انتابتني الرغبة للوصول إلي حل نهائي تجاه المشكلة التي اعترضتنا بالأمس ، لابد أن أحدثها الآن بالتليفون ، أوضح وجهة نظري وإصراري على رأيي . تحركت ببطء ، رفعت السماعة ، طلبتها وانتظرت :
- هل أراكِ اليوم ؟
- طبعـًا لا .
أردفت قائـلاً بعد فترة صمت خاطفة :
- ربما في الأسبوع القادم !
وضعت السماعة دون تفاصيل أو تحديد موعد ، أغلقت النافذة ، وأنا لا أدرى بما يدور في رأسي سوى الرغبة في الخروج من صندوق القلق ، وكل شئ يحيط به . فتحت الباب ، نزلت إلي الشارع .
تلقفني وجه الشمس الحار ، زاد من توتري ما لفظه في وجهي من عرق . أخرجت منديلاً ورقيـًا ، جففت عرقي ، أطبقت عليه بإصابعي ، تخلصت منه في أول صندوق مثبت على عمود الكهرباء . قذفني الشارع للميدان حيث المسجد الكبير ، الرجال يخرجون منه ملتحمة أجسادهم ، حاملين نعشـًا مسجى بغطاء أخضر ورسومات خطية تبرز منه بلون أبيض ، يتحركون في كتلة واحدة ، من بينهم يخرج صوت منتظم الإيقاع ، وجدتني منساقـًا معهم أردد لحنهم .. تساءلت عن ذلك الميت :
- هل أعرفه ؟!
- هل يعرفني ؟!
- ولِمَ أتبعه ؟!
انتبه لبعض النسوة المتشحات بالسواد ، أجول ببصري فيمن حولي ، أدقق النظر ، لا أجد أحداً أعرفه ، أبطئ الخطو لأقطع نفسي من كتلتهم .
تنفرد المسافة بيني وبينهم ، يغيبون في بطن الطريق ، جارين خلفهم دمدماتهم. بكاء النسوة يضرب الحوائط . أبواب المحلات تنغلق واحداً تلو الآخر على من بداخلها ، وتنفتح بعد مرور الموكب .
أقترب من بائع الجرائد الذي أكل الرصيف ، كثيراً ما مررت من هنا ، بدأ بنوع واحد من الجرائد ، يومـًا بعد يوم ، خرجت له زوائد ، تشعب كإخطبوط حتى احتل كل الرصيف مغلقـًا الطريق أمام أقدام المارة ، مثله مثل كل الأكشاك . مددت بصري على معروضات الثقافة .. لم أشتر .. واصلت سيرى إلي لا شئ ، أهيم على وجهي بين زحام المارة ، وأبواق البائعين في كل مكان تدق أذنيَّ بمطرقة ساخنة .
اصطدمت بقدم مفرودة ، كدت أسقط ، جمعت نفسي من ترنحها ، عدت .. نظرت خلفي .. رأيت رجلاً يجلس ممدداً قدمه اليسرى أمامه ، فارداً يده اليمنى فوقها ، مغلقـًا عينيه ، وكُم جلبابه الأيسر لا جسم بداخله ، كذلك القدم اليمنى لا تظهر ..
لا أدرى هل يثبتها تحته أم أنها غير موجودة بالفعل ؟
تزحف يدي في جيبي ، تراودني فكرة أن أملأ يده الممدودة وأعطيه نقوداً ، أعدل عما يدور في رأسي ، أُدخل يدي الأخرى في جيبي الآخر ، أواصل السير ويداى مخبأتان داخلي ، كثيراً ما أفكر في إعطاء الشحاذين لكنني في كل مرة أتراجع في اللحظة الأخيرة ، أشعر بحلقي يجف ، أهش ذبابة تحوم حول أنفى ، أدخل في أول مقهى في طريقي ، أجلس مبتعداً عن رواده .
طلبت فنجانـًا من القهوة الزيادة ، أتأملهم فأجدهم مندمجين في اللعب . صوت النرد يضرب رأسي . تعلمتها وأنا صغير ثم مللتها وصرت غريبـًا عنها .
يقفز إلي رأسي ما حدث قبل خروجي ، رأيته حاضراً أمامي بكل تفاصيله . يزاحمني النادل ، يلقى بالقهوة أمامي في حركات بهلوانية . كوب الماء يشد عطشى إلي شفتيَّ ، أتناوله ، أشربه عن آخره ..
فجأة قطبت حاجبيَّ .. أتت الذبابة خلفي تشم أنفى ، أهشها ، تذهب .. تعود مهاجمة ، فقدت هدوئي ، طرحت يدي بعنف ، تمكنت منها .. سقطت في فنجان القهوة ، شعرت بسعادة التخلص من العدو ، بالرغم من فقدي للقهوة ، أخرجت جنيهـًا ، طرحته على الترابيزة .
تحركت ببطء ، ناظراً في اللافتات المصوبة تجاه المارة ، معلنة عن بدء موسم الأوكازيون الصيفي . يتزاحم الناس على الشراء . اليوم يبدو كما لو كان يومـًا آخر غير الأيام المعروفة في الشوارع ، لم يفهموا رغبة أصحاب المحلات والبائعين في التخلص من بطون محلاتهم ، اضطررت تحت الزحام أن أقف أمام محل للملابس .. تخفت أضواء النيون ، تندفع مرة واحدة ، فيصبح لأضواء النيون وجوهـًا تترصدنى .
أعجبت بقميص مخفض إلي نصف ثمنه ، دخلت المحل ، طلبته ، دلفت إلي حجرة البروفة ، ليس سيئـًا ، ألقيته عنى ، عدت إلي هيئتي الأولى ، كتب البائع الفاتورة ، ذهبت للخزينة ، دفعت المبلغ ، أخذت كيسـًا أطوحه في الهواء من آن لآخر .
لا أشعر برغبة في العودة إلي المنـزل ، قفز إلي مخيلتي صديق قديم ، وجهت خطواتي تجاه تليفون العملة ، أخرجت خمسة قروش ووضعتها في فم التليفون .
.." عند سماع إجابة اضغط الزر " .. أجمع رقمه في ذاكرتي .. 3 ، 6 ، 5 ، .. سمعت صوت صديقي ، ضغطت الزر الأحمر ، ابتلع العملة وانقطع الخط .. أدقه بعنف .. أعلق السماعة ، أبحث عن عملة أخرى ، أنظر في ساعتي .. الثامنة والنصف .. ماذا لو أذهب إلي السينما ؟ .. لم يبق سوى نصف ساعة على بدء العرض .. أقترب من الدار ، أقطع تذكرة بلكون ، لم أتحرك تجاه الأكلاشيهات في المدخل ، بالكاد عرفت اسم الفيلم ولم يبق في رأسي ، اصطحبني رجـل بكشاف صغير ، ينيره أمامه بالرغم من بهرجة اللمبات الجانبية . جلست في نهاية الصف ، أعطيته بقشيشـًا .. وضعه في يده ، سلط عليه ضوء الكشاف وهو يستدير .. لمحت نظرة صفراء في عينيه .. تركني ومضى لاستقبال القادمين .
جلست أُعد الداخلين .. رجل .. امرأة .. رجلان .. خمسة شباب .. فتاة .. ثلاثة فتيات .. مللت العد ، عدت إلي رأسي ، أسندته للخلف ، صوبت عينيَّ تجاه السقف ، أغلقتهما على الضوء وتفككت شيئـًا فشيئـًا .
خلعت الحذاء تحت قدميَّ ، انسحبت للأمام قليلاً وغبت .. فتحت جفوني .. لم أدرٍ كم مر من الوقت ، ولم أر إلا منظر الشاشة والظلام يحيط بي .. بدأ العرض دون أن أنتبه ، تلصصت على من حولي ، كُل مندمج مع من بجانبه ، لا أعتقد أن أحداً يشاهد الفيلم .. ثبت نظري تجاه الشاشة .. حركات سريعة .. قفزات في الهواء .. ركلات بالأيدي والأرجل ..
لا أحب هذه النوعية من الأفلام ، جمعت أشيائي ، لبست الحذاء ، خرجت ، ألقيت بالتذكرة تجاه شباك التذاكر ، عدت من نفس الطريق .
أصبحت قدماي كما لو كانتا شريطـًا يعود للخلف ، نفس المشاهد حتى وصلت إلي البيت ، صعدت ، أدرت المفتاح دورتين ، دخلت مغلقـًا الباب بقدمي ، تراجعت لأتأكد من وضع سقاطة الأمان ، قذفت الكيس على كنبة الصالة ، تخلصت من ملابسي ، دخلت الحمام ، فتحت الدش ، دندنت بكلمات أغنية قديمة وأنا تحت الماء ، أغسل تعبي .
جففت جسمي ، دخلت المطبخ ، أعددت كوبـًا من الشاي وأكلت معه قطعة خبز ، جلست على المكتب ، تناولت الكتاب الذي قرأت جزءاً منه في يوم سابق ، فتحته وبدأت ..
سرحت في الحلول الممكنة لتجنب التوتر الذي حدث معها ، أخيراً وصلت إلى الحل ، قررت أن أحدثها غداً ، أعرض عليها الأمر .