استغلت الشعوب المسلمة التي تغلّب عليها الروس الطباعة كوسيلة مهمة للتمسك بدينها وبموروثها الثقافي وبهويتها الوطنية. وقد أصبح حب الكتب عندها دافعًا دينيًا و تعصبًُا وطنيًا مرده لاضطهاد الحكومة وظلمها. وتعددت مراكز الطباعة العربية لتشمل معظم عواصم الأقاليم المحتلة. ورغم أن نوعية الكتب العربية المطبوعة في روسيا كانت منحصرة في العلوم الدينية وما يتبعها من علوم اللغة، فقد كانت محبوبة عند عامة أهل السنة والجماعة، شائعة بينهم لأنهم احتاجوا إليها واستعملوها سلاحا دافعوا بها عن أنفسهم وعاداتهم وتقاليدهم وأسلوب حياتهم ضد مساعي رجال الحكومة والكنيسة الأرثوذوكسية في محاولاتهم الدائمة لتنصير المسلمين بجميع الوسائل والحيل الإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والتربوية ، بالإضافة إلى الدعوة والدعاية والقهر والإجبار.
بداية الطباعة: أول ما عرف من الطباعة العربية في روسيا كان بيان القيصر بطرس الأول الذي صدر في 11 فبراير 1711م وكان القصد منه تسويغ حملته العسكرية على تركيا. ثم حمل هذا القيصر معه مطبعة متنقلة في حملته على إيران ولكن هذه المطبعة لم تستعمل إلا مرة واحدة، فقد طبع بها البيان الصادر في 15 يوليو تموز 1722م. وفي السنة التالية 1723 ألغيت تلك المطبعة المتنقلة وحملت أجهزتها وحروفها العربية إلى موسكو وأعطيت لمطبعة "سينود" أي الإدارة العليا للكنيسة الأرثوذكسية. وقد دفع قسم من حروفها العربية إلى مطبعة أكاديمية العلوم في سانت بطرسبورغ، ولم تستخدم الحروف العربية في القرن الثامن عشر كله إلا لطبع بيانات القيصر وبعض اللوحات والأوراق الرسمية لمناسبات خاصة. وسيأتي نابليون بعد ذلك في نهاية القرن ليكرر نفس ما عمله بطرس الأكبر العظيم ويعيد مطبعته مع جنود الحملة. فقد كانت المطبعة في نظر هذين الغازيين أداة من أدوات الحرب ليس إلا، ولم يكن عندهما أي أفق ثقافي.
وأول كتاب كامل طبع باللغة العربية في روسيا كان القرآن الكريم، الذي صدر عام 1787م بإذن الملكة كاترينا الثانية التي سمحت بتأسيس المطابع الخاصة. وكان من رواد المطبعيين الناجحين "شنور البطرسبورغي" الذي تعاقد مع وزارة الخارجية عام 1785 لنشر كتب باللغات الشرقية. وقد أعاد "شنور" طباعة المصحف مرارًا وتكرارًا من غير إشارة إلى الزمان أو المكان أو عدد النسخ. إلا أن الباحثين يعتقدون أنه طبع في سنوات 1789 (أو 1790)، و1793 و 1796 وفي 1798.
مطبعة جامعة قازان: تأثر مسلمو قازان بالمصحف المطبوع في سانت بطرسبورغ ورغب بعضهم في طباعته. فتقدم أحد صغار الضباط واسمه "أبو الغازي بُراشف" عام 1797 واستأذن القيصر في إنشاء مطبعة فرد عليه بالرفض. لكنه كرر طلبه مرات بمساعدة مواطنيه حتى حصل على إذن القيصر عام 1800م بشروط قاسية، أهمها أن يطبع الكتب الدينية لا غير وكانت هذه تحت رقابة شديدة . كما اشترطت عليه أن يكون أكثر دخله من بيع كتبه للإدارات الحكومية. فأسس "المطبعة التتارية" وقد بارك الله بهذه المطبعة فعمّرت كثيرًا وانتقلت بين أكثر من يد وطبعت أكثر من مليون نسخة من الكتب العربية المختلفة. وكان أول الغيث أن أصدر أبو الغازي براشف سنة 1801 عددًا يسيرًا من الكتب بالتتارية والعربية ثم طبع القران الكريم، ثم انهمر إنتاج المطبعة كالمطر لتتلقفه قلوب عطشى للقرآن والعلوم الدينية.
