فرخت عقارب الساعة موعد اللقاء الذي انتظره شادي بفارغ الصبر، وتفاعل مع وجدانه كقصيدة غزل ، شحنته ملامح خطيبته بشعور غريب عجز عن ترجمته ككل مرة يستعد للذهاب إليها ، اعتاد النظر إلى القرية من بيته الذي يطل على محيطها كرادار ، مسكته لهفته من أذنيه ، واندفع كشاعر يتتبع الحروف نحو قافية مطيعة لإلهامه، مع أول خطوة باتجاه بيت خطيبته الواقع على سفحِ تلٍ مقابل لبيته ، انتفض قلبها وارتطم بجدران صدرها ، وأخبرتها حواسها أنه آت إليها كأغنية تحبها. أسرعت في تتويج مشاعرها سلطانا على قامتها التي انتهت من تزيينها للتو ، واستسلمت للأفق الذي أوحى لها بغروب معطر بعيون الناس، تترافق كل خطوة يخطوها نحوها بدقة من قلبها كلحن موسيقي عذب .. تشابكت لهفته مع شوقها و نشوتها المتحفزة للقائه ،أهملت قليلا نظراتها التي تتبع هامته إليها و انشغلت بالنظر إلى المرآة، احتج قلبها وطلب منها العودة للانضمام إلى خطوات الحبيب، أخبرتها نبضات قلبها أنه أصبح عند منتصف المسافة منها- على تخوم سفح الهضبة المقابلة لسكنها ..
تباطأ شادي قليلًا عندما لمح شيئًا يخالف عشوائية الطبيعة من أعواد الحطب وأغصان الأشجار المهملة ، اقترب منه ، وإذْ ببندقية صيد على جانب الطريق ، توقف بجانبها و نظر حوله عساه يجد صاحبها ، وبعد بحث تعذر عليه إيجاد أحد ، فصاح بصوت تدرجت نبراته من العادي إلى المناداة بصوت عالٍ :
- لمَن هذه البندقية ، لمَن هذه البندقية..؟
سمع فقط صدى صوته ، ارتبك قليلا وكرر المناداة ، ثم قال : " يا إلهي ، أين صاحبها ؟ .."
أسدل قلب خطيبته وشاح الترقب والانتظار على فسحة توجسها، انحنى لرفع البندقية ، فانحنت مشاعرها كعجوز متعبة كي تلتقط أجوبة عن سبب ارتباكها غير المبرر..
رجفت يداها عندما أمسك البندقية ، التفت حوله ، ونادى، عرقت و ضجّ صدرها بانفعالات داهمت نشوتها بجروح مدماة ..
فكر بأمر البندقية ، و تساءل ماذا يفعل بها، و مَن هو صاحبها .. قرر الانتظار قليلا لحين ظهور شخص ما يتفاهم معه بشأنها ، و قال في نفسه:
- قد يمسكها فتى ما و يؤذي نفسه.
انتظر قليلًا ، أحس أنه تأخر عن موعده مع حبيبته، وآسى نفسه ، وقال :
- أنتظر قليلًا، سيزداد شوقها إليّ أكثر ..
وضع البندقية على حافة الطريق الترابي الضيق، راقبها باستغراب، بينما طوق عنق مشاعر الخطيبة عفريت ، جال في خاطرها كلام شيطاني عن الضياع و الفراق، أبعدت عن عينيها غشاوة بلون الزفت ، فغلبتها و عادت إليها من وراء أصابعها التي تفلت من أوكار رجفاتها كخفافيش، أمسك شادي البندقية، فأمسك قلبها إعصار، تأمل أخمصها، فأحكم القلق قبضته على عنقها، نظر إلى فوهة البندقية ،فشعرت كأن فم عفريت ابتلعها، اهتزت البندقية بيده هزة عشوائية، و خرجت طلقة اخترقت جمجمته، لفت رأسها بيديها وصرخت صرخة مدوية التقت مع صدى صوت الرصاصة ..
أثناء الوداع الجنائزي للعاشق ، قال عجوز :
- حيثما يوجد الرصاص ينفجر ، وغالبًا يقتل!