أقتلع ذاتي من قلب الوجع، ويحملني ارتداد الصدى إلى عمق عمر لا ألمس ضفافه، ولا أشمّ رائحته..
هل أغوص في بحيرات الذاكرة.؟ أي عمق سأصل.؟ هل يردّني إلى ذلك المكان الذي ما فارق هذه الرأس الموجوعة.. كان ذلك قبل أكثر من نصف قرن.. ياااه كم هو بعيد.. يومها.. ذات صباح حزيراني على حدّ برجين فلكيين في عام 1940 أعلن القدر مولدي.. كنت في ذلك المجيء الرتيب إطلالة سعادة وضّعت ابتسامات لا تحصى على تفاصيل وجوه أسرتي التي أسعدها قدومي.. مريحة كانت الحياة وتصاريفها وسبلها.. وهكذا بدأت فرحتهم الأولى.. وفرحتي غير المحسوسة الأولى أيضاً.. السخرية الحقّة أنها عبرت عندما كنت خارج الوعي.. وعندما وصلته.. تسربت كل التعابير والمفاهيم من بين أصابعي حزنت الوجوه وفاضت دموع الخيبة، فأضاعتني بين الخطوة والخطوة..

على شفير أسلاك قذفتني الفجيعة خارج أشيائي الحميمات لأبدأ غير ما كنت، ولا أعي غير ذلك الجديد مرفوعاً على ذكريات هشّة ضبابية أذكرها.. ولا أذكرها.! لكنها ما زالت تنسج بإصرار خيوطها في تكويني، وتخطّ معي حروف الكلمات يوم بدأتْ تنتفض على فرائصي الكلمات..

قلت يومها.. يوم بدأت ألمس لزوجة النزيف.. أحسّ الوجع في بيت ليس كالبيوت، في مدرسة ليست كالمدارس.. تحت يافطة الغرباء أبداً.. يومها قلت: ملعونة كلمة لا تمس عمق الجرح.. ملعونة كلمة لا تصارع كل المضادات علّها ترقى ذات لحظة إلى فعل الدم الأكثر طهارة ونبلاً وألقاً وليتها تصل إلى أول عتباته

يومها بدأت أنا الذي أنا.. اللاجئ الذي يجب.. بل يجب أن لا ترفّ له نبضة إلا وتذكّره بالمكان.. الوطن.. الأنا.. الـ نحن..!

ويبقى السؤال
هل حياة الغريب أينما كان في مجاهيل الشتات حياة.؟ هل موته في مجاهيل الشتات موت.؟ هل يجد اسماً على شاهدة قبر يخصّه ويعنيه.؟ هل يجد شقيقة نعمان تجذّره ذات لحظة فينبت في عيون صغار يولدون في سكون بريء، ربما مثل أي مخلوق يمتص بقاءه تحت جناح أم.. في دفء أم.. أيّ مخلوق.. أي كائن حيّ يجد.. بل لا بد أن يجد المكان.. يعود إليه كلما شدّه الحنين...إلا أنا..!
ويلي من هذه الأنا المصهورة في فجيعة الـ نحن

أذكر من وراء ضباب كثيف بيتنا في حيّ المنشيّة في يافا، يبعد أقل من خمسين متر عن شاطئ البحر، نركض إليه كل مساء عراة إلا من لباس السباحة، نقضي بين أمواجه وعلى أطراف صخوره الناتئة ساعات، نعود بعدها إلى حوض الماء الحلو في حمّام بيتنا نغتسل ثم نتناول وجبة العشاء، ونتسابق إلى أسرّتنا، نتظاهر بالنوم نحن الأربعة الذكور، بينما نمضي وقتاً تحت الأغطية نلعب ونتحدث ونرسم خططاً طموحة ليومنا التالي.. أذكر فيما أذكر علامات كبيرة ما زالت تعرض تفاصيلها أمامي كلما جرفني الخيال إليها.. أذكر مكتب والدي المحامي في سوق اسكندر عوض، ومكتبته التي كنا نقضي فيها الساعات الطوال نستمتع بالتفرّج على صور المجلاّت وقراءة ما نستطيع قراءته من كتب يحرص والدي على اختيارها.. أذكر تلهّفنا جميعاً لليوم الذي تنتهي فيه أعمال البناء في بيتنا الجديد في حيّ النزهة، كان يأخذنا والدي في سيارته الأوبل، نتراكض داخل ردهات البيت الجديد.. يرسم كل منا مكانه المختار في غرفتين وصالون، جناحاً مستقلاًّ خصص لنا من بين غرف البيت الخمس، كنت أرى والدي يمسك قبضات الأبواب النحاسية بمحرمته البيضاء، يقول: جمال القبضات النحاسية في شدّة بريقها.. يبتعد قليلاً ثم يردف: تبدو كبريق الذهب الخالص..