وقد اشتهرت هذه المطبعة بعدئذ بأسماء عديدة منها: المطبعة التتارية، والتركية، والألكسندرية، والغيمنازية، والآسيوية (آزياتسكوي)، والسلطانية والإمبراطورية ، والميرية، و"مطبعة جامعة قازان" وهو الاسم الأشهر لهذه المطبعة. وقد أحصى الدكتور أنس خالدوف أنها طبعت321 كتابا مختلفاً، إضافة إلى أنها طبعت القران الكريم كاملاً 51 طبعة وطبعت أجزاء منه 110 مرات ووصلت نسخ من هذا المصحف لمعظم بلاد العالم الإسلامي وعرف هذا ب:"المصحف القازاني".
قازان: وهكذا انتقلت طباعة الكتب العربية الإسلامية من بطرسبورغ إلى "قازان". فلم تعد "قازان" ذلك المركز الإسلامي القديم الشهير، وعاصمة لجمهورية تتاريا فحسب، بل أصبحت عاصمة الطباعة الإسلامية في روسيا مدة قرن أو أكثر. وقد كانت المنشورات القازانية تدر أرباحاً كثيرةً، فقام العديد من المسيحيين الروس بإنشاء المطابع حيث أنه لم يسمح بتمليك المطابع للمسلمين إلا نادرًأ، مع أن غالبية من نشر الكتب واهتم بها كانوا من المسلمين، وهم الذين أخرجوها على نفقتهم، كما كان عمال المطابع والمشترون للكتب والقراء من المسلمين.
الطباعة في ظل الاحتلال: كان طبع الكتب الإسلامية في روسيا منذ بدايته في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وحتى عام 1905 يجري تحت رقابة صارمة متعنتة لا تنقطع من جهة رقباء الروس الذين كانوا بصورة طبيعية يتعصبون لمملكتهم وكنيستهم ودينهم. ولم يسمح بتمليك المطابع لمسلمين إلا نادرَا، مع أن أغلبية من طلب نشر الكتب واهتم بها كانوا من المسلمين، وهم الذين أخرجوها على نفقاتهم، كما كان عمال المطابع والمشترون للكتب والقراء من المسلمين. هذا إلى جانب كون مدينة قزان نفسها مركزاً للدعاية المسيحية الأرثوذكسية وحركة التعميد والتنصير بالقهر والإجبار. وكان الدعاة المسيحيون ينافسون ناشري الكتب الإسلامية ويكيدون لهم، ويبلغون عنهم كبار موظفي الدولة بما في ذلك القيصر نفسه. في الوقت الذي كانوا فيه ينالون مساعدات من السلطات ومن سكان المنطقة الروس في كل وقت وبكل نوع وطريق. وقد مهد تعارض المسلمين التتار والمسيحيين الروس السبيل لازدياد نشر الكتب لهما وبرزت كتب الجدال. لكن إقبال المسلمين على الكتب في مواجهة اضطهاد الحكومة الروسية وظلمها، أدى لأن تكون الكتب الإسلامية أكثر عدداً وانتشاراً.
التوزيع الجغرافي للمطابع العربية في روسيا:
مطابع تتارستان أو جمهورية تتاريا:
إضافة لمطبعة جامعة قازان السالفة الذكر، فقد أنشئت في قازان مطابع خاصة عديدة نشرت كتباً بالعربية أشهرها:
1. مطبعة لودفيغ شيفيتس النقاش الهولندي الأصل الذي توطن قازان، وأصدر بطلب من المسلمين خمسة وأربعين كتاباً بين سنتي 1841 و1848. ثم باع مطبعته لكوكوفن وصارت تسمى باسمه. ثم استعارها منه جيركوف وبقيت في ملك أسرته وسميت باسمه.
