العام 2004 قد يبدو مختلفا عن سابقه من الأعوام الخوالي في انتفاضة الأقصى التي اندلعت في خريف العام 2000 في كونه كان العام الأكثر دموية على صعيد القادة السياسيين، فقد اغتالت إسرائيل خلاله الشيخ أحمد ياسين مؤسس حركة حماس وزعيمها الروحي، كما اغتالت الشهيد عبد العزيز الرنتيسي قائد حركة حماس السياسي الذي خلف الشيخ ياسين، وترى أوساط لا يستهان بها في الشارع الفلسطيني أن الدولة العبرية تقف وراء رحيل القائد الأبرز في حياة الفلسطينيين ومفجر ثورتهم المسلحة ياسر عرفات بدس السم له بطريقة غير معروفة، ليتوفى في أحد مستشفيات فرنسا دون معرفة سبب واضح لوفاته. لكن العام 2004 يتشابه مع سابقاته الثلاثة التي مضت من عمر انتفاضة الأقصى فقد واصل المحتلون عدوانهم الوحشي على الأرض الفلسطينية، واستمر بناء جدار الفصل العنصري، توالى نهج القتل والأسر والتدمير الذي تتبعه قوات الاحتلال منذ ثلاث سنوات وتستهدف به الشجر والحجر والبشر، كما صعدت إسرائيل من حملتها الهادفة للإستيلاء على مدينة القدس المحتلة ومسجدها الأقصى.
عل فجر الثاني والعشرين من شهر آذار المنصرم يعتبر بداية تحول لافت في تاريخ الشعب الفلسطيني وانتفاضته التي أطلقها لنيل استقلاله وحريته، فقد كانت أحدى الغارات الإسرائيلية المبرمجة التي تنفذ ضد مواطني قطاع غزة كفيلة باستشهاد الشيخ المقعد أحمد ياسين مؤسس حركة حماس وزعيمها الروحي، أثناء عودته من المسجد بعد أداء صلاة الفجر، وبذلك رفعت إسرائيل في هذه الغارة من وتيرة عدوانها على الشعب الفلسطيني ليطال أعلى الهرم السياسي وليس القادةالعسكريين والمواطنيين المدنيين فحسب.
إسرائيل من جانبها أعلنت أن كافة قيادات فصائل المقاومة الفلسطينية أصبحت هدفا لعملياتها التي تقوم بها في الأراضي الفلسطينية بحجة أنه يوفرون الغطاء السياسي للمقاومة التي تسميها "إرهابا"، ويقدمون الدعم والمساندة للمقاومين.
الشهيد عبد العزيز الرنتيسي الذي كان قد تعرض لمحاولة اغتيال فاشلة في العام 2003وخلف الشيخ ياسين فى قيادة حركة حماس فى قطاع غزة لم يكتب له العيش طويلا فبعد أن تولى قيادة حركة حماس، نجحت الدولة العبرية في إصطياده في التاسع من حزيران الماضي عبر إطلاق عدة صواريخ على السيارة التي كانت تقله وأسفرت العملية إضافة إلى استشهاده عن مقتل أحد مرافقيه وإمراة وطفل كانوا يمرون في المكان لحظة الاغتيال.
لم يتوقف الاعتداءات على القادة السياسين بالقتل، بل طالت أيضا المتواجدين داخل سجون الاحتلال، حيث حكمت محكمة عسكرية إسرائيلية على رعيم حركة فتح في الضفة الغربية وأمين سرها والنائب في المجلس التشريعي مروان البرغوثي في العشرين من أيار الماضي بالسجن الفعلي ما يزد عن خمسة مؤبدات
واعتبره الفلسطينيون ان المحكمة تهدف إلى محاكمة للاهداف الوطنية والسياسية المشروعة للشعب الفلسطيني المتمثلة بازالة الاحتلال والاستقلال، فمن خلال قراءة لائحة الاتهام الموجهة الى مروان البرغوثي الذي أعتقل في يوم 15/4/2002، يتضح ان الاهداف السياسية وراء تقديم مروان للمحاكمة فقد بدات بنصوص عامة وليست بنود ادانة قانونية واتهمت اللائحة الانتفاضة بالارهاب وهي محاكمة للنضال الفلسطيني المشروع ضد الاحتلال ومحاكمة للقيادة الفلسطينية ومواقفها واساليب كفاحها.
