فلتصمت النساء

تقدم الكاتبة السعودية بدرية البشر في مجموعتها الأخيرة الصادرة عن دار الآداب في بيروت " حبة الهال " أبلغ إدانة للسلطة الإجتماعية التقليدية في مجتمعها، ومن الملفت ان البشر نذرت هذه المجموعة والتي سبقتها قبل عشر سنوات ( مساء الأربعاء – دار الآداب 1994 ) لصياغة هذه الإدانة من اجل ان تكسبها قوة ساطعة وتحولها الى ما يشبه اللعنة التي تصب في مجملها على هذه السلطة وشكل تعاملها مع المرأة. تكتب البشر عن المرأة ولكنها في الوقت عينه تتمكن من عدم التفريط بعناصر السرد الأخرى، فالمرأة موجودة وغير موجودة لتكون جزء من الحياة نفسها والعالم نفسه لا على هامشه رغم انها كذلك، والمرأة حين تحل في القصة كشخصية ثانية ( حبة الهال ، البئر ) تبقى المحرك الأول للرحيق الداخلي في القصة وتعطيها لوناً ووهجا مميزين نابعين من القدرة التي للمرأة أصلاً على اختراق الحواجز السرد \\ نفسية مما يسم القصة نوع من الإلتباس الشفاف الذي يجعل من المرأة ركن العمل الأساسي والمحوري، هي إذا الحاضرة في كل مفاصل القصة حتى عندما لا تكون موجودة بشكل رئيسي، وهي المحاصرة بعالم تفيض فيه روائح الذكورة المجهولة التي لا تمس( جلست " مرزوقة " السوداء تخبرها عن رحلة عمرها الطويلة، وحب الرجال للعبث مع النساء الصغيرات الجاهلات، ومن اين يبدأون، بينما على الجاهلات الصغيرات أن يلزمن الصمت ولا يبدين أي مقاومة ) البئر 17 . وهي الى ذلك تبقى المرأة المشغولة بذلك الآخر المجهول الهوية بالنسبة لها ( ستخرقين قريبا يا مزنة، أذكري الله، كلامك ينثر الدم في وجه الرجال، ضعي لسانك في فمك ونامي ) البئر 22 ، لا نجد هنا تمرداً واضحاً ولا حتى دعوة الى التمرد بل سيرورة استسلام غير واعي لحقيقة ستعيشها الفتاة ولكنها تخاف من قدرة الرجل التي تصور على انها اسطورية في الجنس، غير انها تجد ان اسلم شيء تفعله هو ان تخلد الى ذاتها وتتخلى عن كل شيء عدا الكآبة والإنطواء ) ولكن ثمة في كتابة البشر أمراً ملتبسا، فهي لا تكتب أدباً نسائياً بحسب المفهوم الدارج والشائع وهي أيضاً لا تنتمي في كتابتها الى حركة الأدب التحرري الذي يسعى نحو هدف واضح ومحدد ينحو الى التحرر الإجتماعي على أسس ومفاهيم لا تحيد المباديء الأخلاقية بل تكتب قصص المرأة فيها كائن محوري هام وإنتاجي للمخيلة. لذلك نجدها تتجاوز الإلتزام بقضية المرأة والأدب النسائي وتكتب وهي متحررة من أسر هذه القضية دون التفريط بها بسبب أن الكتابة تخرج من واقعها الغير قادر على التحول والتطور رغم عدم إنتفاء الأسباب الداعمة لعملية التطوير والتغيير داخل المجتمع نفسه، فحركة بروز الثروات النفطية لم تؤثر سوى في ادخال نظم إقتصادية جديدة دون أي تغيير في العادات والتقاليد التي كانت سائدة قبل ذلك، فالعقلية القبيلة المتحكمة كليا في مفاصل الحياة الإجتماعية والإرتباطات الأسرية الخاصة والعامة لم تزح قيد أنملة عم ما تربت عليه ونمت بل ازدادت تمسكاً بما تعتبره ( الفضيلة ) التي تندرج تحتها مجموعة هائلة من القيود الصارمة تجاه المرأة والرجل نفسه، ففي مجتمع المرأة فيه محجوزة ليل نهار ولا تخرج للشمس