كانت الساعة تشرف على الرابعة مساءً، نزلنا من سيارة التكسي مسرعين للوصول إلى الحاجز قبل غيرنا، للانتظام في طابور طويل يكاد لا ينتهي أمام ذلك الحاجز العسكري المسمى "حاجز قلنديا" المقام على المدخل الجنوبي لمدينة رام الله ، أملا في المرور والوصول إلى الجانب الآخر حيث السيارات التي ستقلنا إلى قرانا.
لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة، فبعد مسير مسافة زادت عن500 متر وسط السيارات والشاحنات المتناحرة على المرور تمكنا من الوصول إلى الحاجز، كان الجو مغبرا، هبات من الغبار المحمل بالقمامة والأكياس الطائرة التي تركها الباعة المتجولون الذين اتخذوا من جانبي الحاجز سوقاً لبيع بضائعهم، كانت تصطدم فينا وتنغص علينا انتظارنا الذي طال، أملا في مرور قد لا يتحقق. عيسى طقاطقة الصحفي العائد من دورة مهنية في مدينة رام الله إلى حيث يقطن في بيت لحم كان واحداً من المجموعة المتوجهة إلى الحاجز، استمر انتظارنا وسط الحر الشديد الذي كان يضرب رؤوسنا محدثا صداعا مزمنا أكثر من ساعة ونصف سعيا للوصول إلى الجانب الآخر، ورغم كل ذلك سمح لي ولزميلتي بالمرور بينما طلب أحد الجنود بلهجة آمرة من طقاطقة العودة أدراجه كونه لا يحمل تصريحا من تلك التي تصدرها الإدارة المدنية التابعة للاحتلال.
وبعد نقاش طويل ومحاورات مع الجندي في محاولة لإقناعه بتلك البطاقة الصحفية الدولية التي يحملها، لملم عيسى ذاته المتداعية من الحر والغبار وطول الانتظار وعاد أدراجه لا يدري أين يقضي ليلته في مدينة لا يعرف فيها كثيرا من الناس.
يقول طقاطقة في لهجة يواسي بها نفسه ربما :"حتى لو سمح لي بالمرور فإنني قد لا أجد تلك السيارات التي ستقلني إلى قريتي نظرا لأنها تعود أدراجها بعد السادسة مساء لتتمكن من الوصول قبل حلول الليل، بعد أن يتم اعتراضها على الحواجز العسكرية المنتشرة، والتي ستعيق مرورها حتما".
ولسوء حظ طقاطقة فقد اصطدم بأحد أكثر الحواجز الإسرائيلية قسوة في الضفة الغربية، "قلنديا"، الذي أقيم منذ الأشهر الأولى من اندلاع انتفاضة الأقصى قبل أربع سنوات تقريبا.
يقول عيسى:لم يعد بإمكان أحد يريد التوجه إلى مدينة رام الله تفادي هذا الحاجز بسهولة، والذي لولاه لكنت جالسا بين زوجتي وطفلاي المنتظرين عودتي منذ عدة أيام، ولما كنت في حاجة إلى المبيت في مدينة رام الله بعيدا عنهم.
ويضيف عيسى أن بإمكاني الالتفاف عنه بطرق ترابية وعرة ولكن ذلك يتطلب وقتاً طويلا وجهدا، إضافة إلى الأموال الباهظة التي أحتاج إلى دفعها للوصول إلى الجانب الأخر بعد المرور بعدد كبير من القرى الشرقية والشمالية المحيطة برام الله، ولكن يكون بمقدوري الوصول إلى قريتي بيت فجار في ذلك اليوم.
ويتعرض المتوجهون إلى مدينة رام الله والخارجون منها لشتى صنوف الامتهان والإهانة والتعذيب الروحي والنفسي في انتظار المرور، فالجنود على ما يبدوا قد تلقوا دروسا في انتهاك حقوق الفلسطينيين وامتهان كرامتهم.
حيث يتوجب على الخارج من رام الله السير لمسافة طويلة قبل الوصول إلى المكان المخصص للتدقيق في هويات المواطنين والسماح بمرورهم أو عدوتهم، وهناك يتوجب على كل مواطن المرور عبر أربعة حواجز أولها جنديان يقفان لاحتجاز عدد كبير من المواطنين الراغبين في المرور، يوجهون إليهم مختلف أنواء الشتائم مطالبين بالانتظام في طوابير مرتبة ويحذرونه من مغبة التقدم إلى الأمام.
وبعد أن يسمح لك الجنديان بالمرور تأتي المرحلة التالية، حيث يترتب على الشخص إخراج كل ما لديه من نقود ومفاتيح إضافة إلى هاتفة الخلوي وحتى خلع حذائه في بعض الأحيان ليتمكن من عبور الباب الكهربائي الذي يفحص وجود المعادن.
وان تمكن من قطع تلك المرحلتين الشاقتين ما أن يشرع في إعادة أغراضه إلى جيوبه حتى يحضر أحد الجنود ويطلب ممن يشتبه في وجود شيء على أجسامهم بالكشف عنها.
وبعد ذلك تأتي المرحلة الأخيرة وهي الحاسمة حيث يتمترس ثلاثة جنود مدججين بالسلاح وراء مكعبات ضخمة من الأسمنت يقومون بفحص بطاقات هويات المارة، وعند ذلك يسمح لمن يحمل هوية القدس والتصاريح بالمرور، بينما يحرم الكثيرون من أنحاء الضفة الغربية من العبور مطلقا لأنهم ليسوا من النوعين الأولين.
يقوم الجنود بعمليات التفتيش هذه بأعصاب أشبه ببرودة الموت إلى ضحاياهم المتقلبين وسط جحيم الانتظار والحر والغبار المتربص بهم من كل جانب كما الجنود يفعلون.
فهذا مواطن مقدسي لم يتسنى لنا معرفة اسمه أخبر الجنود أنه يقطن في مخيم شعفاط يسمح لزوجته وأولاده بالمرور بينما هو يمنع لأنه يحمل هوية الضفة الغربية، غير آبهين بذلك الطفل المتوسط حضن والده باكيا أملا في التعاطف مع حالته والسماح له بالمرور.
وذلك الشاب مصطفى محمد مصطفى 20 عاما المتوجه إلى قرية بيت إكسا شمال غرب القدس بصحبة جهاز حاسوب يقوم الجنود بتفكيك أجزائه بحثا عن قنابل يزعمون أن أجهزة الحاسوب أصبحت تستخدم لنقلها.
هذا مواطن آخر يخوض جدالا بيزنطيا مع جندي الاحتلال في انتظار معجزة تسمح له بالمرور ولكن ذلك لا يحدث، ليختم الجندي الجدار بالقول :" روح على الإدارة المدينة وأحضر تصريح بتمر".
لكن الطالب يعود بسؤال أخر إلى الجندي، ماذا سيحدث لو سمح لي بالمرور والعودة إلى منزلي؟ هل سيتأثر أمن إسرائيل هل ستحدث عملية تفجيرية؟؟ ويمر أناس كثيرون يعود آخرون بينما تبقى الزوجة والأطفال محلقين أنظارهم صوب المارة، أملا أن يكون والدهم أحد أولئك الذين سمح لهم بالمرور، بينما يواصل الجنود لعبة الامتهان والتعذيب.
ويمر أناس كثيرون يعود آخرون بينما تبقى الزوجة والأطفال محلقين أنظارهم صوب المارة،أملا أن يكون والدهم أحد أولئك الذين سمح لهم بالمرور، بينما يواصل الجنود لعبة الامتهان والتعذيب.