في اجتماع تناصف فيه الضجيج مع الهدوء ، وانزوت أضواء المنبر تحت ألسنة المنادين ، قرر مجلس الأمناء بأغلبية عضو واحد بأنهم سيعاقبونه شر عقاب ، لملموا أوراقهم المختلفة وسجلاتهم ، وأهملوا عن عمد ما قدمه أحدهم في اقتراح مضاد " إنه الأنسب لنا ، ويخدمنا بشكل غير مباشر.." وقبل تلاوة البيان الختامي ، تساءل عضو متربع على إليتيه الدهينتين المنفوختين ، وهو يلعب بكرشه المندلق أمامه" إذا لم نحاصره ، فمن نحاصر ..؟ " ثم امتص شفتيه ، وعبر عن سخرية لاتخلو من زحلقة لأفكار كان قد طواها الجدل الضبابي منذ بداية الجلسة ، كأكأ جاره من وراء ضحكة تبعتها كلمات خالية من الإيحاء واللباقة ومؤيدا لوجهة نظره ..
كما جاراه ثالث جاحظ العينين ، بارزتين من وراء نظارة شفيفة ، لديه شراهة في طرح الأفكار وقلة التركيز " نحاصره ، فنربي به جيرانه.."
وكان الجواب من عضو مكارثي ، معروف بمذهبيته السلفية : " نعم ، فلنحاصره إذا كان لابد لنا من عدو.. "
وجاء الاجتهاد العبثي الخالص من رفقاء في الظل ، اجتهاد مطّعم بعدمية يقصي الحكمة بعيدا، ويفسر كيفية استخدام الممنوعات الأخلاقية ، وأدوات الحصار والخنق والتجويع ، وذكروا متشدقين ضرورة منع حتى السجائر والزبدة والأدوية وإحكام الحصار البري والجوي والبحري .. وبعد هرج ومرج ، جال مفعوس الشعر وهو يلعب بخفيه بين قسوة نارية وتريث ممغنط وانتهى بفكرة صبيانية طرحها مستسهلا " وحتى الهواء .. اقطعوا عنه لهواء .." وبلفتة تنم عن خلاف في رأي ما بعد ديمقرطي ، وبجعل الكلمات تناطح الكلمات ويسيل المعنى من جروحها قيئاً ، أجابه شخص يواجهه الجلوس " عفوا ، نحاصره هو ، وليس شعبه ..هو زعيم مارق ، لكن ما ذنب شعبه المسكين " .. استأثرت هذه الجملة وغيرها بعناوين الصحف ، ووصلت الآراء إلى الناس كالحقيقة الدامغة ، كما سمع الداني القاصي بأخبار حزمة العقوبات : تجويع ، ترهيب ، ترويع ، تجسس ، تطويع .. حتى يأتي زاحفا على بطنه ..
ولول بعض الزعماء من هنا وهناك ، وهفهف بعضهم الآخر دعما للقرار الحكيم خشية أية تهمة استباقية بالتعاون معه ..
* * *
أمام عدسات الكاميرات ، مسدّ الزعيم العجوز والمتهم شاربه ، وكشف عن وجه عنيد، وردّ بشفتين ممطوطين وبلهجة غامضة " فشروا ، فأنا لها .." كان حوله أعضاء مجلس حكمه التاريخيين الذين عفَّنوا الزمن بخميرة التقزز والقرف ، يصغون إليه السمع ، تبجح وترفع ودندن ولطم فجوة صمت متأتية من خوف مزمن لبطانته برأيه ما قبل الديمقراطي ، وفي لقطة درامية أمام العدسات طلب من الحراس أن يوزعوا سجائر من صناعة العدو على أعضاء مجلس حكمه.. وقبل نهاية الاجتماع ، نطق نائب الزعيم قائلا باعتزاز : " أنا لا أدخن يا سيدي، لكن كرمال عيونك مستعد للموت " ، فض الاجتماع الفاصل بهزة رأس من الزعيم ، فهزَّ تابعوه برؤوسهم ، قهقه فقهقوا ..
ثم تفرقوا ، وهم يرددون في أنفسهم :
- يا لها من هزة رأس جبارة !
انطلقت الشائعات بين صفوف الشعب ، خاصة حول تصرف نائب الرئيس الذي ظهر وهو يدخن على غير العادة .. وأحدثت وسائل إعلامه وفق أوامر عليا ضجة حول السجائر المعادية وتدخين النائب ..
* * *
بعد حين تلقى الزعيم تقرير استخباراته، وجاء فيه : " ما يحدث هو مقدمة لضربة عسكرية من العدو " قرأ التقرير وحسب ، وطلب من وسائل الأعلام أن تشن هجوما مضادا .. بينما انشغل طاقم حكمه بلغزي : علب السجائر وهزة الرأس .. دون أن يتفوه أي منهم ببنة شفة بانتظار التوجيهات السامية ..
في لقاء عابر مع النائب ، تكلم الزعيم بالهاتف مطولا ، وخرج النائب دون أن يفهم أي شيء ، سوى أن الزعيم تكلم بلهجة رقيقة وغزلية مع أنثى، ووعدها بتوفير كل شيء لها رغم الحصار الجائر..
* * *
بعد أن قرأ تقرير استخباراته الأخير، أقام حفلا بمناسبة عيد ميلاده في جو من الألق المثير، والاستعراض المؤدلج ، والبهجة المفرطة .. خاصة وأن الصحف قد انتهت من ترسيخ عدوانية مضادة : << عدو متغطرس وغاشم ، ضحايا الحصار في تزايد : بطالة ، جوعى ، موتى ، فقراء ، وطوابير أمام مؤسسات الحكومة التموينية .. و.. >> هزَّ عنقه ، رفع كتفه إلى سوية شحمة الأذن ، لكن هذه المرة لم يره أحد .. تلمس فروة رأسه ، ثم وضع قبعته البطريركية ووقف أمام المرآة .. تلفت حوله بريبة ، ونطق .." أنا .. أنااااااااا .."
مضى وقت من نار ، وقت محصور بين فكي موت وجنائز واستغاثات جوعى ومرضى ، وكان الزعيم قد تناسى الحصار الذي حصد الأخضر واليابس كالجراد في طول البلاد وعرضها ، وبدأ ينسى معه بقية أعضاء قيادته المرتاحين في ظله معنى هزة رأسه ، وهم على يقين بأن خطته قد أتت أوكلها رغم كل المعاناة والكراهية الشديدة للعدو ..
* * *