"كعادتها خرجت بيت دقو الواقعة غرب القدس المحتلة بشّيبها وشبانها منذ الصباح الباكر إلى حقول العنب المنتشرة في أطراف القرية، مستبشرة بيوم جديد أفضل من سابقه. أناس كثيرون يقطفون محصولهم الذي انتظروا نضوجه طويلا. يضعونه في صناديق من الكرتون رويدا رويدا رأفة به. سيارات صغيرة وأخرى كبيرة في انتظار وصول الصناديق إليها من مختلف المناطق الجبلية المرتفعة التي يصعب على المركبات الوصول إليها".

"ومع بزوغ شمس الصباح تنطلق تلك السيارات مسرعة إلى سوق رام الله المركزي أو إلى الطرقات والحواجز التي استغل الزارعون وجودها لتسويق محصولهم. وما أن يبدأ البيع والشراء حتى تبدأ المعاناة. تنافس بين المنتج الوطني ومنتج المستوطنات والمزارع الإسرائيلية. ويفوز في النهاية الأخير. ويعود المزارع يجر أذيال الألم والتعب الذي ذهب دون جدوى".

أين المشكلة ؟؟

المزارع عبد الباقي مرار الذي ناهز السبعين عاما والذي سرعان ما قدم لنا الضيافة المعتادة في هذا الموسم وهي قليل من العنب، تحدث عن المعاناة التي يعيشها مزارعو العنب، موضحا أنه يوم الخميس الثامن من أيلول اصطحب معه إلى سوق رام الله المركزي 50 صندوقا من العنب الأسود والأبيض كل واحد منها يزن بين 9 - 10 كليو غرامات، لكن منافسة العنب الإسرائيلي المباع بأسعار زهيدة جدا دفعته إلى بيع الصندوق الواحد بـ6 شواقل فقط ولم يكن الإقبال عن العنب المنتج محليا كالإقبال على عنب المستوطنات.

ويتساءل مرار الذي يملك 60 دونماً من الأراضي المزروعة بالعنب " ماذا أصنع بهذه الشواقل الستة؟ هل هي تكلفة الصناديق الفارغة التي يكلف الواحد منها شيكلا واحدا! أم هي تكلفة نقل ذلك الصندوق الذي يحتاج إلى شيكل أخر! أم هي رسوم دخول سوق رام الله المركزي الذي يفرض على كل مزارع دفع شيكل واحد عن كل صندوق يدخله إلى السوق! أم هي تكلفة المبيدات الحشرية والحراثة!".

ويعود العجوز المتألم للمطالبة بأمور يصفها "بالبسيطة" تتمثل في وقف الرسوم المفروضة على مزارعي العنب في الأسواق الفلسطينية، والعمل على منع إدخال العنب الإسرائيلي إلى الأسواق الفلسطينية قدر المكان وخصوصا في موسم إنتاج العنب الفلسطيني الذي لا يتجاوز الشهرين ونصف فقط كل عام.

في حقل آخر من حقول العنب يجلس مصطفى سرحان في كرمه الذي تصدي لجدار الفصل العنصري العام الماضي وكان مسرحاً لاعتصامات أسهمت في تغيير مسار الجدار الذي شرعت سلطات الاحتلال في بناءه غرب القدس المحتلة، يقول أنه على وزارة الزراعة الوقوف إلى جانب المزارعين في هذه الظروف الصعبة التي يحيونها، وعليها تعويضهم عن الخسائر التي تلحق بهم عاما بعد عام، ليبقوا محافظين على أرضهم ومدافعين عنها في وجه الاحتلال والمستوطنين.

وفي الكرم المجاور يجلس المزارع الشاب صافي حسين الذي بدا متفائلا بمستقبل أفضل، ويقول على السلطة الوطنية أن تعمل من أجل فتح الأسواق الخارجية لهذا المنتج الحيوي الذي يمكن أن يصبح عماد الاقتصاد، ويشير أن أراضي قريته بيت دقوا لا تصلح سوى لزراعة العنب، نظرا لطبيعته الجبلية ونوعية تربتها وعلى الحكومة إيجاد مخرج للمزارعين من الوضع الراهن.

وفي الجانب المقابل يعرب المزارع أبو عقاب الذي يدير أرض مساحتها 100 دونم مروعة بكروم العنب، عن خشيته من أن تبقى أجزاء كبيرة من محصوله الزراعي دون قطاف هذا العام أيضا، خصوصا أنه لا يوجد أي تحسن في السوق خلال هذه الفترة، يطالب بالتدخل السريع لإنقاذه والآخرين من الدمار الذي يتهددهم.

كيف يراها المختصون؟

أمين سر اتحاد المزارعين شمال غرب القدس المحتلة سعيد يقين يؤكد أن المشكلة ظهرت بعد وقف تصدير العنب الفلسطيني إلى السوق الأردني والأسواق العربية التي كانت أفضل ملاذ للمزارعين الفلسطينيين، ولكن مع تمكن الدولة الشقيقة الأردن من الوصول إلى الاكتفاء الذاتي من هذا المحصول، أصبح متعذرا التصدير إليها.