أذكر روضة بديع سرّي التي حضنت بدايات تفتّحنا للدراسة، وأذكر مدرسة الأرثوذكس التي كنت فيها تلميذاً في الصف الأول..

أذكر بيوت أقاربنا في عكا.. نتلهّف لزيارتهم في مناسبات كثيرة، ثلاثة أو أربعة مرّات في السنة.. بيت جدّي لأمي خارج السور في حي الرشيدية، إلى جانب المستشفى الوطني، وبيت خالتي الذي يقع قبالته تماماً تفصل بينهما ساحة واسعة رحبة، مكوّمة في ركنها القصيّ تلال من الزفزف (صدف البحر الصغير)، نرسم في وسطها ملاعبنا، ونمضي فيها كل المساءات..
بيت جدّي لوالدي داخل سور عكا.. قريباً من جامع الجزّار، بيوت أعمامي وعمّاتي..

لم أكن قد بلغت بعد الثامنة من عمري.. عندما غاصت تلك الذكريات في قاع ذاكرتي الصغيرة، وطفت فوقها طبقات كتيمة تراكمت فوقها طبقات مغلّفة بأصوات القذائف والرصاص من كل صنف ولون أغنت خبراتنا بصنوف الأسلحة التي تلفظها.. طفولة طارت قبل أن تأخذ في تكويني خط ملمحها.. أحسّها وأنا أذكرها وأتذكّرها رسوماً لأحلام باهتة لا يمكنها أن ترقى إلى ملمس الواقع.. وكيف ترقى وقد أفقت على رجل يحتّل رغماً عني جسدي الطفل.. ما زلت أذكر ذلك الحزن المعشّش فيه.. نحيل قصير باهت الملامح، حليق الرأس، تؤرقه الدموع الغزيرة التي لا يتوقف انسيابها على وجه أمّه.. ووجع آخر يقرض بؤبؤ العين يطل كئيباً في كل حين من عيني أب يعمل دون كلل خارج هيكله البشري لكسب قروش يدفن فوقها قسوة نبتت فجأة فيه، واحتلّت ما بقي منه..

هكذا بدأت مشوار الحياة، قفزت قفزة واسعة فتجاوزت طفولتي، وبرعت في بحثي المبكّر الدؤوب في اقتناص لقمة للعيش أحسن اختيارها من بين ألوف النباتات البريّة، وسروال مثقّب الجيوب، وحذاء مقطّع عاشا رحلات عجيبة مع أخي وأخي وأخي..

وبدأت الحياة تستعيد رتابتها.. الصغار يكبرون والطموح يتجاوز البحث عن اللقمة.. ومن كان مثلنا ليس له من سبيل غير العلم والتحصيل والعمل اليومي..

درجت في حواري دمشق، وملأت رئتيّ روائح بردى والورود الشامية، وريح قاسيون، وعبق الغوطة.. رست كما الأشياء الأخرى في قرار تكويني فاختلطت فيّ الصور الحبيبة.. أضاءت دمشق ظلمة روحي فتماهت مع حبي الأول وعشقي الأول ونبضة قلبي الأولى حتى لم أعدّ أفرّق أيهما يملك مني أول النبضات

في مدارس دمشق ترعرعت ونهلت المعرفة والعلم، وفي حواريها الأليفة بدأت رحلات حبي الأوَل..

