مع إسدال الستارة على النافذة الأخيرة , أرمي للبحر حلمي ,
وأعود لرحم أمـّي , كي تلدني من جديد .
**
مرّ بي ستون احتضار , وما زالت عيناي معصوبتان , لا أرى لكنّي ..أختنق , من رائحة العَرَق المتصبب من جسديهما.
بدأتْ الشاحنة تنزلُ بنا في طريق حلزونيّ ,
والطريق .. تضيق.
تضيق. - نادي عليها ..!
ارتفع صوته من غرفة المعيشة فانتفضتُ كسنونوّة بللّ جناحيها مطرٌ مباغت .
حشرجَ صوتٌ :
- بيسان , تعالي يمـّا .
زفرتُ من رئتيّ هواءً ثقيلا ومشيتُ نحوهما منتصبة َ القامة
ودماغي يعزفُ نغمة: أكون أو لا أكون.
تسمرّتُ أمام لهيب عينيه. زأرَ بتوتر:
- تخططين أن تضعي رأسنا في الطين ..؟!
نقلت نظراتي إلى وجه أميّ عليّ أستنزف شفقتها . كان وجهها كالمعتاد ..شاحبــًا , شفتاها متيبستان , وتلك الضفيرة الشائبة
ما زالت تطلّ بحنوّ من خلف منديلها الأبيض المبرقع ببصمات سوداء .
نظرتُ حولي . لمَ يبدو لي كلّ شئ شاحب ..؟!
الأبواب , النوافذ , شقائق النعمان وحتّى الفراشات الصغيرة..؟!
زأرَ ثانية فأجفلت :
- أجيبــــــــي
· كيف أضع رأسكم في الطين...؟!
- هل فاتك ِ أنـّه من غير دينك؟
· من فينا اختارَ دينه ..؟!
-انت تحفرين قبرك بيديكِ .
· أموت بكرامة.
سرجتُ خيول أفكاري . لم أعُد أرى منه سوى مدّ وجز شفتيه , ومع كلّ مدّ جديد , كانت تحاصرني نوبة حقد جديدة ومواعظ كثيرة.
صحوتُ على صوتِ أمـّي وهي تدفع بي إلى قفصي , ولعنته تطارد أجنحتي:
منطقـُـك ِ أعوج . لطالما أنذرتــُكِ , والآن نفذ َ صبررري. .!!
**
لا أدري أيّ قوّة نجحتْ في لمّ شمل وجهاء العائلة من أقطاب الأرض. جميعهم .. لا أعرفهم سوى من صورهم الباهتة المصلوبة على جدران الغرف .. أتوا محملين بلعنات صبّوها على قلبي .
اجتمعوا , تشاجروا ثمّ قرروا أن يقوم أبيّ وابن عمي البكر
( طاهر) بوَأدي.عادَ كلّ إلى تجارته وخمّارته وكنيسته , وبقيتُ وحدي .
**
بدأتِ الشاحنة تسير في طريقٍ ترابيّ مُوحل .
لا بدّ لي أن أبددّ الزفرات الأخيرة من حياتي بشئ يستحق الفرح.
أطلّ وجهه على مرآة أحلامي .
رايتُ جبينــَهُ مـُكللا بالغار . لجسده رائحةُ نعناع ٍ أخضر .
يهمسُ فأخال النخيل ينحني:
· لكنــّهم قد يقتلونك .
· لن أسلــّم جسدي لرجل
لا يبالي سوى بقطف التفاح عن أشجاري.
· بيساني ..تموتينَ عشقــًا لأجلي ..؟!
لهذه الدرجة تحبينني ..؟!
· الحبّ بابٌ ضيــّق لانفجار ضوئــيّ.
· لن أدعهم ينالون منــّا . بأسناني سأحميك ِ . للسماء السابعة سأخطفك . بيسان , تعاهديني ..؟
· على ماذا أعاهدك ؟
· لو قتلوا أحدنا يكون الثاني في استقباله في الفردوس.
· أعاهدك .
**
نحوَ الساعة التاسعة مساء , دفعاني خارج الشاحنة .
تلعثمتْ خُطواتي .
أزال ابنُ عميّ العصابة عن عينيّ . كم كانت أنامله باردة .
تدفقَ نورٌ داخل عروقي .
ساد صمتٌ كئيب . تناهى لسمعي صوتٌ من بعيد .. بعيد ..
لبلبل غرّد نغمة ً حزينة , ربما على شجرة لبلاب .
اتجهَ والدي نحوَ الشاحنة وبعثر محتويات صندوق أسود ثمّ استلّ سكينا كبيرة ووثبَ نحوي كأسد جائع.
أجفلتُ .
انتفضتُ كقشّة في مهبّ الحقد ..
صرختُ من قحف رأسي:
· يمـــــّااااااااااااااااا
صرخَ بي أن أصْمــُت صونــًا للعــِـرْ ض.
***
فككتُ ضفيرتي وأسدلتُ شعري الأسود الطويل فوقَ الكون.
سادَ ظلامٌ شديد .
صرختُ ثانية ً :
· يمــّاااا , ساعديني أتجرع هذي الكأس.
***
فجأة , تزلزت ِ الأرضُ , تشققت ِ الصخور , والقبور تفتحتْ .
صرختُ ثالثة ً بصوت ٍ عظيم قبلَ أنْ أ ُسلم الرّوح:
· يمــّا , متـــَى .. يأتي نيسان ..؟
متــَـى يُزهرُ اللوزُ والليمونُ والبرتقال ؟ متــَى ترقص الفـَرَاشات ِ الحالمة حولَ قناديل العُشـــّاق .. متى ..متى ..؟!