تحقيق بلال غيث و ميسة أبو غزالة
لا يمكن أن تغيب تلك اللحظة السعيدة من ذاكرة ذلك المواطن المقدسي الذي فضل عدم ذكر اسمه لأسباب عائلية خاصة به، لم تكن لحظات سعيدة فحسب بل كانت أجمل ما في حياته يوم زفافه من ابنة خالته التي توجت حبها له بزواجهم السعيد "الحزين"، كان ذلك في سبعينات القرن الماضي عندما تزوجت الشابة اليافعة من فارس أحلامها صاحب الشعر الكثيف والبشرة القمحية، لكن الحياة لم تمنحهما كثيرا من السعادة الزوجية التي سرعان ما تحولت إلى معاناة متواصلة، بعدما تبين أن القرابة العائلية أسهمت في إنجاب طفل معاق سمعيا غير قادر على الكلام أو الاتصال بالآخرين. رضي الزوجين بذلك الطفل لأنهما يعلمان أنه قدرهما حتما، متجاهلين السبب الرئيس مستمرين في حياتهم الزوجية، ليجدا أن طفلهما الآخر الذي ولد بعد أخيه بسنوات قليلة يعاني مرض الثلاسيما نظرا لأن الوالدان حاملان لجينات ذلك المرض، لكنه لسوء حظه لم يعش إلا سبعة عشر عاما، قضها متنقلا بين المشافي بحثا عن علاجه المكلف جدا، دون جدوى في تلك الأيام.
لم تقف معاناة تلك العائلة عند هذا الحد بل أن مولودهما الثالث وَلِدَ فاقدا لحاسة النطق مما أعاق قدرته على التعبير عما يدور في داخله، وأخيرا تنتهي معاناة ذلك الرجل بوفاة زوجته التي أصيبت هي الأخرى بفشل كلوي لتنتقل إثرها إلى الرفيق الأعلى تاركة أولادها بلا حنان الأم والذي هم بأمس الحاجة إليه في هذا الوقت بالذات ظروفهم الخاصة الصعبة.
الطبيب بشار الكرمي مدير جمعية مرضى الثلاسيميا في رام الله يرى أن زواج الأقارب هو السبب في ولادة أطفال معاقين ومصابين بمرض الثلاسيميا (نقص الدم الوراثي)، مؤكدا أن إحصاءات الجمعية تشير أن 76% من الأطفال المصابين بمرض الثلاسيميا إصابتهم ناتجة عن زواج الأقارب، وبينهم 62% هم زواج أقارب من الدرجة الأولى "أي أولاد العمومة"، و 15%. من العائلة، بحسب الكرمي الذي يضيف إن زواج الأقارب يسبب عديدا من الأمراض منها فقر الدم وتسمم الحمل والنزيف وزيادة العمليات القيصرية والصمام، وأمراض القلب، موضحا أن50% من الزواج في فلسطين هو زواج أقارب.
الشيخ عكرمة صبري المفتى العام للقدس والديار الفلسطينية يرى في العادات العشائرية المنتشرة والموروثة عاملا يساهم في زيادة هذه الظاهرة، فكثير من العائلات لا تزوج بناتها لعائلات أخرى فقط الزواج يكون داخل العائلة ومقصورا على شباب العائلة أنفسهم، أيضا هناك عائلات أخرى ثرية وتخشى أن تنتقل الثروة إلى عائلة غيرها أو بلد آخر لذلك تحرص على زواج الأقارب.
ويرى الطبيب الكرمي أن معاناة الوالدين الذين ينجبان أولاد مصابين بمرض الثلاسيميا تكون كبيرة جدا، لأنهم يدركون أن معاناة طفلهم جاءت من عدم وعيهم وجهلهم أنهم يحملون الصفة الوراثية ونقلوها لأبنائهم، والفحوصات الطبية رخيصة ولا تكلف.
إضافة إلى كثرة تنقلاتهم بين المستشفيات والمراكز الطبية، والقدرة على توفير وحدة دم شهريا للطفل المصاب بالمرض، والحاجة إلى الرعاية الخاصة التي تأرق الأهل وتسبب لهم معاناة متواصلة.
ويرى الشيخ عكرمة صبري أن الإسلام يطرح حلا لتلك المشكلة بدعوته إلى تغريب النكاح حفاظا للإنسان وللمجتمع، وقد اتخذت الأوساط الدينية خطوتان لمنع ذلك الزواج وهما الحقيقة هناك خطوتان خطوة تثقيفية توعية من خلال المحاضرات والحث على البعد عن زواج الأقارب، وعلى صعيد المحاكم الشرعية في فلسطين فقد فرضت على كل من ينوي الزواج أن يقوم بفحص طبي لاكتشاف مرض الثلاسيميا الوراثي كشرط أساسي لاكتمال عقد الزواج.
من جانبه يرى الدكتور الكرمي ان حل هذه المشكلة يكمن في تبني الوزارات المعنية لها بشكل ممنهج وجدي، قائم على أساس من التخطيط، إضافة إلى إدخال تجارب دول متقدمة تغلبت على الأمراض الوراثية وتعميمها في فلسطين، والتوعية في سن مبكرة لهذه المشكلة، وسن القوانين التي تكفل الحد منها.
وينهي الوالد المقدسي حديثه بمرارة حزنا على أولاده الذين أثقلوا كاهله، وكانوا سببا في فقدانه شريكة حياته بدعوة الشبان والشابات إلى الفحص الطبي قبل الزواج، والابتعاد قدر الإمكان عن زواج الأقارب، لما فيه مصلحتهم ومصلحة المجتمع، خاتما بالحديث النبوي الشريف." غربّوا النكاح".