وقادتني أقداري مرّة أخرى إلى قلب وطني.. القدس ورام الله وبينهما مركز التدريب المهني التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين، وإقامة داخلية على مسيرة عامين، أسسا في تكويني ربما ذلك الهيكل الذي ما زال يرفدني بمسببات الالتزام الصارم، كلّ تلك الفترة انسابت رقيقة بوجعها وسؤالاتها ودهشتها في رواية (بدّو) التي بدأت في كتابتها منذ ذلك الوقت وتركتها ردحاً ثم عدت إليها أكملتها ونشرتها في العام 2000 وهي عن جدارة سيرتي الذاتية تحدثت فيها عن تلك الفترة وقفزات إلى ما بعد لم تخرج عن سيرة

تخرّجت بعدها أحمل أول شهادة تخوّلني دخول دائرة المهنة.. ثم سفراً مبكّراً جديداً لنيل التخصص في هندسة الميكانيك من ألمانيا الغربية في حينه.. وبعدها في فرنسا مواصلة التخصص في الآلات الثقيلة والزراعية وعودة إلى الوطن.. سورية، أمارس العمل في تخصصي، أقدم ما أقدر عليه من جهد يداً تساهم بإخلاص في البناء..

ولا بد لي أن أمرّ على ذكر أمر أجده يلحّ عليّ.. فقد ملكتني موهبة الكتابة منذ نعومة أظفاري.. هي نعمة فطرية يمنحها الله لمن يشاء، ونحن نصقلها ونثريها.. كان غسان دائماً يمثّل لي نقطة المركز تدور حوله حياتي وسؤالاتي واستفهاماتي، أتابعه لحظة بلحظة فيما يكتب ويبدع، أشاركه الكلمة والحرف والريشة والصورة.. أتعلّم منه.. ولا يحجب عني معرفته التي بدت لي في ذلك الوقت البعيد المعرفة المطلقة التي لا تجارى ولا تَشِمُها أيّ شبهة.. كنّا نكتب معاً بفارق المقدرة والتمكّن طبعاً، وكنا ننشر ما نكتب هنا وهناك قبل أن يحترف مواجهة النضال إلى أن تتوّج بعد رحلة عمره القصيرة ونتاجه الغزير الذي فاق سنوات عمره وكأنه كان في سباق مع الموت بالشهادة في تموز 1972 يومها.. وأنا أسير مع طوفانات من البشر وراء نعشه المحمول على الأعناق جاءني القرار الحاسم المرعب.. قلت: يجب أن أتوّقف عن النشر والانتشار مهما كانت المغريات، ولو أن عليّ أن أكتم من داخلي الصرخات الداعية، أو أقتلها لو استدعى الأمر..

غسان هو أولاً ولا شيء قبله.. يجب أن تحتلّ صورته كاملة إبداعه، نضاله، سيرته، فنّه، ثوابته، فلسطينيته.. دائرة الضوء لا تشوبها طيوف خطوط مهما كانت، ولا تتسرب على جنبات سيرته وسيرة أسرتنا أسئلة.. ثم منطلقاً من حكمة أؤمن بها في أن الله سبحانه يرحم من يرفع المغبّة عن نفسه.. كنت في مقتبل الشباب، وكنت عرضة لإغراءات المناصب والشهرة فكتمتها وآثرت ركناً أواصل منه الكتابة وألقي في الدروج، متنكباً مهمة أخرى ومسؤولية أدبية أخرى في الإشراف على تربية أطفال بلغ عددهم في وقت ما أكثر من خمسة عشر طفلاً أكثرهم لم يبلغوا سنّ الحلم هم بعض اخوتي من أمي، ومن أبي وأولادي وأولاد أخواي الشهيدان غسان وغازي.. ومضى بي وبهم شوط العمر..

كبر الصغار وتنكّبوا إلى جانب مسؤولياتهم الحياتية مسؤولية مواصلة النضال كل بطريقته في سبيل فلسطين التي هي دائماً محور وجودنا كأفراد وأسرة ومجتمع..

حتى بلغ بي العمر ما بلغ.. ألحّت عليّ موهبتي التي لم تفارقني.. قاربت الستين من العمر قلت الآن أطفو على سطح المشهد الثقافي الوطني.. هو حقي.. وهو إعلام لا يغيب عن فطنة الفاهمين بأن من بلغ مثل سني لن يطمح بعد إلى منصب، ولا إلى التسلّق على سيرة آخر، مدركاً أنني بكتاباتي متواضعاً أملك الفكر والأداة وأحمل إلى جانب الضروريات الأخرى شيئاً لا يكّف عن الصراخ..
وهكذا بدأت منذ العام 1998 بنشر نتاجاتي الأدبية بدأتها بتشجيع مثابر من الشاعر الصديق خالد أبو خالد على كتابة ما يشبه السيرة عن غسان فكان كتابي الأول غسان كنفاني صفحات كانت مطوية حاولت أن أدوّن فيه ما لا يعرفه الكثيرون عن غسان.. عن مرحلتي الطفولة والصبا.. المولد والمنبت الأول ثم اللجوء ثم أهم المفاصل التي شكّلت غسان وأسرته والذين وقفوا إلى جانبه وخلف موهبته الفريدة.. بعدها توالت أعمالي.. ولا أدّعي أنها كانت سيلاً عرماً قياساً إلى زمن صدورها ما بين العام 1999 والـ 2002 بل أقول أنها كانت أو كان أكثرها مكتوباً منذ زمن أجريت عليها بعض لمسات وأطلقتها:

حين يصدأ السلاح.. قصص
قبور الغرباء.. قصص
على هامش المزامير.. مجموعة قصص قصيرة
بِدّو.. رواية "وهو اسم قرية فلسطينية تقع شمال غرب مدينة القدس"
أخاف أن يدركني الصباح.. قصص
رؤى.. قصص مشاركة مع مجموعة قاّصين
بروق.. قصص مشاركة مع مجموعة قاصّين
أطياف.. قصص مشاركة مع مجموعة قاصّين
مسرحيّة وطنية "مونودراما" بعنوان "شمّة زعوط"

كتب منشورة حتى الآن، وأخرى تحت الطبع وقيد الإنجاز رواية بعنوان رابعة.. ومجموعات قصص إضافة إلى ما أكتبه وأنشره في الصحف والمجلات والدوريات المحلية والعربية من موضوعات أدبية وسياسية ونقدية وبحوث..
ربما لا أستطيع أن أحيط تحليلاً في كل ما كتبت لكنني أستطيع أن أشير إلى بعض الخطوط الرئيسة التي ألزمت نفسي بها

إذا ما تجاوزنا كتاب السيرة الذي لم أنهج فيه الكتابة التقليدية للسيرة بل جعلته قطعة أدبية إبداعية لا تحمل خصوصية السيرة التقليدية الحادّة، بل تشير أيضاً عبر محاور بذاتها إلى تلك الثوابت التي ألزمت نفسي بانتهاجها وهي موضوعة الالتزام الوطني والقومي.. قيمة المكان.. وفسحات الزمان.. وألق الذاكرة التي هي رصيدنا الأهم ورثناها ونورّثها..

فلسطين هي الروح في كل ما أكتب حتى في بعض قصصي الاجتماعية والإنسانية والوجدانية أيضاً لا بد أن تتماهى فلسطين مع العام وتصب ذات لحظة ذات ومضة في بحر التزامي المطلق

أهديت أكثر نتاجاتي إلى موضوعات اللحظة، وأخذت انتفاضة شعبنا الباسل بريق وجداني فوهبتها ووهبت أبطالها تصريحاً لا لبس فيه وشعاراً لا رياء فيه، في تعبير أقول فيه (مطلوب من أدبنا المقاوم أن يرقى إلى قامة الدم) هو واحد من شعارات أؤمن بها حتى النخاع ما زالت تنبض على سنّة قلمي وستبقى ما دام خافقي يرّف..

هو أنا بتواضع شديد.. أحاول أن أكون على قدّ الأمل.. أقدّم نبضي إلى وطني الكبير الكبير، وإلى فلسطين الكبيرة.. وإلى أسرتي التي قدمت أول الشهداء في العام 1947 وما زالت ترفد المسيرة وتدفع ضريبة الانتماء والحب كما كل الأسر الفلسطينية لفلسطين تقدّم على مذبحها الطاهر خيرة شبابها، ونزيف عرقها.. ولم يغب ولو للحظة ريح فلسطين ولا فضاء فلسطين ولا ماء فلسطين من بين مهجنا.. نتطلع إلى يوم عودة هو حقّنا الذي لا نحيد عنه.. وهو صراخنا الذي لن يتوقف رغم نباح المتساقطين.. مؤمناً بأن النصر هو الآتي مهما طال بنا الوقت، وأن المسافات التي امتلأت ببحيرات من الدم لن ترصفها إلا حرابنا، يومها نملأ الدنيا شقائق نعمان، ويومها نبكي أحباءنا ونعلن سلامنا..

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية