هدهدة فتاة صغيرة, مولعة برؤية النجوم وهي تتلألأ, ومن فرط تأملها يُخيل لها أنها تتراقص على ألحان الطيور الليلية, وحفيف الأشجار, وخرير الوديان, وتتمنى لو تمسح غبار السحب الذي يمنعها بين الحين والآخر من الاستمتاع ببريقها لتظل تنظر إليها حتى تذبل عيناها الجميلتان فتنام.
في إحدى ليالي الخريف, استفاقت (هدهدة) على قرقعة في النافذة, نهضت متكاسلة, فتحتها فوجدت نجمة صغيرة تشع ضياء, دهشت, وفركت عينيها قائلة: (لابد أنني أحلم).
ولما سمعت أنيناً منبعثاً من النجمة, حملتها, وسألتها عن سبب حزنها, فأجابت النجمة قائلة: حينما كنت نائمة على سريري الفضائي, وقعت في الهواء ولم أفق حتى وجدت نفسي بجانب مرآة عجيبة.
ضحكت هدهدة, وقالت: تقصدين زجاج النافذة?! أخذت النجمة تكشف المكان بعينيها المكتنزتين بنجيمات زرقاء اللون, وكل نجيمة ينبعث منها سهم يلوّن المكان الذي يقع عليه بصرها, وتتساءل: أين أنا...? وقبل أن تكمل كلامها استسلمت لنوم عميق من شدة التعب.
وفي الصباح الباكر نهضت منادية: ماما. ماما.
سمعت صوت هدهدة النعسان يجيبها: أمك ليست هنا. أنت على كوكب الأرض. رددت النجمة: كوكب الأرض? ماما حدّثتني عنه كثيراً, وقالت: توجد عليه طفلة تحبّنا اسمها (هدهدة).
اندهشت هدهدة: من أين تعرف اسمي?
قالت النجمة متفاخرة: ماما تعرف كل شيء, وأنا اسمي الأميرة مضيئة من مملكة النجوم.
ثم أردفت قائلة: لقد تذكرت, ماما كانت تتصل بأبي الأمنيات الموجود على كوكبك... سأبحث عنه فوراً.. وداعاً.
قالت هدهدة: توقفي. أنت ضيفتي, وأريد مساعدتك, ولكن بابا وماما سينتبهان لغيابي.
وفجأة عصفت ريح قوية في حديقة البيت حيثما كانتا تتحدثان, وبان ضوء ساطع فرش نباتات الحديقة وزهورها بأكوام من النجوم التي كانت تبدو كتلال فضية اللون من كثرتها, وانطلق صوت حنون ينادي: حبيبتي مضيئة. أنا ماما ملكة النجوم. اذهبي مع هدهدة للبحث عن أبي الأمنيات, فلن ينتبه والداها لغيابها.
واختفى الصوت بين أسراب النجوم.
قالت مضيئة بحماس: لنبدأ رحلتنا الآن, هيا امسكي شعاع اصبعي, سنطير.
وما إن أمسكت هدهدة به حتى اختفتا ووصلتا لمكان به مفترق الدروب. درب القمر, درب الآمال, درب الأمنيات.
يئست مضيئة فلم تعرف أي درب تختار. بكت فسقطت من عينيها نجمتان بلوريتان اخترقتا باطن الأرض, فاهتزت الأرض من تحت أقدامهما وسمعتا صوتاً ضعيفاً قادماً من داخلها, وشيئاً فشيئاً ازداد الصوت وضوحاً وظهرت امرأة مسنّة مستندة إلى عصا حجرية, ارتعدت الفتاتان ذعراً وحاولتا الهروب.
رفعت العجوز عصاها قائلة: لا تخافا. لن ألحق بكما ضرراً, أنا سيدة الأرض, أنا مَن خبّأت أجيالاً وأوطاناً, طرحت بذوراً وثماراً, بحاراً وصحاري وودياناً.
اقتربت مضيئة منها وقالت: أنت لطيفة حقاً, لكن شكلك متعب وحزين. فأجابت سيدة الأرض: كيف لا أكون كذلك وقد شاهدت حروباً ودماراً وجموع البشر أفسدوا شكلي بالتلوّث, ومع ذلك, لاتزال حلّتي خضراء, ومازلت أطرح البذور والثمار, ومازلت مليئة بالمياه في أعماقي, خزّنتها للإنسان لاستعمالها. أنا لا أقدر على العيش دون الزهور زاهية الألوان, دون الاستماع لتغريد الطير, دون التحدث مع الشمس التي توقظني بجدائلها الذهبية, وتودعني أثناء غروبها بمنظرها الساحر, وكيف أنسى صديقتي السماء التي ترسل لي أفراحها الصافية في الربيع, وأحتضن أسرارها الحزينة في الشتاء, ولكن حزنها مفيد للإنسان, فدموعها الممطرة نبع حياته, كيف أنسى صديقي القمر الذي ينير الطريق للغريب ويؤنس العاشق, ويلهم الشاعر. آه صغيرتاي! ما أحلى الحديث إليكما! هيا تمنيا ما شئتما لأحققه لكما.