أما قصة إستشهاد الرئيس عرفات رمز الشعب الفلسطيني ومفجر الثورة الفلسطييين المسلحة في الحادي عشر من تشرين ثاني الماضي فتبدوا مختلفة بعد الشيئ، فقد توفي عرفات في الحادي عشر من تشرين ثاني في مستشفى بيرسي العسكري الفرنسي، وسط تعتيم إعلامي كبير عن مرضه وسبب وفاته، والكثير من القادة المواطنين الفلسطينيين يرجحون أن وفاه هذا الزعيم الرمز "الذي نقل القضية الفلسطينية من قضية لاجئين إلى قضية فرضت نفسها على المسرح الدولي" كانت بسبب سم دس له بطريقة غير معروفة، وهو يطالبون بالتحقيق في أسباب وفاته والكشف عنها للشعب الفلسطيني.
وتضع وفاة الرئيس الفلسطيني عرفات إسرائيل على المحك الآن، حيث كانت تزعم أنه كان العقبة الوحيدة في طريق محادثات السلام وتطبيق خارطة الطريق، فعلى الاسرائيليين الآن أن يثبتوا أن ذلك الرأي لم يكن مجرد ذريعة لعرقلة محادثات السلام.
وفي سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصراع العربي الفلسطيني صدر قرار محكمة العدل الدولية في التاسع من تموز بإدانة جدار الفصل العنصري، واعتباره عملا مخالفا للقانون الدولي ، فقد أكدت محكمة دولية لأول مرة شرعيتها للنظر في مسألة الجدار الفاصل رافضة إدعاءات الإحتلال والولايات المتحدة بأنه مسألة سياسية بحتة، ورفضت الحجج الإسرائيلية بأنه جدار أمني، وطالبت بشكل واضح وصريح بإزالته.
وأهمية هذا القرار التاريخي أيضا كانت في الإقرار بأن الأراضي الفلسطينية هي أراض محتلة حسب القانون الدولي وأن الإحتلال مسؤول عن إدارة الأراضي التي يحتلها منذ العام 1967، أن عليه الانسحاب منها وهدم جدار الفصل العنصري بموجب القوانين والقرارات الدولية، وأثبت هذه المحكمة أن القانون الدولي هو الحكم، وان إي حل يجب أن يقوم استنادا له، وهو ما يضمن عدم تكرار الفلسطينيين لتجارب مأساوية سابقة.
ومن الأحداث البارزة في هذه العام الفلسطيني قيام أكثر من مليون ومئة ألف فلسطيني بتسجيل أسمائهم في سجل الناخبين العام، الذي تقوم لجنة الانتخابات المحلية بإعاده ، والذي سيمكن الفلسطينيين في نهاية المطاف من المشاركة في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في التاسع من كانون ثاني العام المقبل، كما سيمكنهم من انتخاب نوابهم في المجلس التشريعي الفلسطيني إضافة إلى انتخاب ممثليهم في الهيئات المحلية والبديات والمجالس القروية عن إجراء الانتخابات المحلية والتشريعية.
ومن اللافت في هذه المرحلة بالنسبة للفلسطينيين قيام أكثر من عشرة من القادة والسياسيين والأكاديمين والمفكرين الفلسطييين بترشيح أنفسهم إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة خلفا للرئيس عرفات، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا العدد، خلافا للانتخابات السابقة التي ترشح لها الرئيس عرفات والسيد سميحة خليل فقط.
ولعل أكثر ما فاجئ العالم والمراقبين الدوليين هو الإنتقال السلمي والهادئ للسلطة عقب وفاة الرئيس ياسر عرفات حيث لم تسجل أي أعمال إخلال بالنظام او تمرد داخل المؤسسة الفلسطينية التي حسمت قوانينها وأنظمتها الأمور في نهاية المطاف، حيث أنتخبت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير محمود عباس "أبو مازن" رئيسا لها خلفا لعرفات، كما انتخبت اللجنة المركزية لفتح فاروق القدومي "أبو اللطف" زعيما للحركة، وعين المجلس التشريعي حسب أنظمته وقوانينه رئيسه روحي فتوح رئيسا مؤقتا للسلطة الفلسطينية حتى يجري انتخاب خليفة لعرفات.
