قوافي الشعر وأوزانه تتباين في انقيادها وانسيابها لقرائح الشعراء كتباين الأفراس في طبائعها إذ تجد فيها المروض الذي يسلمك قياده مطاوعا مختارا, وتجد النافر الشموس الذي لا يمكنك من عنانه ويعاصيك متأبيا في كل لحظة فلا يرتاض لك!ومن خاض تجربة الشعر يدرك ذلك ,و قد يتساءل المرء عن السر الذي يدفع الشاعر أحيانا إلى الإعراض عن المطاوع الملاين من القوافي والإقبال على ركوب الشامس الصعب مع ما بين سياسة الاثنين من تفاوت كبير في الجهد والمعاناة ,أفيكون ذلك من باب طلب الإغراب والتفرد بإظهار القدرة على رياضة القوافي مهما صعبت ؟نعم ربما يكون الأمر كذلك غير أنني أعتقد أن الأمر برمّته متوقف على الومضة البرقية الأولى المؤذنة باستهلال غيث القصيدة ,فالبيت الأول الذي يترنّم به الشاعر ابتداء هو الذي يحدد له بنسبة كبيرة المسار الذي يسلكه في سبر مجاهل القريض,وكثيرا ما يكون ذلك البيت هو مطلع القصيدة ,غير أن المعاناة لا تتضح مع البيت الأول الذي قد ينساح من القريحة كجرية الجدول الرقراق,لكنها تتعاظم مع إخوانه اللاحقين المتمين لبنية القصيدة ,وحينها تتكشف طبيعتها الفرسية شموسا وانقيادا,ولا يملك الشاعر وقتها سوى خيارين :إما المضي في نحت القوافي من هذا النمط الصعب مهما كلّف الأمر,وإما أن ينصرف – ولو مؤقتا – عن إكمال ما ابتدأ به بعد أن لقي من بواكيره ما لقي من نفرة وعناد!.
هكذا كان حالي مع هذه القصيدة التي دفعتني سلاسة مطلعها إلى المقاومة والمصابرة إلى حين حتى بلغت بها بعد نأي ولأي إلى ثمانية أبيات فقط !ولم تكن الصعوبة مقتصرة على القافية الغريبة (جَهْ ) ,بل إن وزنها جاء على النمط غير المستعمل من بحر الوافر إذا جاءت تفاعيلها على النحو ( مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن × 2),ولم يرد العَروض (التفعيلة الأخيرة من صدر البيت)ولا الضرب (التفعيلة الأخيرة من البيت) فيما ورد من صور المستعمل من أوزان هذا البحر على وزن (مفاعلتن)بل على وزن(فعولن),وهو ما أضاف للصعوبة والشماسة بعدا آخر ,مما يمنح للشاعر مجالا للاعتذار عن اقتصاره على ثمانية الأبيات ,وربما تكرّم علينا بعض الشعراء فرفدنا ببيتين جديدين لتكون أبياتهابذلك عشرة كاملة !.
* صَبــاحُ الـوَرْد.. *
من الوافر :
صبـاحُ الوردِ والأطيارِ والبَهْجَهْ *** لِمَـالكةٍ زِمامَ الشِّـعرِ و المُهْجَهْ
صبـاحٌ تُنعِشُ الأرواحَ نسمتُـهُ *** ويَبلغُ شوقُنا المُضْـنَى بِـهِ أوْجَهْ
يُذكِّرُني خَـلائقَ مَنْ سَبَتْ قلبي *** وكانتْ دونَ رَوضاتِ الدُّنى مَرْجَهْ
جمــالٌ لا ترى عَينٌ له مثلا *** ولو سارتْ مِنَ (الجهرا) إلى طَنْجَهْ !
فعينـاها كشَهْدِ النَّحْلِ مشهدُها *** ومَبْسَمُها يَزيـدُ حديثُـها غُنْجَهْ
أمَولاتي! ببُعدِكِ تُطبِقُ الدُّنيــا *** فلستُ أرى برَحْبِ الجوِّ مِنْ فُرْجَهْ
صِلي قلبي!فجمرُ الهجرِ بَرَّحَنِي ***فإن كنتِ على شكٍّ سَـلي وَهْجَهْ
بِبَحْرِ هـواكِ كمْ تاهتْ سَفائنُنا *** فمَنْ ذا بعدَ شاعرِها عَلا مَوْجَهْ ؟
---------------------
* الجهراء :مدينة الشاعر,وهي كاظمة قديما.