تفتح "مارليند" باب منزلها الأسود المرصع بخطوط ذهبية بحذر شديد وابتسامة شحيحة، أنسل إلى الداخل، عيناي تنغمس في الصور المعلقة على الحائط الطويل، تهبط مارليند إلى الدور الأرضي، بينما أبقى وحيدا متأملا اللقطات الكثيرة، وأصغي بفضول إلى صوت فرشاة الألوان التي تنهمر أسفلي تماما...
أحمل في يدي دفترا أصفر تتكاثر في داخله خطوط زرقاء مستقيمة وكثيرة عجزت عن عدها، أدون فيه الأسئلة وأرقام الصور وأمكنتها، أجيء قبل ساعة من موعد اللقاء الأسبوعي مع سام زاخم (70 عاما) - مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان السفير السابق لدى البحرين- أتجول في منزله بهدوء لا تفسده سوى (نيللي)، تلك القطة الخبيثة التي تراقبني بتمعن وتحتج بانتظام على وجودي عبر المواء الغاضب بجوار حذائي. عندما طلبت من الدكتور زاخم- أمريكي من أصل لبناني- أن أجري حوارا معه أثناء إقامتي في ولاية كولورادو (غرب أمريكا) وافق بانشراح شريطة أن أزوره 6 مرات في منزله قبل طرح الأسئلة حتى أتعرف على شخصيته وتجربته السياسية الماضوية من خلال الصور التي يكتنزها والصحف التي تشكل أثاث منزله، كان رأيه سديدا، فاللقطات التي تلتحف الجدران أنجبت أسئلة لا تنتهي، علامات الاستفهام المتوحشة غمرت دفتري البائس، نقل إليّ تجربته عندما كان أستاذا للعلوم السياسية في جامعة كولورادو ببولدر ودرس عددا من الطلبة السعوديين الذين أصبح عدد منهم وزراء ومسؤولين فيما بعد كالدكتور علوي درويش كيال، استعرض أمامي صور الحفل الذي أقامه في منزله للأمير بندر بن سلطان أثناء زيارته لكولورادو عام2000، وأخبرني عن سبب اندلاع ضحكة الدكتور غازي القصيبي بجواره في لقطة جمعتهما، علق على صورة قديمة استخرجها من أدراجه يظهر فيها إلى جانب الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد برفقة عضو في الكونجرس أرسله الرئيس ريجان معه إلى دمشق، وتذكر بسببها حديثا باسما للرئيس حافظ وجهه إليه حينها: "انتبه سيد زاخم، أنا أبتسم لك وأنصت لحديثك بينما لا أعير صديقك من بنسلفينيا الذي جاء برفقتك ذات الاهتمام!".
لقاءات طويلة ازدحمت بالتفاصيل جمعتني مع الدكتور سام زاخم، جعلت مقابلتنا تتحول إلى مذكرات يعمل السفير السابق على طباعتها ونشرها باللغة العربية توثق بعضاً من تجربته بعد أن استبعد عودته إلى الحقل السياسي بسبب تقدمه في السن وحرصه على البقاء إلى جانب زوجته الفنانة التشكيلية مارليند خاصة في ظل بروز ابنه جون (34 عاما) في المحاماة وعزمه على السير في الطريق الذي أمضى فيه والده أكثر من 4 عقود من العمل المتواصل.
عندما أرى سهولة صدور مذكرات، وروايات، وكتب، وقصص في الغرب وحتى في دول شقيقة وقريبة ومقارنتها بما في الوطن يتخللني ألم فظيع، يطرق عظامي الهشة بقسوة، يوجعني هذا الإحساس.
مستقبل الكتابة في الوطن بحاجة إلى وقفة حقيقية، كم فنان، وروائي،وشاعر، وكاتب، وصحفي، ومدرس، وطفل، يأمل في التأليف وطرح ما يؤمن به بين دفتي كتاب لكن لا ينجح، هل سألنا أنفسنا، كم نحن محرومون من متعة التجول ومعرفة التفاصيل في أعماق أبناء وطننا، والاطلاع على أحلامهم، وخبراتهم، وتجاربهم، هل من المنطق أن نعرف عن المخرج الأمريكي مايكل مور أكثر من الممثل والمخرج السعودي الراحل الدكتور بكر الشدي؟ هل من الطبيعي أن نعرف ما يدور في حي الأشرفيّة ببيروت من مغامرات وقضايا عبر روايات كثيرة بينما نجهل ما يدور تماما في حي مثير كالنسيم في الرياض أو صاخب كالنخيل في الدمام!
