حين يكون الحدث بحجم فدوى طوقان ، فان الحديث عنها يبدأ وقد لا ينتهي . وبداية فان المبدعين يموتون ولا يموتون . فالموت يعني فناء أجسادهم . اما ارواحهم فهي ذكراهم ، وذكراهم هي شمس ابداعاتهم التي لا تغيب . وهنا فان المبدعين لا يموتون ، وفدوى مبدعة أي مبدعة . وهكذا هي فدوى بنت فلسطين ، زهرة الفل الجبلية التي لا تعرف الذبول ، ولدت في احضان جبل النار لتصبح احدى مشاعله الخالدات .
*) بهذه المقدمة المتواضعة أقف اليوم ، لا لأرثيها وانما لأتغنى بسيرتها الابداعية ، وأروي سطورا مضيئة من حكايتي معها . وكيف لا ، وأنا تربطني بها منظومة علاقات مواطنة وجوار وفضاء شعري وحوار ٍٍٍ. *) عرفت فدوى لأول مرة يوم قرأت قصيدة المرحوم والدي عبداللطيف زغلول بعنوان " الى شاعرة فلسطين " بتاريخ 15/2/1950 ، وأروي هنا مقاطع منها :
يا أخت ابراهيم هــاك تحــية - بالـود مزجاة الـى علياك
حلقت في جو القريض وهمت في – واد العروض فشع فيه ضياك
وورثت مجـد الشعر عن أقطابه - ونبغت في دنياه دون سواك
وحملت من بعــد الفقـيد لواءه - وبنيت بالأدب الرفيع علاك
يا من لك الخنساء تحنـي رأسها - ما مات ابراهيـم اذ ولاّك
وعرفتها أكثر يوم أهدت والدي ، وكانت تربطه بها علاقة صداقة ، ديوانها الأول " وحدي مع الأيام " ويومها كتب لها قصيدتين وردتا في ديوانه الذي صدر حديثا تحت عنوان " نفح الذكرى " ص 96 – 99 .
*) ومع الأيام عرفت من هي فدوى طوقان . انها بالنسبة لي شقيقة ابراهيم طوقان الشاعرالفلسطيني الكبير الذي طالما تغنينا بقصائده يوم كنا على مقاعد الدراسة ، وما زلنا نتغنى بها . وهي الشاعرة التي قرأنا قصائدها في الصحف والمجلات ، فكانت سفيرة الشعر في الوطن ، ورسولة الحب الى القلوب الظامئة للمحبة على هذه الأرض . وهي التي كنا معها ولم تكن " وحدها مع الأيام " حتى "وجدتها " . وهي التي رفعنا أيدينا معها الى السماء سائلين اياها " أعطنا حبا " .واذا كان الليل عند سواها هو العشق والتجلي وفرسانه العشاق والسمار ، فالليل عندها هو الاحتلال البغيض الذي اغتصب وطنها فتحدته بفرسان المقاومة في " الليل والفرسان " . وهي هي الشاعرة الفلسطينية المجددة التي أخرجت الشعر من عتمة الرتابة ، وفتحت أمامه " الباب المغلق " ، وألبسته ثوبا جديدا لونته بالرقة والعذوبة والرومانسية والبساطة ليكون خبزا روحيا للناس . وهي كل هذا وذاك ، ولكنها لن تكون " اللحن الأخير" ، لأن همس قصائدها سيظل يسافر في جوانحنا ما حيينا ، ومن بعدنا الأجيال فالأجيال .
*) واليوم وقد شيعنا ذلك الجسد النحيل ، تظل ابتسامتها فينا شمس قصيدة لا تغيب عن نهاراتنا ، وقمرا بلون الحب يعانق ليالينا ، ومطرا أخضر يروي صحراء ايامنا حتى تخضوضر وتزهر وتفجر فينا كل الحب الذي كانت تبشر به ، ودليلا حاديا في كل رحلاتنا الجبلية والأصعب حتى تحط رحالنا ذات يوم على أرض الوطن وقد أصبح لنا بكل مغانيه .
