" البحث عن الزمن الضائع" رائعة الكاتب الفرنسي مارسيل برووست كانت من العمقِ والادهاش ماجعلها سيرةَ الزمن والشعور، حالة من حالات التأمل والاستبطان و تجسيداً للأنا والعالم الخارجي..
يقول برووست:" ليس العالم ذاك الذي ينتظمُ ويتناسقُ حولنا بل هو في دواخلنا ـ إنه نحن ـ
فنحن الذين نعطي أنفسنا ذاك الحجم والبعد حين نهتم بما يثيرنا من حبٍّ وغيرةٍ وغضبٍ ووو... ونحن الذين نُلغي ذواتنا حين باللامبالاة نتعامل مع الحدث...
إن الحدث وما يولِّده فينا من مشاعر لابدَّ وأن يخلقَ لدينا مفاهيمَ معينة تهيمن على حياتنا الخاصة"...
فتصوير المجتمع السطحي والهش عملٌ معقَّدٌ وعميق...
وكما الانطباعيين ، كان برووست يدركُ عمق الموضوع منذ تبلورِ الفكرة، فقد لاحظ أن الشعور بالعدم ليس إلا إعادة خلقٍ لهذا العدم، وبذلك تنتفي فكرة العدم ليصبحَ الحياة بأسرها والغِنى بمطلقه...
إن سيكولوجية برووست لم تكن سكونيَّة بل تطورية وتحركية؛ فهو يدركُ أن ( الأنا) هبة تتطور وتتغير على الدوام وأن كلٌّ من الاستمرارية والدوام لم يكن عبثاً أو من أجل الألم...
وحده الماضي ملكٌ لنا أما الجنة الحقيقية برأيه فهي تلك التي ضيَّعناها لكن مؤقَّتاً وليس للأبد...
فالذاكرة ستعملُ من جديد على بعث هذه الجنة التي نفتقد في الزمن الحاضر...
تلك الذاكرة اللاإرادية حاضرةٌ دوماً لاستقبال الحاضر المجرَّد لأنها تبني صرحَ الذكريات الشاهقِ العمق..
وقد اخترتُ مقطعاً من روايته ، فيه يتحدثُ عن أثر العطر في الذاكرة ـ الزمن/المكان...

ثمة عطر سرمدي!...