ويضيف "منذ منتصف الثمانين أصبح المزارع الفلسطيني يواجه صعوبات في التصدير، ولم يعد أمامه سوى السوق الفلسطيني الصغير والغير قادر على استيعاب الكميات المنتجة من العنب الفلسطيني، وعندئذٍ أصبحت الأسواق الإسرائيلية الملاذ الآخر له، حيث اعتاد سكان قرى القدس تصدير منتجاتهم منذ ذلك الحين وحتى مطلع التسعين إلى هذه السوق".

ويوضح يقين أنه مع التطورات الأمنية التي شهدتها الأراضي الفلسطينية المتمثلة في الانتفاضة الأولى وفصل الأراضي الفلسطينية عن إسرائيل، ومنع تنقل المنتجات الزراعية إلا بتصاريح خاصة، وعودة السلطة الوطنية إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، بات من الصعب وصول المقاولين الإسرائيليين إلى الأراضي الفلسطينية، وأصبح من الصعب الحصول على تصاريح لتصدير العنب إلى الداخل.

ويشير أمين سر اتحاد المزارعين أن زملائه استبشروا خيرا مع قدوم السلطة الوطنية إلى أرض الوطن أملا بقيامها بحل مشاكلهم وتوفير أسواق لمنتجاتهم المتراكمة، لكنه وللأسف بقي الوضع على حاله، بل إن إنتاج هذا المحصول تطور رويدا رويدا في المستوطنات الإسرائيلية وأصبح ينافس المنتوج المحلي، وصولا إلى إمكانية اندثار هذه الزراعة إذا بقي الوضع على ما هو عليه.

من جانبه يشير الكتاب الصحفي تحسين يقين الذي يقطن في قرية بيت دقو أن المظاهر الاجتماعية والطقوس والعادات التي كانت ترافق موسم العنب الممتد من بداية آب حتى منتصف تشرين أول أخذت تنقرض شيئا فشيئا، فلم يعد كثير من أهالي القرية يمارسون طقوسهم المعتادة في موسم العنب، فقد اعتادوا على إقامة أفراحهم وأهازيجهم ابتهاجا بهذا الموسم الذي أعدوا له طوال عام كامل، ولكن ذلك بات غير موجود حاليا.

الحرباوي: الدراسات تجري لإيجاد المخرج

يؤكد محمد نافز الحرباوي رئيس إدارة مركز التجارة الفلسطيني (بال تريد) أن دراسات تجري حاليا لمعرفة وضع الأسواق الأوروبية والعربية ومعرفة إمكانية تصدير العنب المحلي بكميات تجارية إليها.

وأضاف أن الدراسات التي يجريها "بال تريد" تهدف أيضا إلى ترتيب قطاع إنتاج العنب في الوطن، بهدف تحسين جودة المحصول، ليصبح ملائما للمواصفات العالمية وقادرًا على المنافسة والتفوق، وأن الإمكانية قوية لتحقيق هذا المطلب، وأنه حتى يتمكن العنب الفلسطيني من المنافسة في الأسواق العالمية لابد له من أن يكون مطابقًا للمواصفات العالمية، من حيث النوعية وطبيعة المبيدات المستخدمة وطريقة التعامل بها، فهو سيخضع لفحوصات تضعها الدولة المستوردة.

وقال الحرباوي أن هذه الدراسات بحاجة من عامين إلى ثلاثة أعوام على الأقل حتى تكتمل، وبموجبها سيجري تقديم نصائح للمزارعين الفلسطينيين، لتطوير طرقهم في إنتاج هذا المحصول وصولا إلى عنب فلسطيني قادر على المنافسة في الأسواق العالمية.وكشف الحرباوي عن وجود توجه لإنشاء مجلس لمزارعي العنب في فلسطين.

وفي المقابل أوضح أنه يوجد حاليا لدى مركز التجارة الفلسطيني برنامج صغير ومتواضع، يقوم على أساس تصدير ثلاث إلى أربع حاويات من العنب الفلسطيني إلى الخارج في محاولة لتوفير سوق لهذا المحصول الذي يعاني من الكساد.

عن سبب وقف التصدير إلى إسرائيل خلافًا لاتفاقية باريس بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي كما يقول بعض المراقبين، أوضح الحرباوي أن الاتفاقية تتيح للجانبين أن يصدر كل منهما إلى سوق الآخر، لكن إسرائيل تخرق هذه الاتفاقية بالشروط المشددة التي تضعها لإعاقة وصول العنب الفلسطيني إلى أسواقها، عبر فرض تصاريح الدخول على إدخال العنب إلى الأسواق الإسرائيلية، في حين أن السوق الفلسطيني مستباح من قبل الجانب الإسرائيلي.

