُ شِرَاعٌ يُبْحِرُ فِي أَنْوَاءِ دَمِي
لا تَرْتَحِلِي
مَازَالَ صَهِيلُ كُؤُوسِ الشِّعْرِ يُطَارِدُنِي
يُدْنِينِي السَّاقِي مِنْهُ .
الليلة شعر وغدا شعر ، تناص على مستويين : تناص خارجي مع مقولة التراث الليلة خمر وغدا أمر وما ذُكِرَ في النص السابق ، أي يتناص مع النفس ، من أجل تثبيت الرؤية وتعميقها على امتداد النصوص ، وهنا نؤكد أن هذا الديوان ( ديوان عشتار .. والنصان منه ) يمثل توجها نادرا في الشعر العربي أساسه رؤية كلية عبر قصائد شعرية لموضوع واحد أو عزف لحن واحد بأوتار وآلات عديدة وكل وتر يعطي اللحن توهجا مختلفا . ونتوقف هنا عند وشيجة بين النصين : وهي وشيجة الإبحار ففي النص السابق يقول : " يُبْحِرُ في زَوْرَقِهِ .." ، وهنا يؤكد : ألشِّعْرُ شِرَاعٌ يُبْحِرُ فِي أَنْوَاءِ دَمِي " ، فالإبحار في النص السابق خاص بالذات الشاعرة ويعطي دلالة الفعل الإيجابي للذات وهي تقرأ الكون ، وتتأمل أبعاده ، ومن تقيم تقيم قلعة الشعر . أما هنا ، فالشاعر يرتد إلى ذاته ثانية " أنواء دمي " ، لمزيد من التأمل النفسي ، ذلك أن التجربة الشعرية تبدأ وتنتهي بالنفس ، فإذا غرقت في الكونية ، وانشغلت بقلعتها ، فإن النفس ستخبو ، ويموت إلهامها .
ثم يأتي الخطاب الشعري بالمؤنث :
لا تَرْتَحِلِي
مَازَالَ صَهِيلُ كُؤُوسِ الشِّعْرِ يُطَارِدُنِي
يُدْنِينِي السَّاقِي مِنْهُ ..
فكيف ترتحل عشتار ، وهي غير موجودة ، إنه رحيل الإلهام ، ورحيل التاريخ بكل عظمته وأسطورته التي تختال الذات بها ، وربما جاءت الصورة التالية للخطاب غاية في الصوتية : فالصهيل والكؤوس علامتان صوتيتان وهما مضافان للشعر ، توكيدا على أن العلاقة مع عشتار علاقة إبداعية نفسية ، فالشاعر لاجئ لعشتار ، ولا يستطيع الفكاك منها ، لأنه ببساطة واقع في سكرها وخمرها ، بدليل قوله : كؤوس ، يدنيني الساقي منها . إنها علاقة خمرية بالمعنى الإيجابي للسكر ألا هو الوله والتعلق. وتأتي مقولته : " يُدْنِينِي السَّاقِي مِنْهُ .." ، لتعيدنا إلى الأرضية ، فلفظة الساقي / النادل ، مجرد لفظة واحدة ، ولكنها قلبت المشهد من السماوية إلى الأرضية ، ومن ثم البشرية .
آهٍ عَشْتَارْ
لَوْأَنِّي لَمْ أَقْرَأْ فِي لُجَّةِ عَيْنَْيكِ ..
الأَلَقَ بُحُورَا
لَوْ أَنِّي لَمْ أُبْحِرْ فِي تَارِيخِكِ ..
أَزْمَانَاً وَعُصُورَا
لَوْ أَنِّي لَمْ أَنْزِلْ فِي تَارِيخِكِ ضَيْفَاً
لَوْ أَنَّكِ لَمْ تَلِدِي عِشْقِي
لَرَسَمْتُكِ فِي أَوْجِ فَضَائِي ..
غَيْمَةَ عِشْقٍ ..
تُغْرِقُنِي بِالمَطَرِ الأَخْضَرْ
المقطع السابق يؤكد أنثوية عشتار في الذات الشاعرة ، وعمق الزمنية فيها ، لتصبح عشتار عنوان الجمال والتاريخ العريق ، ونقف هنا عند اللون الأخضر، حيث يأتي وصفا للمطر ، والمطر حامل الخير ، وعندما ينعت بالأخضر فهو يشي بدلالة مسبقة ، استباقية ، فالمطر سبب في الإنبات ، والنبات أخضر . كما تكتسب دلالة الإبحار – المتقدمة – بعدا جديدا ، حيث يقول : " الأَلَقَ بُحُورَا ، لَوْ أَنِّي لَمْ أُبْحِرْ فِي تَارِيخِكِ .." فينتقل الإبحار من دلالتي الذاتي والكوني ( السابقين ) إلى الزمني / التاريخي ، وهذا متسق تماما مع الرؤية المرادة في النص هنا ، فهو يقيم حوار مع عشتار الأسطورة ، وهي أسطورة تاريخية موروثة من حضارة بلاد الرافدين ، فطبيعي أن يكون هنا قراءة جديدة لها ، وهذا ما تأكد في جنبات النص. فيقول : " لَوْأَنِّي لَمْ أَقْرَأْ فِي لُجَّةِ عَيْنَْكِ .." فاللجة ( لفظ مائي بحري ) دال على الجمال الحسي ، واختار العينين إمعانا في الحسية ، وخاصة أن البحر حاسي مادي غامض عميق .وعشتار غامضة – مهما تعمقناها – للعقل ، إلا أن الشاعر يعمد من خلال إضافة لفظة " عينك " إلى لجة ، لإضفاء الأنسنة على الأسطورة تمهيدا لإنزالها من عليائها . وتتأكد دلالة الإبحار الزمني التاريخي بقوله :
لَوْ أَنِّي لَمْ أُبْحِرْ فِي تَارِيخِكِ ..
أَزْمَانَاً وَعُصُورَا
لَوْ أَنِّي لَمْ أَنْزِلْ فِي تَارِيخِكِ ضَيْفَاً
لَرَسَمْتُكِ فِي أَوْجِ فَضَائِي ..
غَيْمَةَ عِشْقٍ ..
وجاء البحر في التاريخ رابطا بين الحسي في العيون والحسي في التاريخ ، لتصبح دلالة الإبحار جامعة الزمن والحسية والمكانية ، ويظل التاريخ ضيفا لأنه ماض غير حاضر ، وهذا الارتداد التاريخي لا يفعل فعل المؤرخ أو الباحث ، وإنما فعل الشاعر من خلال قراءته الجديدة للأسطورة ، حيث يضمها إلى عالمه الشعري المساوي لدلالة " أوج فضائي " ، فالفضاء خاص به ، ووضحت الدلالة بذكر غيمة عشق ، فالعشق جزء لا يتجزأ من كون الشاعر وقلعته ، فهل تأنسنت عشتار وأصبحت محبوبة للشاعر ؟ لله ما أشد عصف الخيال ! وما أروع المعشوقة الأسطورة . وتمثل خاتمة النص محورا جامعة لقلعة الشعر :
يَزْرَعُ لَيْلاتِي أَقْمَارَاً
بِوِشَاحِ رُؤاهَا أَتَدَثَّرْ
لَوْ لَمْ تَنْحَتْكِ رُؤىً ..
ثَمِلَتْ لَيْلَةَ عِشْقٍ
لَنَحَتُّكِ مِنْ شَبَقِ حُرُوفِي
أَلَقَاً عَبَقَاً .. نَارَاً نُورَا
_____________________________________
* د. مصطفى عطية جمعة - إتحاد كتاب مصر