*) واليوم آوي الى محراب القصيدة والذكرى خاشعا تعود بي الذاكرة الى أيام خلت كانت لي فيها محطات خاصة مع فدوى طوقان ، أسترجعها في هذه العجالة . في صيف العام1993 كرمتني " الجمعية الثقافية الاجتماعية " في مدينة نابلس بأول أمسية شعرية لي . لكن التكريم الأكبر كان حضور فدوى لهذه الأمسية وتلك الابتسامة التي كانت ترافقني وانا أسافر من قصيدة الى اخرى ، فأحلق الى مدارات من النشوة والأمل والاعتزاز . ويشهد على ذلك الشريط المصور الذي ما زلت أحتفظ به ، وتلك الصور مع شعراء المدينة التي كانت فدوى فيها واسطة العقد .
*) وكيف أنسى شهادتها بي المدونة في أول ديوان شعري لي " منك .. اليك " في العام 1994 . كانت كل كلمة منها بمثابة جناح حلقت فيه الى فضاء الشعر والتجلي يوم قدمت لها هذا الديوان وقالت لي : أنت شاعر .
*) وكثيرة كثيرة هي الذكريات والمناسبات واللقاءات واللحظات السعيدة التي استمعت فيها اليها واستمعت هي لي . ومرة اخرى تستوقفني ذكرى تكريم شقيقها الشاعر الفلسطيني الكبير ابراهيم . ويومها فقد أوصت المركز الثقافي الفرنسي راعي الحفل أن اكون من " شعراء نابلس يكرمون ابراهيم طوقان " وهو عنوان الكتاب الذي صدر لاحقا باللغتين الفرنسية والعربية ويتضمن قصائد التكريم ومنها قصيدتي بعنوان " همسة حب لابراهيم ". في الحفل الكبير الذي أقيم في صيف العام 1999 في دارة آل طوقان التي ولدت فيها فدوى اولى قصائدها .
*) واذا كان هذا قد جرى على أرض الوطن ، ففي ربيع العام "2000" أوفدتني بلدية نابلس الى المملكة المغربية الشقيقة ، وتحديدا الى " تطوان " التي تربطها بنابلس علاقة توأمة لحضور فعاليات مهرجان عيد الكتاب الوطني . ويومها كان لي الشرف أن أحمل شريطا مسجلا بصوت فدوى طوقان أذيع في الاحتفال الكبير الذي حضره ممثل عن جلالة الملك محمد السادس ، ووزير الثقافة المغربي ولفيف من كبار الضيوف والأدباء المغربيين والعرب وجمهور غفير . وكنت أكثر سعادة يوم قرأت في هذا الحفل بعضا من شعرها ومن شعري. ويومها استعادت في شريطها هذا بعضا من ذكرياتها مع الطلاب المغاربة الذين كانوا يدرسون في مدرسة النجاح الوطنية في بدايات العقد الثالث من القرن العشرين المنصرم .
*) وكانت آخر مرة أرى فيها فدوى يوم كنت ضمن وفد وزارة الثقافة الفلسطينية الذي زارها لللاطمئنان على صحتها في المستشفى ، ويومها أهديتها آخر كتابين لي ، وكتاب " نفح الذكرى " للمرحوم والدي الذي خصها بقصيدتين فيه ، وأسمعتها قصيدة وطنية من شعري .
*) لن أقول وداعا يا فدوى . فأنت لم ترحلي الا جسدا فانيا . أما روحك فسوف تتحد بها أرواحنا وأرواح كل المبدعين ليظل الابداع منارا يضيء حلكة الحياة . يا اضاءة في فضاء الوطن . وختاما اهدي لروحك الخالدة هذه الأبيات :
يا طائر حب .. يسكن فينا
يقرئنا .. أحلى الأشعار
يا زهرة فل فاح شذاك ..
وحط على كل الأزهار
يا "رحلة عشق جبلي"
سافرت الى " قمم الدنيا "
وشددت الرحل الى الأقمار
ورجعت على أجنحة الشوق ..
الى صرحك في " جبل النار "