" لقد بقي كلٌّ من Meseglise و Guermantes ـ منطقتيْن في الريف الفرنسي ـ مرتبِطٌ بأحداثَ صغيرة تتشابكُ وحياتي الفكرية الأكثر غنىً بالأسطورة والمفاجآت..
هذه الأحداث نمتْ داخلي لكنها فتحت أمامي سُبُلاً لم أكن لأدركها فيما مضى(الشكل والمعنى)_الحقيقة.
فمنذ أمدٍ بعيد ونحن نسعى لتحقيق ثمة اكتشاف ، لكنه ( الاكتشاف) قائمٌ منذ اللحظة التي أصبحنا فيها إما زهوراً على العشبِ تميسُ أو جداولَ عذبة تجري حيث الشمس...
والذي يحيطُ بهذا المشهد حتماً سيواصلً مسلسلَ الذكريات بحثاً عن الحقيقة ـ ذاك الوجه التائه ـ.
أما الذي عابراً يتأمَّلُ المشهد المتواضع رغم غناه فهو كالطفل الذي يحلمُ بأن يُصبحَ ملكاً في وثائقَ مفقودة بين الناس...
هذا الركن من الطبيعة أو ذاك الطرف من الغابة، من المحال أن ينعمَ كلٌّ منهما بالحياة وبخصوصيةٍ مؤقتة لولا المؤلِّف.. إن عطر الزعرور الممتد على طول سياج زهر النسرين سيتبدَّلُ عما قريب..
ها صوت خطوةٍ على الحصى المبعثرة فوق الأرض لكن لا صدى..
وهاهي فقاعات الماء تجتمعُ على حواف النهر التي تتصل بالحقول لتجتازَ بعد قليل سنوات وسنوات..
بينما اندثرَ كل الذي يحيط بالدروب وكل الذين عبروها...
هذا المقطع من المشهد الراسخ في ذاكرتي حتى الآن منعزلٌ عن كل شيء، إنه وبغموضٍ يتردد عى ذهني مثلما * ديلوس _جزيرة دائمة النضارة ، لكن لا أعرف من أي زمان أومكان أو ربما من أي حلم !...
كلٌّ من المنطقتين يمثل بالنسبة لي طبقة معدنية عميقة في الأرض، بل أرضاً صلبة ثابتةً أعتمدُ عليها حتى الآن...إنني ورغم تجاوزي للأشياء والكائنات التي تمنحني السعادة والسرور، فما أزالُ أؤمنُ بالذكريات إما لأنها تخلقُ داخلي زمن الصبا أو لأن الحقيقة لا تتشكَّلُ إلاَّ في الذاكرة..
هذه الذكريات جعلتْتني أدركُ أنَّ الأزهار التي رأيتها اليوم وللمرة الأولى تختلف عن تلك الحقيقيةفي الماضي
وأن منطقة الــ Meseglise حيث الزنابق ، شجيرات الزعرور، المنثور والتفاحيات قد شكَّلتْ و منطقة
الــ Guermantes بنهرها وأزهار النيلوفر صورة البلدة التي أحببتُ العيشَ فيها حيث كنتُ أذهبُ للصيد
والتنزه بالزورق لرؤية الآثار الغوطية ككنيسة ( آندريه ــ قديس الحقول) والتي كانت وسط حقول القمح
كطاحونةٍ ذهبيةٍ قد نسيها الزمن... وكذلك للاستمتاع بمنظر ورائحة الزعرور والتفاحيات في الذهاب والاياب..
هاتين المنطقتيْن لهما صلةٌ وثيقةٌ بقلبي لأنهما من حيث العمق هما بمستوى الأمس الذي مضى..
وهناك خصوصية المكان؛ فحين أرغبُ زيارة الـ Guermantes ليست الرغبة وحدها هي التي تأخذني
إلى ضفاف النهر حيث النيلوفر الأكثر جمالاً من الذي في منطقة Vivonne التي أنا فيها حالياً،
وليس أيضاً حلول المساء حين يصحو الألمُ بداخلي ليسافرَ في الحب فيصبح جزءاً لا يتجزَّأُ منه،
بل الخصوصية، خصوصية المكان...
ففي مُدخَلِ درب البلوط، هناك السهول الممتدة كمستنقعٍ يعكسُ أشعة الشمس على التفاحيات فتبدو
في غاية الجمال .. وفرادةُ هذا المشهد تغيِّبُني فلا أصحو مطلقاً من ليل الأحلام التي لم تكن لتختبرَ مشاعري فيما تعرضه هاتين المنطقتين من ذلاتٍ وخيبات أملٍ مستقبلية بل لتوحِّدَني بها وبشكلٍ سرمدي... إن الرغبة برؤية أي شخصٍ يذكِّرُني بسياج الزعرور تحرِّضُ فيَّ الخيال...
تلك الشجيرات ماتزال حتى اليوم حاضرة في وجداني، تحاصرُ نفسها لتأخذَ من العمقِ بعداً رابعاً ( الزمن)
تنفردُ به دون غيرها ما أضفى عليها سحراً مميزاً أشعر به وحدي ...
ففي ليالي الصيف، وحين تعلن السماءُ قدوم العاصفة ، يبدي الجميع استياءه بينما وحيداً أبقى لأتنفَّسَ
ذهول الطبيعة ونشوة الأرضِ حين المطرُ يهمي...
ها هو المكان بل الكون ، يتأرَّجُ بعبيرِ الزنابق الراسخ بالذاكرة حتى اللحظة...".

*******

هذا الموضوع يدفعني لاستحضار أزهار الشر ( العطر) لبودلير:

" سحرٌ عميقٌ يجعلنا في حالة ثمالةٍ وانتشاء في الزمن الحاضر، إنه الماضي المتجدِّد...".

وبمعرضِ أبياتٍ شعريةٍ لبودلير أستحضرُ أيضاً قوله:

" يا لسحرِ العدم المبَهرَجِ بالجنون"...
فالكوميديا الانسانية كما يقول برووست... " ليست مزيفة بل حيوية" ....

نضال نجار

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية