- تفه ، اللعنة على الشيطان ، لقد أضعتها بسبب الفوضى ..
ناداه رفيق دربه من على شرفة البيت المقابل، واستعجله للمرة الرابعة بالاستعداد للذهاب إلى المدينة ، اعتذر عن تأخره بنبرة لا تخلو من حشرجة صوت مصطنعة فيها رنة جرس معدني ، واعترف صراحة بأنه أضاع بطاقته الشخصية وهي الهدف من وراء سفره للمدينة من أجل قضاء حاجة في دوائر الحكومة ، هدأ الجار من روعه ووعده بانتظاره ريثما يجدها ، وقال :" ضائع البيت ما يروح .." دبت فيه جذوة الحماس وانطلق يبحث عن الهوية في كل مكان متوقع وغير متوقع من زوايا البيت..
دخل إلى غرفة أولاده الذين ذهبوا للمدرسة ، فتش وبفتور يلمس طرف همته الباردة بين دفاترهم وكتبهم.. استهجن تصرفه معتبرا استحالة وجودها هنا إلا إذا كان الشيطان بنفسه قد رماها هنا ، تقدم إليه إحساس مغاير لما هو عليه من تحلل و غيظ ، خالجه شعور غريب و هو يبحث ، ثم تمتم دون أن يلقي بالا على أمر آخر :
- من غير المعقول أن تكون هنا !
قلّب بين الدفاتر قليلا ، وقع نظره على مظروف رسالة داخل إحداها ، انبرى يبحث عن هدفه ، متجاهلا مظروف الرسالة ، وبعد حركة عشوائية سقط من الدفتر وكأنه يستدعيه لفتحه ، اشرأبت رائحة حاسة غريبة عن لون وطعم حياته الروتيني ، ذاب نفس حامضي في ريقه ، و خمن مازحا بعد تردد " ربما الهوية فيه ؟!" رفعه عن الأرض ، أمسكه بأنامله المتصلبة كأعواد حطب ، وتساءل بعفوية :
- لا يزال أطفالي صغارا على مثل هذه الرسائل؟!
برز طرف وردة مجففة من حافة الظرف ، فمد يده و فتحه، أخذ ورقة مزخرفة ومرسوم عليها قلوب وأسهم وشعارات وأزهار ملونة ، زال عن وجهه المخضوض لونه الجاف المقدد ، و انجذبت عيناه بكليتها إلى الكلمات، تململ و لثغ ، ثم استجاب للشحنة الجاذبة من الورقة المخطوطة ، اعترته موجة ناعمة لإحساس غريب لم يشعر به من قبل في حياته ، وبدا سليب الإرادة أمام علياء مفاجأة لامست باطنه ، وقرأ :
" حبيبتي ، لقد جعلتني أكثر نشاطاً في المثابرة ومتابعة دراستي ، وانطلق من داخلي عصفور مرح يشبه عينيك ، لقد تجاوزت أبجدية الحب .. وأخط الآن جملا أركبها من لقاءاتنا التي تشبه لعبة القط و الفأر ، فأنا الآن عاشق مختلف عما كنت عليه بسببك ، وكان اللقاء الأخير بيننا كطعم العسل ، وكلقاء الفراشات بالورد …"
قرأ الرسالة حتى النهاية بنهم ، حرك رأسه كأنه يخفف عنه نوبة صداع ، رمق ضوء ذنب تناهى إلى ثغر احتمالات ماجنة ، رمى الورقة على طاولة تحاذيه ، ودنا من جسارة ذاتية فرضت نفسها عليه ، وغرق في ماء سؤال واحد حول الذي رآه ، تمشى قليلا ، بقي طريح أفكار لم يقدر على التعامل معها وكأنه أمام جبهة مفتوحة مع يوم شؤوم ، تجمد للحظات يبعد عنه وعثاء المفاجأة ، وبردة فعل ميلودرامية أعاد قراءة الرسالة مرة بعد أخرى ، ماجت بها مشاعره وهاجت ، أخذته من غرة فوضى محكمة إلى تساؤلات سبقته إلى داخله كزوبعة تجاوزت حدود الممكن، ودفعت به إلى استسلام له رائحة الهزيمة ، ألقى بكامل عطالة جسمه على الطاولة ذاتها التي تعود لابنه ، تراءات له صورة الابن بكل تفاصيلها ، بقي معها فاقدا شهوة الكلام والقدرة على التخيل الكامل لقامة الولد ، لازمته أفكار أثقل مما ينبغي وجثمت على كاهل قدراته لتحيله إلى رذاذ على شاطيء اللحظة المتسلطة عليه ، دارت به أرض الغرفة دورات عدة ، انتحب داخله ، فأغمض عينيه ، وجمجم :
- أنا أب مهمل .. نعم مهمل .. وأكثر من ذلك..أنااااااااا..
حمل جسمه الثقيل إلى خارج الغرفة ، ولدت نقطة ارتكاز أبوية جذبته نحو تكرار الاتهام لنفسه .. بين أخذ ورد لا طائل لهما، قام و غسل وجهه بالماء البارد، رشّ شعره برذاذ الماء العالق على يديه ، أحس ببرودة تسللت إلى مدفأة أحشائه المهملة، استقبل وجهه في المرآة وكأنه لشخص آخر ، سحب يده على خصلة شعر تتخللها شعيرات شائبة ، استسلم لها وحدها ، وذكرته بعمره الآتي من رحم الدنيا ومشاغلها، و بأنه أب لأولاد قد كبروا هكذا بسرعة على غفلة من الزمن " أف، كبرت بسرعة يا سليمان " ، ابتعد عن المرآة وهو يكرر ما قاله بحذر .
صفق يحاجج هذه اللهجة الانهزامية في كلامه ، وتوعد قائلا : " أيوه .. أنا سليمان ، ولن أسمح لأحد أبدا أن يناديني بأبي وليد، لا أزال سليمان شيخ الشباب ، ولا يزال وليد طفلي الصغير .. "
شدّته ذاكرته من سبات الحياة الروتينية إلى ماضٍ انتفض ضد وقته المتمرد عليه، و الذي غافله و تمكن من نشر بعض الشيب في مفرقيه وأطراف شاربه ، وزرع بعض التجاعيد فوق جبينه على قلتها ، لكنها بارزة ولها ذاكرة للسنين التي عبرت من خلالها ..
اعتذر من صديقه بأنه لن يرافقه إلى المدينة هذه المرة ، و قال في نفسه : " حتى لو وجدت البطاقة، فلن أذهب .."
عاد إلى الغرفة ، أخذ الرسالة و قرأها من جديد ، ترك لعقله وهو في ظل هدأة من نهاية لجمع رحيق الأيام يحلل ما جاء فيها ويستدرك وقع المفاجأة التي أربكته ، وفي فسحة الراحة من بال متوتر ، أعاد النظر بما هو عليه ، ابتسم ابتسامة متمردة ، وكشر عن نية استرضاء لها طعم القداسة ، وعبر عن إعجابه بالجمل المشحونة بعواطف جياشة ، كرر عشر مرات الجملة التالية " كما علمني أبي الصدق ، يعلمني حبك أن أكون نقيا كالسماء في ليلة صيف جميل.."
تذكر أنه قال كلاما مشابها لزوجته في أوّل أيام عشقه لها، تسلقه شبابه كدمية ، انفصل عن خياله شاب يشبهه ولوح له بأصابعه " هل نسيت ؟ كنت مثله .. " داعبه قلبه الخفاق الذي أخذه على حين غرة إلى تلك الأمسيات الجميلة التي بدأت بقصة حب مثيرة و انتهت بزواج مثالي، تراقصت أمامه الكلمات التي انطلقت من تحت معطف رسالة ابنه ، انبعث منه مرح خفي كطيف شفيف، ما برح أن تحول إلى حرارة الحياة التي دفعت به إلى ذوبان في أواني مشاغل الدنيا :
" أنت تفتخر بشبابك ، و نسيت الجمل الغرامية التي تحتاجها رفيقة عمرك .."
أجاب بوضوح لا يخلو من قسوة :
- إنها الحياة ، ابنة العسر ، و مشاغلها الكثيرة ..
- اعترفْ أنك كبرت.
شعر أنه سيخسر الحوار ، فنأى بنفسه عنه ، و راح يعد على أصابعه كتلميذ في الصف الأول الابتدائي كم سنة بلغ عمر ابنه ، و تأكد أنه تجاوز الـ 15عاما بثلاثة أشهر ..
فرك شحمة أذنه ، عاملها كحلمة ضرع نعجة حلوب ، وتمتم :
- لقد ذكّرتني يا وليد أنك كبرت.
و أجاب على سؤال حرج طرحه على نفسه:
- نعم ، أعترف أنني كبرت..
أعاد الرسالة إلى مكانها في الدفتر تماما كما كانت ، وتفاوض مع لحظته حتى أشبعها جدلا ، وانتهى إلى رجاء بأن تتركه وشأنه كي يفرغ حقيبة أيامه من عشوائية العبور الاستهلاكي ..
***
استقبل الأولاد الذين عادوا من المدرسة ، اهتم بهم كعادته، وبعد قليل من حضورهم التحقت بهم الأم التي عادت من زيارة أهلها ، اشترك مع الزوجة في ترتيب البيت، كما اهتما بدراسة الأولاد .. انشغل ببرنامجهم وترتيب واجباتهم وفق الجدول المعد..
