حينما تمر الشخوص الانسانية الغائبة بالذاكرة فإنها تتمثل في مظهرها الروحاني لا شكلها الجثماني، وحينما يُغيب الموت الحضور الجسدي للذات البشرية فإن الذاكرة الواعية تنجح في بعث الحضور الروحي للمغيب، وهو حضور ترسم ملامحه السجايا والطبائع المميزة للفقيد حسنة كانت او قبيحة، فإن اخفقت الذاكرة واستحضرت عوضا من ذلك الصورة الطينية الظاهرة فإن مرد اخفاقها الى احد امرين: قصر نظرها حين وقفت عند حدود المرئي المحس وعجزت عن التغلغل الى ما وراء ذلك من صفات جوهرية مستبطنة، او الى طبيعة الغائب الذي لا يعدو ان يكون نكرة مجهولا يقتصر وجوده حيا على حضوره البدني واما الروح فمغيبة عن المسرحين معا: الحياة والموت! بالأمس طوى الموت فيمن طوى نموذجا روحيا راقيا، فقد ودعنا الشيخ عبدالرحمن بن احمد الكمالي امام وخطيب جامع الجهراء القديم الذي قضى زهرة حياته على هذه الارض منذ خمسينيات القرن الماضي، وقاسم اهلها افراحهم واتراحهم بالسوية فقد كان مأذونا شرعيا يتولى عقد الانكحة، كما كنت تراه قائما على شفير القبر يوصي اهل المقبور بالدعاء له بالثبات والمغفرة ويواسيهم في مصابهم لكنه يوم الجمعة الماضي حل بطن اللحد موسدا ومودّعا, ولن اتعرض هنا لسرد سيرة الفقيد التاريخية فقد كفيتها بلا ريب، اذا ما يعنيني هو ذلك الحضور الروحاني للفقيد، وان سألتني ان اوجزه في كلمتين اثنتين لقلت لك (الأدب الرفيع) لقد كان الشيخ الكمالي مثالا نادرا للخلق الحسن، لم يؤثر عنه في فترة اقامته الطويلة ان آذى احدا بكلمة او رد إساءة بمثلها، فقد كان عف اللسان، طلق المحيا، دمثا متواضعا، محبوبا محمودا، وكان كما قلت في بعض المراثي:
اخلاقه تسع الجميع سماحة
كنسيم فجر اذ يهب عليلا
وله التواضع والدماثة آية
كانت الى رقّ القلوب سبيلا
هذا مع ما كان يلقاه من طبائع الناس المتباينة كالغلظة الاعرابية والغثاثة السوقية، محتملا ذلك كله بصدر رحب منشرح ومن شهد خطبة من خطب الفقيد علم مدى حرصه على التأنق في اختيار ألفاظها وتنميق عباراتها وتسجيع فقراتها، وكذلك كان حاله عند مخاطبة الناس وغشيان مجالسهم اذ كان ملتزما اصول اللباقة وقواعد اللياقة في الخطاب والمحادثة, ولم يكن رحمه الله يخلو من روح مرحة ودعابة لطيفة واذكر اني لقيته قبيل وفاته بأشهر قلائل في صحن الجامع وقد لاحت على صفحة وجهه آثار المرض والاعياء فقلت له ممازحا (لقد شخت ابا احمد!) فوثب وثبة خفيفة في الهواء اشفقت عليه منها مؤثرا بذلك ان يرد تهمة الشيخوخة بلسان الحال مثبتا انه ما زال شابا يافعا، وقد كانت روحه بحق كذلك!
ويبقى الوجه الباسم المتهلل عنوانا لا تخطئه عين الناظر الى الفقيد، يعبر بصدق عن طيب شمائله واخلاقه التي تبرز مفهوم التدين السليم في التعامل مع الناس، فكثيرون يعتقدون واهمين ان العبوس المتزمت وتقطيب الجبين والوجه الصارم هي عنوان الشخصية المتدينة، وفاتهم ان الاسلام قد عدّ طلاقة الوجه والتبسم المتزن من ضروب الصدقة، فبهما تعم روح التآخي وتسود الألفة ويأنس الناس بعضهم الى بعض، واذا كان المسلمون عموما مطالبين بتمثل هذا الخلق الكريم فإن المشتغلين بالدعوة الى الله خصوصا اشد حاجة الى التزام ذلك ليتمكنوا من كسب الناس واجتذاب قلوبهم وقد جاء في بعض الآثار (انكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق), رحم الله ابا احمد واباحه بحبوحة جنته.