صدقة: لا توجد قرائن تثبت أصل البضائع

وفي هذا السياق أوضح مدير دائرة حماية المستهلك في وزارة الإقتصاد الوطني نضال صدقة أن المشكلة الاولى التي تعيق عمله في ملاحقة مهربي العنب الإسرائيلي هي أنه لا توجد قرائن تثبت مصدر الشاحنات التي يجري ضبطها، وأغلب عمليات بيع الخضار والفواكه تتم دون إستخدام الفواتير الضريبية، وربما يكون التجار الأول الذي أخل البضائع بحوزته تصاريح.

كما ان المشكلة الأخرى التي تعيق تطبيق قرار مجلس الورزاء القاضي بمصادرة منتجات المستوطنات تتمثل في رأي صدقة في أن معظم هذه المنتجات تدخل في الليل، والعمل على ملاحقة أولئك المهربين بحاجة إلى قوة أمنية ترافق الطاقم المختص بضبط البضائع المهربة لحمايتهم من أي أخطار قد يتعرضون لها.

وإعتبر مدير دائرة حماية المستهلك أن قلة الإمكانيات المتوفرة للعاملين في التفتيش والرقابة، وعدم وضوح الآلية المتبعة للعمل بين وزارتي التجارة والإقتصاد والزراعة يسهم في إضعاف ضبط المنتجات الإسرائيلية، ويصعب عن موظفي الدائرة التمييز بين المنتجات المحلية ومنتجات المستوطنات.

طبيلة: من الآن فصاعدا لن تدخل منتجات المستوطنات إلى أسواقنا

من جانبه نفى وكيل وزارة الزراعة الدكتور عزام طبيلة وجود أي عنب مهرب من المستوطنات في الأسواق الفلسطينية، وذلك بحسب رأيه لأن انتاج العنب في المستوطنات المنتج في الأغوار ببساطة يبدأ مطلع حزيران وينتهي في آب، كذلك العنب المنتج داخل إسرائيل ينضج في نفس الفترة أيضا.

وكشف طبيلة في حديثه للزاوية الاقتصادية عن إنشاء وحدة رقابة تابعة لوزارة الزراعة مؤخرا، مهمتها محاربة المنتجات التي تدخل إلى السوق الفلسطينية بطريقة غير شرعية، وتحديدا منتجات المستوطنات، وهي فاعلة جدا وتقوم بدورها بالشكل المطلوب، كما أن وزارة الزراعة تفرض على كل مزارع الحصول على شهادة منشأ قبل نقل مزروعاته للتأكد من أنها فلسطينية.

واعتبر وكيل وزارة الزراعة أن كساد سوق العنب حاليا وانخفاض أسعاره، ناجم عن نضوج العنب في كافة أنحاء الأراضي الفلسطينية في وقت واحد خصوصا في القدس والخليل، وكذلك لا يوجد سوق إسرائيلي متاح لتصدير منتجات العنب الفلسطيني، كما أن المنتج الفلسطيني لا يسمح له بالتنقل بحرية بين المدن الفلسطينية بفعل الإجراءات الإسرائيلية.

وأوضح طبيلة أن وزارة الزراعة تعمل بشكل حثيث لمساعدة مزارعي العنب، ويتضح ذلك في الاتفاقية التي وقعتها مع وزارة الداخلية، والتي تقضي بإعتماد العنب كفاكهة أساسية ووحيدة للقوات الأمنية والعاملين في الداخلية الفلسطينية، وهو ما يعني المساهمة في توفير سوق جيدة لهذا العنب، كما أنها منعت دخول أي نوع من العنب إلى قطاع غزة غير العنب المنتج محليا، وحيث أصبح يشكل قطاع غزة حاليا سوقا رئيسا لتصدير العنب.

وأشار طبيلة أن هذه الأمور التي ذكرت وغيرها تأتي في إطار مساعي وزارة الزراعة لتطبيق قرار مجلس الوزراء الصادر في الثالث من أيار المنصرم والقاضي بالعمل على منع دخول المنتجات الزراعية من المستوطنات إلى الأراضي الفلسطينية، وخصوصا العنب، والآن وحدة الرقابة تعمل بشكل غير مسبوق في ملاحقة المنتجات الإسرائيلية وإتلافها حيث وجدت.
وعن الحلول الجذرية لمشكلة تسويق العنب قال طبيلة أن المشكلة الحالية تمتد جذورها عشرات السنوات، ولكن وزارة الزراعة بالتعاون مع مؤسسات أخرى تقوم بدراسة إمكانية إنتاج العنب الفلسطيني في مواسم مختلفة وليس في موسم واحد هو ما سيخفف الضغط الذي يصيب السوق الفلسطيني ويخلق نوعا من التمييز والمنافسة الناجحة، كما أنه يجري حاليا دراسة الطرق المثلى لتحويل العنب إلى زبيب أو نبيذ في محاولة لمعرفة جدوى هذه المشاريع.

ملاحظة: هذا التقرير نشر في مجلة الزاوية الاقتصادية الصادرة في الأراضي الفلسطينية والتي تعني بالشؤون الاقتصادية.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية