استطاعت الكاتبة القصصية حياة الياقوت في قصتها "المسيخ إلكترونيا" ـ المنشورة في موقع ناشري ـ أن تجسد مشاعر المتعاملين مع شبكة الإنترنت، خاصة الذين ينتظرون بريدا إلكترونيا كل لحظة، وعندما يفتحون صناديقهم ولا يجدون شيئا، أو يجدون عبارة "صفر الرسائل" ينتابهم الإحساس بالخيبة والفشل، وكأن هؤلاء أصبحت حياتهم الجديدة معلقة على رسائل تصلهم من أي مكان، لايهم تحديده، ولكن المهم أن تتوالى الرسائل. فكون رسالة ما وصلت إلى الصندوق الإلكتروني معناه أن أحدا في العالم يتذكرك، ويهتم بك، ويكتب إليك. وهنا يتحقق شرط الحياة في السيبر سبيس، أو الفضاء التخيلي، أو في العالم الإلكتروني أو الرقمي.
إلى جانب ذلك تثير الكاتبة قضايا دينية، أو قضايا في الاعتقاد الديني، من أهمها قضية المسيخ الدجال، وظهوره المنتظر، والذي هو من أشراط قيام الساعة. هذا المسيخ يأتي من الفضاء الخارجي (وربما يأتي من كوكب المريخ الذي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية الآن سبر أغواره). وكانت شخص القصة تعتقد أنه أعور، بمعنى أن له عينين، واحدة منهما معطوبة، (مثل موشي ديان) ولكن أن يكون له عين واحدة في وسط رأسه، فهذا ما لم تكن تتوقعه، ولهذا أُصيبت بالرعب، وصدمتها المفاجئة عند رؤية صورته على هذا النحو من خلال رسالة بريدية وصلتها توًّا، ولم تحاول التأكد من مصدرها أو من صحة الخبر. وهذا دلالة على التعجل في تناول الأمور. فعالم الفضاء التخيلي، أو العالم الرقمي لا يمهل الإنسان حتى يتفكَّر ويتأنَّى، ويعطي للأمور أوزانها.
وشخص القصة فتاة من الجيل الجديد الذي يلم بالقشور، ولا يعرف التفاصيل، بل يتكاسل في طلب المعرفة الحقة. ولا أرضية دينية له تحميه من الأكاذيب والضلال. على عكس الجيل السابق (جيل الأم) المتمسك بدينه، ويعد للأمر عدته، ولديه الحلول الروحية عندما تواجهه مثل هذه الأكاذيب والأوهام. فالفتاة لم تعرف كيفية التصرف عندما اعتقدت أن الصورة المرسلة إليها من خلال البريد الإلكتروني هي صورة المسيخ الدجال. لقد أصابها الفزع، وغطت شاشة الكمبيوتر بورقة خفيفة، ثم أطفأت الجهاز، ولجأت إلى أمها لتنقذها، وعندما قدمت أمها الحل الروحي بقراءة أو بحفظ الآيات العشر الأوائل، والآيات العشر الأواخر من سورة الكهف، للإحساس بالأمان جراء ظهور المسيخ الدجال على هذه الصورة، راوغت نصائح أمها، التي لا تناسب تركيبة شخصيتها، وعندما بدأت تبحث في حجرتها ـ بناء على طلب أمها ـ عن المصحف المهمل (رمز إهمال الدين) والذي يعلوه التراب وسط ركام أوراقها ورفوف الزينة بحجرتها، وجدت أنه شيء ثقيل على نفسها أن تفتحه وتقرأ فيه، فالحل إذن في مواقع الإنترنت الإسلامية التي لا تعرف أسماءها، على الرغم من كثرتها، وعلى الرغم من أنها تتعامل مع الشبكة منذ خمس سنوات، فإنها لم تفكر في استخدام خاصية البحث عبر محركات البحث المعروفة، فتتصل بابنة الجيران لتدلها على أحد هذه المواقع، ولكن الجارة الطالبة بكلية الهندسة، تخصص كمبيوتر، لا تعرف هي الأخرى، فتطلب إمهالها بعض الوقت للبحث.