2. مطبعة شاهي يحين الحجرية التي أصدرت أربع كتب عام 1844، ثم تملكها محمد ولي يحين، فطبع عليها 19 منشوراً بين عامي 1859 و1869. ثم انتقلت بعد ذلك إلى ابراهيم عبد الله فتابعت أعمالها حتى سنة 1882.
3. مطبعة رحيم جان سعيدوف التي أصدرت كتباً بين عامي 1845 و1850.
4. مطبعة ويجيسلاف استمرت من 1882 حتى 1894 ثم انتقلت إلى دومبروفسكي أو دومبراوسكي.
5. المطبعة الكريمية. وأصدرت 72 كتاباً منها ستة ذات مجلدات عديدة. إضافة لطباعة الفرآن الكريم كاملاً أربعة عشرة طبعة بدْءًأ من عام 1901م ، وطباعة أجزاء منه أربعاً وعشرين مرة.
هذا إضافة للمطابع التالية: بيبروف، أنطونف، إلياس، أميد، "أورنه ك"، بيان الحق، جيرووى، شرف، سنترالي، المعارف، "ملت"، كازاكوف، واركسين، يريمييف وشاشابرين، ومطبعة كوكوبين، ومطبعة خاريطونف التي نالت شرف طباعة القرآن الكريم مع الترجمة للغة الروسية صفحة مقابل صفحة عام 1907م.
مطابع أوزبكستان:
1. طشقند (عاصمة أوزبكستان): مطبعة لاخطين، مطبعة عارف جانف، مطبعة بورصوف، مطبعة كمين أسكي، مطبعة أركان الحرب التركستانية، مطبعة إِل يِن، مطبعة برايندنباخ، مطبعة فتوخوف، مطبعة كلستان شاش، مطبعة المصطفاوي.
2. سمرقند: المطبعة التيمورية، مطبعة دميومروف.
3. بخارى: مطبعة بخاراي شريف، مطبعة دار السلطنة، مطبعة عظيمي حسن، مطبعة الحاجي شمس الدين محمد العظيمي مرغناني.
4. كاكان(أو بخارى الجديدة): مطبعة كاكان أو بخارى الجديدة،مطبعة كيسيسكي وبندتسكي، ومطبعة كمين أسكي.
مطابع باشكيريا:
1. أوفا (عاصمة باشكيريا): مطبعة شرق.
2. أورنبورغ (مدينة بجنوب باشكيريا): مطبعة "دين ومعيشت"، ومطبعة محمد فاتح بن غلمان كريموف، وطبعة حسنيف، مطبعة كريموف، ومطبعة "وقت".
3. ترويسك (قرب أورنبورغ): مطبعة إِنِيركِيه.
4. مياس (قرب أرونبورغ): المطبعة البشيرية.
مطابع باغجة سراي:
مطبعة "ترجمان" أو مطبعة إسماعيل ميرزه عصيرينسكي.
مطابع داغستان:
1. تمير خان شوره (عاصمة داغستان): المطبعة الإسلامية لصاحبها محمد ميرزا ماواريف أومطبعة ماواريف.
2. حسفيورت (مدينة في داغستان): مطبعة ميخايلف، والمطبعة الإسلامية الجديدة.
مطابع أوكرانيا:
1. بتروفسك (مدينة في أوكرانيا): مطبعة ميخايلف.
2. سيمفيروبول (مدينة في أوكرانيا): مطبعة ياكوبوفيتش.
مطابع روسيا:
1. بطرسبورغ (أو سانت بطرسبورغ أوبيتربورغ): مطبعة أكاديمية العلوم أو المطبعة الأكاديمية الامبراطورية، ومطبعة شنور، ومطبعة سِناة، ومطبعة إيفان سليزنوفا، والمطبعة الإسلامية أو مطبعة البوراغاني، مطبعة عبد الرشيد بن عمر إبراهيميف، مطبعة مكسوتوف، مطبعة يفستيفيف، مطبعة "كُوبيْكه".
2. موسكو: مطبعة باوْمَن، مطبعة غربيك، ومطبعة جامعة موسكو.
الإنفاق على نشر العلم: مما يثلج الصدر أن ترى أن غالبية المصاحف والكتب التي طبعت في القرن الثامن في روسيا قد طبعت على نفقة المحسنين حسبة لله تعالى. ولم يستأثر الرجال بهذا الشرف بل شاركت فيه النساء أيضاً. ونقرأ من أسماء الرجال الذين طبعوا الكتب على نفقتهم أسماء: شمس الدين بن حسين، وإبراهيم بن أشمراد، وخير الدين بن ملا حميد، ومرتضى بن داود، ورحمة الله بن أمير خان، فتح الله بن حميد الله آماشف، علي الأصغر كمال الدينف، ومحمد علي بن منهاج الدين قديروف، وورثة شمس الدين حسينف. ومن النساء نقرأ أسماء: عين الجمال بنت عبيد الله آبانايوا، وتحفة الله بنت نعمة الله أبيزوف، وحسنى بنت جمال بنت بيكباو.
أنس خالدوف: ما كان لهذه المعلومات أن تصل القارئ لولا مجهود عظيم متصل للباحث الأستاذ الدكتور أنس خالدوف. فهو من مواليد تتارستان علم 1929م ويحمل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي، ويرأس دائرة الشرق الأدنى في معهد الدراسات الشرقية بسان بطرسبورغ التابع للمجمع العلمي الروسي بموسكو. وقد أنتج العديد من المؤلفات القيمة وحقق الكثير من الكتب العربية، كما شارك في العديد من الندوات، وأشرف على الأبحاث ورسائل الدكتوراه.
قد ساهم في "ندوة تاريخ الطباعة العربية حتى انتهاء القرن التاسع عشر" التي عقدت عام 1995 في مركز جمعة الماجد بدبي، ببحث عنوانه: "الطباعة العربية في بلاد ما وراء النهر وروسيا". ثم قدم للمكتبة العربية عام 2008م وهو في الثمانين من عمره كتاباً ببلوغرافياً رائعاً هو: "دليل المطبوعات العربية في روسيا من 1787 إلى 1917" بطلب من مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي.
وقد اعتمد بحثه في الكتاب على مسح موجودات وفهرس مكتبتين في سانت بطربسبورغ هما: المكتبة الوطنية ومكتبة معهد الدراسات الشرقية (فقد كان لا بد أن تدخل نسخة من كل طبعة إلى هاتين المكتبتين بسحب نظام الرقابة على المطبوعات في روسيا) إضافة لمراجعته بعض البحوث حول طباعة الكتاب العربي في روسيا. وقد تبين له أن بعض الكتب التي أشارت إليها الفهارس قد فقدت، كما وجد على الأرفف عشرات الكتب التي لم تشملها الفهارس. وقد حاول أنس خالدوف أن يصف كل كتاب بالإجابة على أربعة عشر سؤلا: (1) اسم المؤلف بحسب الشهرة، (2-5) سنة ولادة الكاتب ووفاته بالهجري والميلادي، و(6-8) عنوان الكتاب الرئيسي والعنوان الشارح أو البديل، (9) رقم الطبعة، (10) مكانها، (11) الناشر، (12) سنة الطبع، (13) ملاحظات، (14) المراجع.
_________________________________________________________________
(1) أنس خالدوف، الطباعة العربية في بلاد ما وراء النهر وروسيا، بحث مقدم لندوة "تاريخ الطباعة العربية حتى انتهاء القرن التاسع عشر" التي عقدت في مركز جمعة الماجد بدبي عام 1995، منشورات المجمع الثقافي في أبو ظبي، عام 1996.
(2)أنس خالدوف، دليل المطبوعات العربية في روسيا من 1787 إلى 1917، صدر عن معهد الدراسات الشرقية في المجمع العلمي الروسي فرع سانت بطرسبورغ ومركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي، الناشرمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي، الطبعة الأولى، 2008.
(3) سيد عبد المجيد بكر، الأقليات المسلمة في أوروبا، الجزء الثالث، سلسلة دعوة الحق التي تصدرها رابطة العالم الإسلامي، السنة الرابعة، العدد 43، يوليو 1985