ولا ترى الآخر الذي هو ايضا لا يراها، الرجل أيضا يكون مظلوما بحيث لا يمَّكنه هذا الأمر من عيش الحياة الطبيعية واكتساب الخبرات والتجارب إلا عن طريق الزواج الذي غالبا ما يكون فاشل كمؤسسة تعتمد في بنيتها الأساسية على التفاهم والحب الذي يبنى عادة عن طريق التجربة التي تسبق الزواج من أجل اتخاذ القرار به. وتسهب البشر " بجمل مكثفة " تتميز بها، في التعريف على هذه الحالة الواقعة عمليا بين زمنين لا فاصل بينهما، بل ما يوحدهما هو إستمرار الذهنية نفسها التي بدأ عليها وفي انتهاجها المجتمع منذ بداية تشكله. نساء البشر كما تروي سيرهن لا يحتجن الى وسائل مثل الصراخ لإعلان التمرد ضد الواقع السلبي الذي يعيشون في قلبه ومجراه لكي يصلن الى التحرر الخالص من سجنه، ولا أيضا هن بحاجة لأن يصرخن في وجه الواقع الذي لايزال يصنعه الرجل بقوته دون الإهتمام بالمرأة ودورها ووجودها، ولكنهن يتمردن بدون صراخ وبدون ثورة بهدوء كامل وبسخاء في شرح حياتهن. وفي هذا الأمر يمكننا إعتبار البشر من أكثر الكاتبات السعوديات اللواتي يتطلعن الى التعبير عن الهموم والضيق النفسي وحالات الضغط القصوى التي تعيشها المرأة والتي أفرزتها المسلكية التقليدية للمجتمع وارتباطه القاسي بالعنصر الديني الذي يمنح حامله نوعا من التسليم الكامل لكل مجريات الحياة لدرجة الإغفال عن المشاكل الكبرى التي يعاني منها المجتمع نفسه، بل وتمضي به نحو طريق وعرة نهايته مسدودة بشكل كامل ولا أمل أبداً بشقها وتعبيدها إنطلاقا من السير على نفس المسلكية واعتبارها دستور اجتماعي مبني على قهر الجزء الآخر من المجتمع نفسه، وهذا طبعا لا بديل عنه وغير قابل لا للتغير ومجاراة روح الحداثة وقيمها ولا للتعديل بحيث تنزاح عن كاهله. وعلى هذا فإن البشر تقدم لنا في قصصها العالم ( عالمها ) ولكنه عالما قديما – معظم القصص تدور احداثها في فترة السبعينات او ما بعدها – مريضاً متداعيا يتهاوى داخل أفراده – هنا يتهاوى جديا داخل عناصر السرد القصصي – بسبب تمسكه بقيم وعادات لا مكان لها في ما يشهده العالم المعاصر من تغيرات وتبدلات حتى في تلك القيم الموروثة بالكامل والتي هي جزء غير نافل من الذاكرة الجماعية بشكل عام. والحق أنه في هذا الوقت لا وجود حقيقي لشكل أدبي يتمتع بالقوة التي تتمتع بها القصة ومعها الرواية كعنصران يمكن لهما سبر أغوار الذات ورصد حالاتها وكآبتها وتبدلات طرق عيشها ونموها الإجتماعي خاصة في المجتمعات المنغلقة والتي تفضل القديم على الجديد وتعتبرأن الحداثة والتطور هما الشر بعينه بحسب مايقول طه حسين في الشعر الجاهلي. وأيضا فإن السرد الروائي القصصي ( القصة القصيرة جزء منه ) هو الموضوع الأساسي في الأدب العربي الحديث رغم أنه بدأ في الغرب منذ منتصف القرن التاسع عشر، ويفهم الروائي مهمة عمله على أن تكون كاشفة عن الخفايا وإفشاء الأسرار ليدخل في شراكة جديدة مع القاريء نفسه كما يقول ميشال بوتور، ولذلك فإن البشر تستفيد من هذين المثلين لتكتب قصة تفشي فيها المزيد من أسرار المجتمع السعودي الذي بحسب ما تمثله في قصصها مايزال يعيش في أسر الماضي وعاداته البالية.
