في كتاب (أسئلة اللغة أسئلة اللسانيات، ص 225) طُرح هذا السؤال على باحث لغوي:

"هل النحو العربي قادر على وصف اللغة العربية المعاصرة، وهي لغة تختلف عن تلك التي قعد لها النحاة منذ مئات السنين؟ وهل هذا هو مصدر صعوبات النحو التي تؤرق الناشئة؟ وما هو المطلوب في نظركم؟

لقد اهتم العرب قديمًا باللغة العربية اهتمامًا كبيرًا. ويظهر ذلك في إنزال الشعراء منهم منزلة عظيمة، فكان الفصيح والبليغ منهم إذا أحسن في شعره علقوا على جدار الكعبة شعره، ولهذا كان يطلق على الشعر المعلق "المعلقات"، كمعلقات عنترة وغيره من الشعراء. وكانت القبيلة منهم تحترم القبيلة الأخرى وتخاف الهجوم عليها نظرًا لوجود شاعر معهم يتميز بحسن الرد، والقبائل آنذاك تخاف أن يذكر اسمها بسوء يتداوله الناس فيما بينهم وتكف ذلك عنها.

 

وبنزول الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم عن طريق جبريل وإتيانه بالقرآن العربي تمسك العرب كثيرًا بعربيتهم، وحاولوا تفسير القرآن الكريم بالشكل الصحيح. فقد كان يروى أن أحد العرب قام يقرأ في الآيات "إنما يخشى الله من عباده العلماء" وأخطأ في تشكيل الآية فتبدل معناها، وأصبح الله هو الذي يخشى عباده. فأوصل أبو الأسود الدؤلي هذا الأمر إلى الخليفة فقال له انحُ هذا النحو، أي اتبع هذا الطريق الذي سلكته في التقعيد.

وكانت هذه أول بداية جعلت العرب تهتم بالنحو، وذلك بهدف الحفاظ على القرآن وتبيان العيوب التي تقع فيها العامة من الناس. وتصحيحها هذا يظهر جليًا في الآية القرآنية: "أن الله بريء من المشركين ورسوله" فهناك من يجر كلمة رسوله وهذا خطأ، والصواب أن يضمها لأن المعنى الأول يجعل الله بريئًا من الكافرين ورسوله معًا، أما المعنى الثاني فإن الله ورسوله بريئان من المشركين. وبهذا تظهر مكانة النحو في إظهار المعنى وتبليغه وتبيان الصحيح من القبيح في الجمل. وإذا أردنا الانتقال من لغة القرآن إلى اللغة العربية المعاصرة الآن فسنجد أنها تختلف نسبيًا عن تلك التي قعد لها النحاة منذ مئات السنين، فنجد عدولاً في استعمالاتهم وتضميناتهم.

 ولا يمكن فهم نصوص الأدبيين والروائيين منهم بمعزل عن مناهج أخرى خارجية عن البنية النصية: كاللسانيات الاجتماعية ونظرية التواصل، واللسانيات التداولية بحيث لا يمكن فهم النص إلا من خلال علاقته بما حوله، فنجد بذلك الدارسين يركزون، كل حسب اختصاصه، على جانب من الجوانب التالية: كالمرسل، المتلقي، الرسالة، العملية التأثيرية، الإفادة، نية المتكلم، الإفهام... إلخ. ويجتمع كل هؤلاء الدارسين في الإطار العام وهو الإطار التواصلي، فهم يبحثون عن طبيعة التواصل وأركانه مختلفين في الاتجاه الذي يسلكونه، فالتداولية مثلاً هي التي تدرس اللغة في الاستعمال (المقام) متجاوزة حدود الخطاب إلى النظر في الأفعال الكلامية. ورغم الأصول العربية للتداولية، حسب محمد العمري، حيث يرى أنها ذات أصول جاحظية حيث اهتم الجاحظ بهذا المستوى في كتابه "البيان والتبيين"، وحيث يرى كذلك دورها في عملية التأثير في المتلقي والإقناع، وقد أطلق عليها تسمية أخرى مخالفة للتسمية المتداولة الآن عند الدارسين وهي: "نظرية التأثير والمقام"، رغم كل ذلك إلا أن هذا لم يمنع الغرب من أن يستعملوها. فنجد أول من استعمل هذا المصطلح (pragmatique) بورس، ومن الذين دعوا إلى تحليل تداولي للخطاب نجد موشلر غيره.

 فاللغة العربية المعاصرة لا يمكن وصفها بمعزل عن المناهج الأخرى. فمثلاً الحكاية، تقوم التداولية باستخراج سارد الحكاية المتضمن داخل الحكاية (homdiegetique)، والسارد خارج الحكاية (hétérodiegétique)، والعوامل (les facteurs)، والحجج (les arguments)، والاستدلالات (inferences)، وغيرها بغية الوصول إلى معنى الأفعال الكلامية (le sens des actes paroles) ومقصديتها ومدى تأثيرها على المتلقي، والنحو غير كافٍ للإلمام بهذه المعاني الناجمة عن الروابط، والتكرارات، والتضمينات، والتأكيدات، وهذا مصدر صعوبة النحو التي تؤرق الناشئة. فالنحو لا بد أن يساير هذا الاتجاه بدراسة الصيغ والتراكيب التداولية في إطار عام يطلق عليه النحو التداولي، يكون هدفه إبراز المعاني التي تحملها هذه الصيغ النحوية الحسنة وغير القبيحة بل المستقيمة في تركيبها ومفرداتها في ظل المقام والاستعمال. ويمكن في جانب آخر دراسة الصيغ النحوية العدولية الخارجة عن الإطار النحوي المتعارف عليه تداوليًا ومدى التأثيرات التي تحدثها في ظل الاستعمال على المتلقي. ولهذا لا بد للنحو العربي من مسايرة التيار حسب تنوع الخطابات والمناهج التي تدرسه.

 

 التدقيق اللغوي: أنس جودة.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية