لعل الكنزة التي كان يرتديها والكلمات والتي كان يطلقها تعكس إصراره على التحدي والصمود، ورغم عمليتي التنكيل التي تعرض لهما، إلا أن الطفل وسام عبد الكريم سليمان (14 عاما) لا يزال يصر على التحدي مشيرا بيده الصغيرة إلى كنزته التي يزينها علم فلسطيني صغير وحيكت أطرافها برسومات الكوفية الفلسطينية، بينما لم تتغر لهجته الشامخة التي اعتاد على الحديث بها قبل تعرصه لعملية التنكيل التي أصابته برضوض وأدت إلى كسر ساقه اليسرى كما ترى والدته. في أحد غرف علاج المرضى في مستشفى الشيخ زايد بمدينة رام الله جلست عائلة سليمان مبتهجة ظهر الخميس السادس عشر من أيلول بقرار الأطباء إخراج طفلهم الصغير من المشفى بعد أن تماثل للشفاء، عقب ثلاثة أيام من المعاناة جرء تعرضه لحادثة هي أشبه ما تكون بتلك التي تحاول الأفلام السنمائية حياكتهما لجذب المشاهدين إليها، كذلك فرحتهم بعودتهم إلى قريتهم كفر الديك أحد قرى محافظة سلفيت بالضفة الغربية.
فرحة انتهت بترحة:
بالتأكيد أن وسام لن ينسى مساء ذلك اليوم، حيث كان يتنزه وثلاثة من زملائه الذين قضى معهم وقتا طويلا وبدوا سعيدين جدا، نظرا لعدم وجود أيٍ من جنود الاحتلال الذين اعتادوا اقتحام قريتهم عبر مستوطنة يهودية قريبة من المكان، فقرروا قبل العودة إلى البيت مع الغروب الإستراحة تحت شجرة زيتون قريبة.
لكن فرحتهم لم تكتمل حيث خرج أربعة جنود في تلك اللحظة كانوا يكمنون وسط الأشجار الكثيفة المحيطة بالقرية، وإنطلق أربعة آخرون يتراكضون من المستوطنة باتجاه الأطفال الأربعة، وعندنا رفوا التوقف والإنصياع لأوامر جنود الاحتلال خشية على حياتهم، أطلق أحدهم رصاصة من سلاحه الرشاش الذي كان يحمله أصابت أحدى الصخور المتواجدة في المكان فأحدثت دويا هائلا.
في تلك اللحظات تمكن أحد جنود الاحتلال من الأمساك بأحد الأطفال لكنه نجح في الفلات من قبضته والهرب، أما وسام الذي كان آخرهم فقد تجمد في مكانه جراء إطلاق النار ولم يعد يقوى على الحراك، فسقط فريسه سهلة بأيدي جنود اعتادوا على التنكيل بسكان قرية كفر الديك وكانوا يبحثون عن فريسة لهم في تلك الليلة.
طفل بين ثمانية جنود:
في تلك اللحظات شرع أربعة جنود في إلقاء جام حقدهم على الطفل الصغير الذي لم تشفع له صرخاته في التخفيف من عملية التنكل المرعبة التي تعرض لها، بينما إصطف الأربعة الآخرون بإنتظار دورهم في لعبة السادية التي اعتادوا على تنفيذها بحق المواطنين الفلسطينيين الذين لم يرتكبوا أي ذنب سوى أن ثلة من الستوطنين حضرت وسرقت أرضهم وأقامت عليها مستوطنة يهودية أصبحت تشكل كابوسا لهم.
أما الأربعة الآخرين فكان دورهم مختلفا عن الدور الأول الذي تمثل في التعرض الجسدي للطفل الصغير بالضرب المبرح بأعقاب البنادق والأحذية العسكرية التي يستخدمونها للسير في الجبال، ليتعدى ذلك إلى التخويف والتهديد بالقتل بإطلاق النار على رأس الصبي إن لم يغادر المكان في في غضون دقائق معدودة يحتاجها الجنود لإكمال تميسط المنطقة والتأكد من خلوها من المواطنين الفلسطينيين مع حلول الليل.
ليلة رعب تحت أغصان الخروب:
في تلك اللحظات لم يعد بمقدور الطفل السير نظرا لتأثير ضربات جيش الاحتلال التي أدت إلى كسر ساقه، لكن ليس من سبيل أمامه إلا مغادرة المكان ليتخلص من ضربات وصيحات وترهيب ثمانية جنود ساديين كانوا يتبرصون به من كل حدب وصوب.
رويدا رويدا رغم الألم والبكاء الشديدين الذي كان ينتابني جراء كسر ساقي والرضوض الكثيرة التي أصبت بها، تمكنت بعد الزحف على الأشوك من الوصول إلى شجرة خروب قريبة كان ورقها يفترش الأرض بكميات كبيرة، ومسرعا قبل عودة الجنود غطيت نفسي بتلك الأوراق حتى لا يتمكنوا من مشاهدتي ويعودا لضربي، وبالفعل كان لي ما أردت فقد عاد الجنود بمصابيحهم الليلية الصاطعة للبحث عن مكان وجودي لكنهم لم يتمكنوا من رؤيتي.
كانت ليلة مليئة بالرعب والخوف والبكاء والألم، لم أقوى خلالها على التخلص من الأوراق الكثيفة التي كانت تغطيني، نظرا لأصوات الكلاب والذئاب والحيوانات التي بدت لي متوحشة ولا أقوى على مصارعتها، كنت مضطرا للتبول في ملابسي حتى لا أثير ضجة قد تجلب لي أحد الزائرين الذين لا أرغب بهم، خصوصا أن الجنود عادوا عند الفجر مرة أخرى للتمشيط المنطقة والبحث عن أشياء لا أعلم ما هي.
مصير مجهول:
وسط هذه الأجواء التي كان يعيشها الطفل وسام ساد اقريت قلق كبير على مصيره، فراح أحدهم يقول أنه استشهد جراء إطلاق النار بينما رأى آخرون أن جنود الاحتلال اعتقلوه واقتاده إلى المستوطنة التي حضر منها، فيما أجهشت والدته بالبكاء وراحت تتصل بأقاربها بحثا عنه.
وسط هذه الأجواء تقول الوالدة، حضر أحد أقارب الأطفال الثلاثة الذين كانوا برفقة وسام وتمكنوا من الفرار ليخبرهم بما حصل الأمر الذي أثار حفيظة العائلة وقلقها بشكل كبير، خصوصا أن كل محاولتها معرفة مصير الطفل الصغير بائت بالفشل، لدرجة وصلت فيها إلى حالة استسلام بأن جنود الاحتلال ألقوا القبض عليه واقتاده إلى السجن كما حدث مع اطفال عديدين في القرية.
محالة للوصول:
مع حلول الصباح قرر الطفل الخروج إلى النور أملا في رؤية أحد من المواطنين الذين حتما سيقومون بمساعدته ونقله إلى إلى القرية، لكن أي من العمال المتوجهين إلى المستوطنة لكسب الرزق استجاب لاستغاثات الطفل الصغير ظنا منهم أنه ربما كان شبحا، أو أن جنود الاحتلال الذين اعتداوا على التنكيل بهم هم من يصدرون هذه النداءات.
في تلك اللحظات قرر الطفل الزحف على الأشواك حتى الطريق العام، وأثناء زحفه وصراخه إنتبه إليه أحد أبناء القرية الذي كان يطل برأسه من شباك منزله، فأسرع إلى ذويه الذين حضروا وعددا من أبناء القرية وقاموا بنقله إلى المركز الطبي ومن ثم تحويله إلى المشفى الشيخ زايد لتنتهي ليلة لن يسى ذلك الطفل ما دامت جسده ينبض.
بالتاكيد أن ذلك الطفل لم يعد ينظر إلى الأمور كما كان يرها في السابق، فجنود الاحتلال لم يعودوا يعنون له أؤلئك الغزاة الذي يحضرون لاعتقال أشقائه وأقاربه ويداهم منزله وينكلون بعائلته، بل أنه أصبحوا يستهدفونه شخصيا وحتما سيستهدفون أبنائه في المستقبل، وعليه مقاومته حتى تحرير قريته منهم