هنا تضع الكاتبة حياة الياقوت يدها على قضية من أخطر قضايا الجيل الجديد الذي يتعامل مع الشبكة، ولا يعرف مجرد أسماء المواقع ذات الصلة بالعقيدة والتراث والإسلام. وعلى قضية أخرى لا تقل أهمية، وهي الانقطاع الكبير الحادث بين الأجيال، أو بين آخر جيلين يعيشان معا، جيل الأم التي ربما لا تعرف شيئا عن عالم الكمبيوتر والإنترنت، ولكنها تعرف عن دينها وقيمها الروحية ومعتقداتها الدينية، وبالتالي تمسكها بهويتها، وجيل الأبناء الذي يعرف كيف يتعامل مع جهاز الكمبيوتر (رمز التقدم العلمي) ويبحر في عالم الإنترنت، ولكنه لا يعرف شيئا عن معتقداته وقيمه وهويته، ورموزه الروحية. إنه جيل لاه عابث، غير مدرك لحقيقة ما يُراد به، وسط هذه الثورة العلمية والتكنولوجية. وهو لا يبحث سوى عن التسلية في غرف الدردشة، ويقضي حياته اليومية في انتظار الرسائل الإلكترونية التي جاءت واحدة منها إلى شخص القصة، فكشفت الكثير عن شخصيتها، وشخصية المحيطين بها.
ونتيجة لهذه التركيبة النفسية المتشظية، والرامزة إلى أشياء كثيرة في عالمنا المعاصر، لم تلمح أن كل ما وصلها ما هو إلا كذب وتلفيق. لم تلمح أنه تحقيق ملفق عن المسيخ الدجال، كُتب لغرض الإثارة وبث الرعب والصدمة عن طريق إرسال صورة من خيال إنسان ما لبعض المتعاملين مع الشبكة.
إن الشيء الوحيد الذي تعلمته شخص القصة من هذه الحادثة، هو أن عليها في المرات القادمة ان تقرأ عنوان الرسالة الإلكترونية الواردة إليها. أما المصحف الذي وقعت عينها عليه فقد أشاحت بنظرها بسرعة عنه، مدعية أنها لم تره، بينما تلمس كمبيوترها بحنان، وتخرج.
بهذا لم تتعلم شخص القصة شيئا ذا فائدة في حياتها، وكأن كل ما حدث لا أهمية له، فلا هي رجعت لاحتضان مصحفها ومصالحته، فترمز بذلك إلى التصالح بين العلم والدين، ولا هي تفاعلت مع ابنة الجيران التي اتصلت بها على هاتفها النقال، فهي لم تعد في حاجة إلى المواقع الإسلامية التي بحثت عنها طالبة الهندسة. ولا هي تحدثنا ثانية عن أمها التي حاولت مساعدتها للخروج من خوفها ورعبها عندما شاهدت الصورة على شاشة الجهاز.
وإنما ستكمل حياتها الرقمية على الوتيرة نفسها.
هل تريد حياة الياقوت أن تقول لنا: إنه لا فائدة في ذلك الجيل الجديد ـ على الرغم من أنها واحدة منه ـ الذي شغلته إنجازات الثورة الرقمية، أو الثورة العلمية، رغم القشور التي وصلت إليه، فانصرف إليها واندفع نحوها بكل ما يملكه من طاقة وحيوية، ناسيا أو متناسيا قيم مجتمعه وعاداته وتقاليده، التي تتمثل في واحدة منها، في ردود الأم عليها بقراءة أو حفظ بعض آيات سورة الكهف، لترتاح النفس وتطمئن عند ذكر المسيخ الدجال.
لقد قال الزعيم المصري سعد زغلول وهو على فراش المرض: لا فائدة. أو بالعامية المصرية (مفيش فايدة). وحقيقة لم أعرف على أي شيء قالها سعد زغلول، وماذا كان يقصد من ورائها، فقد تعددت التفسيرات حول ذلك.
ولكن عندما تقول قصة حياة الياقوت من خلال بنائها التقليدي "المسيخ إلكترونيا": لا فائدة. فإننا سنكون بذلك أمام قضايا مجتمعية وثقافية خطيرة، يجب أن نبحثها ونتوقف أمامها لندرسها في ضوء تعامل شبابنا مع أجهزة الكمبيوتر، ومع شبكة الإنترنت، وما حدث من متغيرات مجتمعية، تدخل في صلب بنية العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد. وهذا ما يثيره الفن الجيد، الذي ينبه ويثير، ويحذر من خطر قائم، أو من خطر قادم.
إن قصة "المسيخ إلكترونيا" تسير في منظومة القصص التي اتخذت من عالم الكمبيوتر والإنترنت موضوعا أو مفتاحا لها، وعلى ذلك فهي تتلاقى مع قصص الكاتبة السورية ندى الدانا "أحاديث الإنترنت"، وقصة الكاتبة المصرية وفية خيري "والليل .. إذا جاء" . وفي انتظار إبداع جديد للكاتبة الكويتية "حياة الياقوت" تسبر به أغوار شبكة الإنترنت، وتأثيرها الخطير في بنية تعاملنا اليومي والإنساني معها.