وكل هذه المبشرات والانتصارات وذلك التقدم الذي حققه الفلسطينيون، إلا أنهم لم ينحجوا في وقف مساع الاحتلال لإنهاء حلمهم بالتحرر والاستقلال، فقد واصلت قوات الاحتلال حملته الشرسة في الأراضي الفلسطينية ليرتفع عدد الشهداء نهاية هذا العام إلى 3334 فلسطينيا وأكثر من 53 ألف جرحوا منذ بداية الانتفاضة في 28 من شهر أيلول لعام 2000، إضافة إلى اعتقال 28 آلف فلسطيني، 8 آلاف منهم ما يزالون يقبعون بالسجون الاسرائيلية، بينهم 3700 أسير لا يزالون ينتظرون المحاكمة.
كما دمرت إسرائيل منذ بداية الانتفاضة ما يقدر بمليار دولار من البنية التحية الفلسطينية علاوة الى هدمها ما يقارب ستين آلف مبنى إما كليا أو جزئيا.
وتشير الإحصاءات أن 30 بالمائة من الأطفال الفلسطينيين يعانون حاليا من سوء التغذية، و45 بالمائة يعانون من فقر الدم، و37.5 بالمائة من النساء الحوامل مصابات بفقر الدم، علاوة على ارتفاع نسبة الولادات المنزلية بنسبة 100 بالمائة، وارتفاع نسبة وفيات الأطفال قبل الولادة بنسبة 56 بالمائة.
وبشأن جدار الفصل، بدى أثره السلبي واضحا على الحياة التعليمية الفلسطينية، مستدلا بإعاقته تنقل 75 %من المعلمين القريبين منه، إضافة الى انه حال اكتماله سيمنع سبعة آلاف وخمسمائة طالب من منطقة الرام شمال القدس من الوصول الى مدارسهم الواقعة خلفه.
كما توضح ذات الإحصائيات ان 64.9% من الشعب الفلسطيني يعيشون حاليا تحت خط الفقر، وأن 40% منهم لا يشعرون بأمن غذائي، ناهيك عن انخفاض الدخل القومي بما نسبته 50 بالمائة، وارتفاع نسبة البطالة وتدهور نسبة التجارة الخارجية.
ومدينة القدس كان لها نصيبها هذا العام، فقد وجدت نفسها وسط عاصفة إسرائيلية جديدة متمثلة بجدار ينهش احشائها ويفصلها عن ساكنيها، وجدت نفسها محاصرة بين أكوام السواتر الترابية التي تغلق مداخلها وجدران تبدو جديدة عليها تحول دون وصول مئات المصلين إلى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وتفصل أكثر من نصف سكانها عن محيطهم العربي.
والمصلى المرواني كان الأكثر تضررا، ففي الأول من نيسان نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية خبراً مفاده أن تقريراً سرياًّ قُدّم لرئيس الوزراء الإسرائيلي آرئيل شارون يوصي بإغلاقه محيطه أمام المصلّين المسلمين، وعقب ذلك بدأت المؤسسة الإسرائيلية وأذرعها المختلفة بحملة إعلامية واسعة النطاق حول أخطار انهيار المصلّى المرواني بسبب اكتظاظه بالمصلّين خلال شهر رمضان المبارك، و أصدر رئيس الحكومة الصهيونيّة آرئيل شارون أوامر مغلّفة للأجهزة الأمنية الصهيونيّة بإغلاق المرواني و منع الصلاة فيه بحجة منع "كارثة إنسانية".
وكما كان وضع في الخارج ساخا على الصعيد السياسي والميداني خلال العام الذي نودعه هذه الأيام، كان ساخنا أيضا داخل السجون الإسرائيلية فقد خاض أكثر من أربعة آلاف أسير فلسطيني إضرابا مفتوحا عن الطعام لتسعة عشر يوما بهدف تحسين ظروف اعتقالهم التي تفتقر إلى الحد الأدني الذي تحتاجه الحياة البشرية.
هؤلاء الأسرى بجوعهم إستطعوا تحقيق مطالبهم التي تمثلت تقديم العلاج الطبي للمرضى منهم، والسماح لهم بزيارة ذويهم التي منعوا منه، وتقديم طعام صحي وكافي لهم، ووقف الإعتداءات التي تمارس ضدهم يوميا إضافة إلى جملة من المطالب بلغ عددها 35 مطلبا، واستطاعوا تحقيق 19 منها.