قالت الاثنتان: نريد مقابلة (أبي الأمنيات).
ردّت العجوز: آسفة, أنا لا أعرف مكانه لكن سأنقلكما في طرفة عين لمدينة الضباب, لا يمكن أن يكون بعيداً.
وهكذا وجدت الصديقتان نفسيهما في مكان محوّط بالضباب الكثيف. تساءلت هدهدة: ما العمل للبحث عن أبي الأمنيات في هذا الضباب, ولم تجد حلاً غير المناداة, وفجأة انزلقت على شيء صرخ فيها: (أي.. أي... آلمتني).
قالت هدهدة بارتباك: عفواً... فأنا لا أراك!
قال الشيء: لا بأس. أنا صخرة ضبابية, لماذا أنتما في هذا المكان الوعر?
فقالتا لها إنهما تبحثان عن أبي الأمنيات ليوصل مضيئة إلى وطنها.
قالت الصخرة: لا أعرف مكانه, ولكن توجد محطة قطار تؤدي لمدينة الآمال, اذهبا هناك ربما تجدان ما تبحثان عنه.
توقف القطار في مدخل مدينة الآمال, فشاهدتا مكاناً ساحراً. أشجار من لؤلؤ, وبساتين مرجانية, وروابي مفروشة بالزمرد الأخضر, وبينما تستمتعان بجمال المكان استوقفهما شيخ قائلاً: أيتها الفتاتان, أين التذاكر?
ردت مضيئة: نحن لا نملك مالاً لشرائها.
ومن دون أن يسمع لشرحهما أخذهما لقاضي مدينة الآمال الذي طلب عرضهما أمام الملك. سمع الملك القصة, فأمسك لحيته المرجانية وقال: سوف أحقق أمنيتكما.. بشرط أن تقولا كلمة السر.
قالت مضيئة: اترك لنا يا مولاي وقتاً للتفكير.
وفي اليوم التالي قال الملك: هاتا ما عندكما, هيا اسمعاني أحلى الأغنيات.
فردّت مضيئة وهدهدة: جئناك يا ملك الملوك علّك
تحقق لنا أعظم الأمنيات
ما أجدرك ما أعدلك يا أبا الأمنيات
أوصلنا يا كريماً لأغلى الأمهات
تعالت التصفيقات وظهرت المفاجأة الكبيرة, بداية بسيدة الأرض, قطار العاصفة والصخرة الضبابية, وملكة النجوم بلباسها المطرز بالألوان الجميلة الرائعة. هتفت مضيئة: ماما.. ماما. واحتضنت كل منهما الأخرى.
قال الملك: أنا أبو الأمنيات يا صغيرتاي. لقد قلتما ببراءة كلمة السر في الأغنية اللطيفة... ما أجدرك ما أعدلك يا أبا الأمنيات.
ثم قالت ملكة النجوم لمضيئة: حبيبتي, لم تسقطي من سريرك الفضائي, لقد دفعتك عمداً وكنت مجبرة حتى أتأكد من قدرتك على إمارة مملكة النجوم من بعدي, ولا تتصوّري مدى الخوف والقلق الكبيرين عليك, إنها شروط الإمارة.
والتفتت إلى هدهدة شاكرة لها مرافقة ابنتها.
قال الملك لهدهدة: تمني ما شئت يا محفوظة, أبو الأمنيات بين يديك. ابتسمت هدهدة وقالت: أتمنى أن أكون باحثة في علم الفلك.
ردّ الملك: ستُحقق أمنيتك لكن ضعي الاجتهاد تاجاً فهو سبيل النجاح.
شكرت هدهدة الجميع, وعبّرت عن قلق والديها لغيابها.
قالت ملكة النجوم: والداك لايزالان نائمين, ولقد استمتعا بأطول ليلة في حياتهما أمضياها برفقتك عبر الحلم, والآن سيوصلك قطار العاصفة إلى المنزل.
ودعت هدهدة سيدة الأرض الصبورة, ووعدتها بألا ترمي الأوساخ عليها وستقول للجميع أن يهتموا بها.
اقتربت ملكة النجوم من هدهدة قائلة: خذي هاته القلادة النجمية كتذكار وكلما احتجتنا أو أردت مشاهدتنا أو مشاهدة الأفلاك والمجرات ستتحول بحسب رغبتك إلى منظار أو صحن فضاء ينقلك إلينا.
وبدموع الفراق, ودّعت هدهدة صديقتها الأميرة, وأمها الملكة, وكل الأصدقاء... وصعدت إلى القطار.