في لبنان وحدها صدر العام الماضي نحو 2724 كتابا أما نحن فقد احتفلنا خلسة بصدور(4) كتب حسب تقرير أوردته الشرق الأوسط نشر في غرة يناير 2005 وهي كالتالي:"من هنا يبدأ التغيير" للدكتور تركي الحمد، ورواية "صوفيا" لمحمد حسن علوان، و"استقبال الآخر" للدكتور سعد البازعي، و"الثقافة التلفزيونية.. سقوط النخبة وبروز الشعبي" للدكتور عبدالله الغذامي.
بالطبع لا نملك علاقات وأدوات دكتورنا القصيبي الذي يثري مكتباتنا بإصدارات جديدة وماتعة ومفيدة لكن قطعا يملك الكثير من الأفكار والأحلام كالتي يقتنيها أيضا!
مازلت مندهشا من العمل الدؤوب الذي يقوم به الأستاذ محمد القشعمي الذي أرخ ووثق الكثير من الأحداث والشخصيات بمجهود فردي رغم الأجواء والمناخات الصعبة، كان كتاب "ترحال الطائر النبيل" الذي وثق عبره رحلة الروائي الراحل عبدالرحمن منيف أحد الأعمال التي اطلعت عليها واستمتعت وأنا أغوص في سطورها، كنت أشكر القشعمي بصوت خافت، أتمنى أن يسمعني وغيره، أرجو أن يستمر بهذه الحماسة والإخلاص، سنزول يوما ما وستبقى تلك الحروف شاهدا على عصر مهم ومفصلي.
استغرب فعلا عندما أطالع الصفحات الثقافية المحلية وأجد أسماء محدودة لروائيين أحبهم ونحبهم، لكن أثق أن هناك المزيد، لا يمكن أن تكون السعودية لم تنجب سوى: عبده خال، ورجاء عالم، وليلى الجهني، ونورة الغامدي، يوسف المحيميمد، وفهد العتيق، ومحمود تراوري، وعواض شاهر، ومحمد حسن علوان...
هؤلاء ربما كانوا أكثر قدرة على مواجهة الحلاقين! يقول عبده خال في حديثه لجريدة إيلاف الإلكترونية: "من هنا تجد أن الكثيرين يطبعون بالخارج ليس لكون الأندية الأدبية في السعودية رفضت طباعة أعمالهم ولكن لخشية المؤلف من أن يجلس تحت يد حلاق ليس له من موهبة سوى تعلم الحلاقة على رؤوس الأيتام".
لاشك أن وزارة الإعلام والثقافة وفرت مؤخرا مناخا جيدا وهامشا أكبر للصحافة ما انعكس إيجابيا على تأثيرها ونهضتها فضلا عن مبادراتها الأخيرة المزدهرة في مجالات عدة وملتقى المثقفين مثال، لكن مازلنا نطمع في مشاريع تنموية تساهم في تغذية مكتبتنا ودعم كتابنا السعوديين، من خلال تخصيص ميزانية سنوية للمؤلفين، وتشكيل لجنة تتجدد كل عام وتدعم بدورها المشاريع التأليفية، وتناقش طلبات تخصص في هذا الاتجاه، نحلم بمئات الكتب السنوية في مختلف المجالات عبر أسماء جديدة تعكس مستقبلنا وتقدمنا بصورة حقيقية للعالم.
رسائل الماجستير والدكتوراه التي كتبها الآلاف وأجازها أكاديميون ومتخصصون، نرنو إلى الاطلاع عليها ككتب للاستفادة منها والتسلح بما تحتويه من معلومات، دراسات، وإحصاءات، ونتائج.
هذا الحلم لن يتحول إلى واقع إذا لم يساهم فيه رجال الأعمال والشركات الخاصة، تخيلوا، 20 مليون ريال تلك التي نصرفها على صفقة لاعب كم ستمنح الوطن من كتب وخيرات...
لا يمكن أن أخفي سعادتي بترشح رواية "الفردوس اليباب" لليلى الجهني لمشروع "كتاب في جريدة" الذي تموله اليونسكو هذا العام مع 14 مبدعا على مستوى الوطن العربي، فإنجازها بطولة بحد ذاته، فوجودها ضمن كوكبة من الأسماء العربية الجديرة يسجل للجميع ويعكس كفاءة كتابنا، ما أزعجني هو الاحتفال القصير لـ الوطن بهذا الفوز الذي يستحق عناية واهتمام كبيرين.
للكتب نكهة خاصة، لحبرها رائحة مثيرة، كم أتوق لشراء كتب مستخدمة، لما تحمله في أسوارها من أسرار، وفي أمعائها من تفاصيل اقترفها قارئ منفعل، لا يمكن أن يضاهي متعة لمسها أي شيء لا يمكن...
ندعو الله أن يرزقنا كتبا غفيرة، وعناوين كثيرة، وحبرا لا يجف، وأن يمنحنا عظاما عنيدة، وظهورا لا تتقوس!