تدور أحداث هذه القصص في مجتمع الكاتبة، وتعبر عن هموم الطبقة الوسطى التي يعتبر معظم افرادها من الموظفين البسطاء، وهي الى ذلك تدور داخل أجواء أسرية نازعة اللثام عن الكثير من التفاعلات داخل الأسر السعودية بعيدا جدا عن الصراعات الطبقية أو التي تتواجد عادة في مجتمعات تعاني من الطبقية، ولا ينجو ابطال البشر من الكآبة والعقد النفسية التي ترخي بظلالها على معظم القصص الممتلئة عذابات نسوية تفرضها المسلكية الجماعية للمجتمع حيث يسيطر الشعور بالسأم والملل وما يسمى " الإحباط " وهو هنا من خواص المرأة ويميزها عن غيرها، إذ معظم الشخصيات التي تدور القصص في فلكها نسائية تتراوح بين المراهقة وبداية سن النضوج وبين النضوج العقلي والجسماني للمرأة وبين الغباء المنقطع النظير، ولكننا رغم ذلك نجد أنه على خلاف مايقال عادة بأن المرأة في هذا المجتمع تتفوق عقليا على الرجل الذي يملك كل شيء بما فيها هي نفسها. فقصة " بائعة الجرائد " تعتبر نموذجاً صارخاً لحالة من حالات الإندفاع النفسي البديهية، حيث ان البنت – ميثاء – تستيقظ على الحياة ولديها توق "غريب" على تقليد الرجل أخيها، لتبدأ أول الأمر في اللعب مع اخيها ورفاقه، وتفعل ذلك بهدف عدم التخلي عن طفولتها الجميلة ولا عن ميلها الى اللعب مع الصبيان الذين لا ترى فارقا بينهم وبينها إلا حين تبدأ الأم بضربها بقسوة شديدة فيما تؤنب أخيها الرجل دون أن تشعره بالدونية أو التهميش، فهو الرجل المدلل صاحب البيت والسلطة والمسؤول ومن يملك كل الإمتيازات الآن وغداً وفي كل وقت ( ... فتجلدني وتمر بيد خفيفة على كتفي عزوز أو تفرد اصابعها الخمسة في وجهه علامة السخرية من رجولته، التي لا تبشر بالخير وهو يرى أخته تتوسط الصبية وتفتح رجليها كالأولاد ) والحق أن التربية هي نقطة الضعف الأولى والمستمرة كذلك. فالأم تريد لأبنتها أن تربى كما هي تربت من دون إدخال أي عنصر جديد في هذه التربية وهذا طبعا ما يسمح لها به العرف الإجتماعي والتربية والتعليم التي تربي الفتاة على ان لا تكون سوى ظلا للرجل. وما تنصح به الفتاة هو في كل وقت الحذر من الرجل وعدم الإقتراب منه في كل الأمكنة الا حين يصبح الزوج. وهذا الأمر ليس عقدة نفسية تظهر على شكل استجابة لموقف حقيقي، بل هي عند الأم كذلك عند الفتاة عادة متأصلة تتفاعل تلقائيا عند الإعتراض بها حيث أن المستقبل لن يكون إلا توأم للحاضر. وفي حين ان الإبن يربى على انه هو المسؤول والقائد تربى البنت في البيت والمدرسة على انها التابع والعديم الشخصية والتي لا يحق لها الكلام وإبداء الرأي بغض النظر عن مشاعرها أو قدرتها على القيادة، وهي ستكون فيما بعد الأم التي تربي الأجيال ولكن بنفس الطريقة التي تربت عليها، في القصة نقد صارم وشديد اللهجة للمنظومة الإجتماعية التي تريد البشر لها أن تتغير حيث هي من يوصل الأجيال الى الكارثة، كارثة انعدام الرؤية الحقيقية للآخر. وهكذا فإن خلق مجتمع يعاني نوعا من القلق النفسي يجعل من إحتمالات إستمراريته أمرا مشكوكا به.
أما في قصة ( المطوِّع ) فأن الواقع يندمج بالوهم عبر تقنيات السرد القصصي التي تبرع البشر في الأمساك بها، وهذه القصة تؤكد حقيقة مرَّة مفادها عيش المجتمع في الوهم وكيف ان هذا الوهم مختلط في الواقع بطريقة لا فكاك منها، ( دخل علينا رجل ملتح، جلس فوق كرسي من البلاستيك، وأمسك مكبرا صغيرا للصوت في يده... ثم تحدث عن امراض الجن، والعين والسحر. ومدت إمرأة عجوز قدميها بجانبي فانبعثت رائحة جوربيها الكريهة، سمعت احدى النساء تصرخ وتركض، قفزن الموظفتان من فوق الطاولة، امسكتا بها، وأدخلتاها غرفة داخلية.... قالت المرأة التي بجانب أمي : هذه، والعياذ بالله، ( مسكونة ) ! الله يكفينا الشر ) تسرد البشر هذه القصة لتدلل على عالم الوهم الذي يعيشنه النساء في مجتمعها وكيف أنه لم يتغير الى اليوم. وفي الحين ان الفتاة كانت مصابة بنوع من الإكتئاب البسيط بسبب طلاقها من رجل تزوجها بموافقة اخيها من دون أخذ رايها به وكان يكبرها سنا بكثير، فإنها لم تكن قادرة على شيء عدا عن الإنقياد السهل مع امها الى حضرة الشيخ لذي يداوي السحر والعين، أما امها فكانت ( ترمي الأدوية في دورة المياه، تقول إن هذه الأدوية تخدرك ... ).
عالم الجهل الذي تصوره البشر لم يبقى في عالم ما قبل النفط والتطور الأقتصادي والسياسي بل سافر عبر الزمن الى هذا الزمن الذي لم يشفى بعد من هذا التخلف المطبق الذي يعاني منه مجتمع أقل ما يقال فيه أنه يملك خاصيات التطور أكثر من غيره في العالم العربي.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية