وكان الوداع كما أردته أنت أن يكون.. بدون أية ضجة..وفي صمت..حسبه أبناؤك ،و محبوك ومريدوك صمتا رهيبا موحشا.كانت أمانيك أن تلقى الله من غير ضوضاء إعلامي .. فكان لك ذلك لكن يأبى الجميع أن لا يبكوك ولو قصَّروا في حياتك في أن يذكروك ،أو يعودوك.لست وحدك العظيم من نساه أبناءه في زحمة الحياة وعراكها المر.. ولو أن النسيان طبيعة إنسانية فإنسانيتك،وعلو همتك كانت فوق كل لوم أو عتاب لا هم لك سوى أن تلقى الله والطهر يملك جنبك الذي هدَّه المرض والكبر هدََّا..ويملك قلبك الكبير الذي وسع الجميع في يوم من الأيام.فأنت كبير .. والكبير عطاَّء للحب.. متغاض عن الهفوات والزلاّت.. وهل الجزائر لم تر منك سوى العطاء والحب.. فيكفيك أنك معلم الجميع،و أب الجميع ،ويكفيك أن التاريخ سيذكرك بخير لا ريب في ذلك .. ويكفيك أن ثروتك أعمالك،و علمك الغزير وسيرتك العطرة الجليلة شاهدة لك لا عليك. فكلها صدقة جارية ستضيء بإذن الله قبرك.قدرك أن تموت وأنت طريح فراشك على الرغم من أنك كنت على مرمى حجر من الموت كذا مرة.. فساحات الوغى التي كانت صيحتك تملؤها لم تنل منك .. وأعداؤك الذين أرهبتهم بسلاحك البتّار في معارك البقاء ..لم يستطيعوا صدك عن ما عاهدت به الله على طول مسارك الجهادي.لقد طلبت الموت في جهادك للاستعمار الفرنسي فجاءتك الحياة صاغرة.. تتملق تحت رجليك.. وطلبت العزة للحركة الإصلاحية للشيخ عبد الحميد ابن باديس التي أنت ابنها الشرعي والأصيل.. فصعدت بك نحو العلياء فكنت نبراس الكلمة الطيبة على لسانها ،ونجما ساطعا في سمائها، وشهابا يرجم كل شيطان رجيم من أوتاد الكفر والبغي .. حتى قال فيك الفضيل الورتلاني"فطر في هذه الأجواء الروحية يا سحنون".. فطرت كالنسر لا يثنيه عن ذلك غيمة،أو مطر،أو زمهرير.لو قلنا لك الوداع فليس ذلك إلا وداع الجثمان..لأن الحبيب لا يحسن أبدا فن التوديع ولو أن لا مناص من ذلك.. فلن يشغل باله عن الذكرى،وذكر من يحب. آلمني اليوم الذي رأيتك فيه وأنت طريح فراشك ،فاقد للذاكرة .. وفرحت في نفس الآن أن عيني قرت وهي تنظر إليك .. وجسمي ينحني ليقبل خدك الأيمن الطاهر. وكم أعجبتني قولتك " ما شاء الله" عندما همست في أذنك أذكرك بإسمي .. لما طلبت إسمي.ولما قيل لك أنني صحفي أبيت أن تخوض في أي شيئ وحتى التسجيل الصوتي الذي أردته أنا فقط للذكرى لا لأي شيئ رفضتَه أنت رفضا قاطعا.. وحتى الصور التي أخذتها لك ألححت علي بأن تكون صورا فقط للذكرى لا للنشر.. وستبقى للذكرى وللوفاء وللمودة أبدا ما حييت.. لكن استسمحك في أن يراك محبوك الذين لم يجدوا الحظ في أن يروك للمرة الأخيرة وأنت على فراش المرض.. وعلمي أنك ستحب ذلك .. لأن الحرص على الوصال مع أبنائك ومحبيك دأبك وشيمتك وخصلة فيك متأصلة .يكفيني فخرا أنني قبَّلت يدك الطاهرة وأبيت أنت إلا أن تقبل يدي بدورك أيضا.فكيف لا تكون تلك الضمة الحارة التي آنستها للحظات ومذاقها الطيب في نفسي لا يزال يجري في كل عروقي مجرى الدم.. كالطيب الذي كان يفوح منك ،وأني أحسبه طيب الجنة الزكي.
رحلت عنا وهذه سنة الله في خلقه فلا بقاء إلا وجهه سبحانه وتعالى،وكم تمنيت أن أكتب عنك و أنت تتنفس الهواء،وحراكك لا يزال لم يغب .. لكني نزلت عند رغبتك الملحة في أن لا أفتش عنك في مرافق المجد.. وأنت أهل للمجد والسؤدد..وأن أتركك وشأنك تنتظر اللحظة التي يختارها ملك الموت من أجل السفر للرفيق الأعلى..فالصحافة التي كتبت عنك لا أحسبها قد أرادت شيئا أو غنيمة من وراء كل ذلك .. فالحب الوحيد كان هو الدافع ..وكان المحفز.. ومن يجرؤ على أن يجيز لنفسه التجارة الرخيصة باسمك .. وأنت من أنت .دعوتك لي لا تزال في كياني ووجداني منقوشة ورجائي أنها مقبولة عند الله سبحانه وتعالى .. وهل من رجاء إلا أن نكون مقبولين عند الله وعند من هم على طينتك الطيبة.. إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال" يحشر المرء من أحب" ونحن نحبك وإننا نعترف أن أعمالنا مهما بلغت من الإتقان لن تصل إلى مستوى أعمالك.. فسيكفينا أن نحشر في زمرتك كرجل يشهد له القاصي والداني أنك صالح مصلح تحب الصلح وتحب أن يشيع الصلاح في ربوع المعمورة.إن الجميع يعلم أنك آثرت الانطواء على نفسك وأنت تتألم ،والوحدة وهي مرة من أجل أن لا تكون لك اليد في ما جرى للجزائر من فتنة.. والجميع يعلم أن أمنيتك كانت في أن تنشئ مدرسة قرآنية.. وحتى الشخصية التي كلفتها بأن تتكفل ،و تحقق لك هذا الحلم لم تبخل عليك.. وسبقها الزمن. وهي تذكرك باستمرار وتفاخر أنها تجلس تحت رجليك وأنت على فراش المرض.لقد عاجلك الموت الذي هو حق في ان ترى مدرستك القرآنية منارتها عالية تشق عباب السماء.. ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.." إن الله لن يخذلك وأنت في قبرك وسيتحقق حلمك وحلم أصلاء الجزائر في أن تكون هذه المدرسة القرآنية صدقة جارية لك هي الأخرى.فأي الكلمات أنتقيها كي أوفيك حقك،وأي العبارات أسردها كي أصفك بها وأنت الوصف والوصَّاف.. لو كان الخجل يقتل لقتلني وأنا أدَّعي الكتابة عنك. لأنه لا يكتب على عملاق وعبقري إلا مثله.. وأنّى لي صراحة تلك العبقرية حتى ادعي كذبا أنني في طولك وفي مقامك ،وفي همتك ،وفي عبقريتك.لكن يكفيني أن أقول بصدق أنني أحبك والحب أصدق من أي قرطاس أو قلم.. ومن أي تعبير . فلو قلت لك الوداع يا شيخ أحمد سحنون فإنني حطمت إذن كل ذكرى .. لكن أقول أنتم السابقون ونحن بكم إنشاء الله لا حقون،و رحمك الله وجزاك الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.. وجنة الخلد إن شاء الله...مع النبيين والصالحين والصديقين والشهداء.....