انتهت من سقاية أصص الورد ، وعبرت نحو الباب الجانبي للدار ، في لحظة من احتكاك كتفها بكتفه تشابكت نظراته مع نظراتها ، تقطر منها نفس سائل هز كيانه ، ابتسمت ، فاستنكر هذه الحركة غير المقصودة منه ، ارتسمت على وجهه سيماء توتر ، و على خلاف كل مرة تلمسه شعور أن كل سني عمره التي أمضاها معها بمحبة اختبأت وراء رتابة قاسية ، تقصّد لمس يدها في وضح الضوء المتساقط من النافذة .. ابتعدت عنه كمهرة ، اقترب منها ففهمت قصده، و فجأة تحررت من ملكوت صمت عرّش في عتمة الهموم ، و فاضت مشاعر جياشة كعيد طال انتظاره ، استندت إلى حافة النافذة تعتمل نظراتها حيرة واشتعالا ، و تأملت شجرة الجوز الخضراء التي ترخي بظلالها على البيت ،التفتَ حوله متأكدا من خلو المكان ، وقال:
" كما علمني أبي الصدق، يعلمني حبك أن أكون نقيا كالسماء في ليلة صيف جميل.."
راق لها ما قاله ، ارتجفت أوصالها ، وأحست بدبيب مسرة تتسلقها ، نبهته إلى وليد الذي دخل بسرعة وسمع بعض هذه الكلمات ، ثم خرج فورا..
تجاهل الأمر وقال جملا أكثر رومانسية ، أيقظت شبابها الغافي في سرير يومياتها الرتيبة ، أحست بطعم يقظة سارة تحت شغاف قلبها وبفرح طال ذروة عذوبتها ، كادت تخر من وقع المفارقة ، وبوعي غامض وتصرف مستلب ، جهزت فنجاني قهوة ، و طلبت منه الخروج إلى ظل شجرة الجوز ، جلسا كعاشقين يلتقيان أول مرة ، ظلا صامتين ، وفي داخل كل منهما تعتمل أمواج النظرات الحارقة ، وفجأة تحين ابتسامة ماكرة من شفتيها ، وابتدر يردد كلمات رقيقة من رسالة ابنه ، استغربت ، وطرحت سؤالا يتيما :
- من أين كل هذه الشاعرية؟
ابتسم ، وأجاب:
- أنت الحب الأبدي الذي لا أستطيع التعبير عنه بالكلمات.
امتشقت أنوثتها الممزوجة بأمومة طافحة بالجد و قدمتها كنبتة طرية إليه ، انتعش ، سرى في كتلة جسمه خدر تجاوز كل قيمة معنوية حاول تحسسها في أيام خلت ، انتشى ، ارتكب معصية الهمس ، وردد جملا أحالتها إلى جمرة ملتهبة ، وعاطفة مشبوبة ترجمتها بتحويل أيامها التالية إلى يقظة دائمة ، وكلما نظر إليها تشع ، وتمطره عبرات جياشة ، فيعترف لها تارة كمجنون بمعصية الحب العظيم ، وتارة أخرى يتهمها بالخمرة التي أسكرته ..
***
بعد عدة أيام لاحظ تجنب وليد له، فقرر أن يناقشه في أمر الرسالة ، وأن يبارك له حبه، ويدعوه للدفاع عنه حتى النهاية، اقترب منه واستعد للتكلم معه مباشرة حولها، تلعثم، ووجد نفسه يكلمه عن الدراسة و الأصدقاء و المدرسين ..
شعر وليد بارتباك والده ، فبادله الارتباك وحمرة الوجه ، أطرق يحدق إلى الأرض ، فابتعد الأب عنه ، وسأل نفسه بامتعاض :
- لماذا ارتبكت؟
فكان الجواب الذي حمل تبريرا رمادي اللون :
- أنت لم ترتبك ، بل خجلت من ابنك، لأنه سمعك تغازل أمه بكلماته نفسها.
فكر قليلا ، وأضاف بوضوح :
- إذا كنت أخجل من ابني ، فكيف الحال به هو ؟
ودون مقدمة ، خرج إلى بهو البيت و خاطب زوجته بصوت عالٍ ومسموع لمسافة بعيدة :
- يا نور عيني ، إذا عشقت ابنتك ، فماذا تنصحينها؟
أجابت الزوجة باستغراب:
- لا يزال الوقت مبكرا على السؤال .
- أعتقد أن السؤال قد نضج.
تظاهرت الزوجة أنها فهمت قصده ، وأجابت :
- أنصحها كما نصحتني أمي ، وأقول لها : أحسني الاختيار ، وانتبهي ، إذا حرص عليك الشاب كأخت ، و عشقك كحبيبة امضِي معه حتى النهاية..
فهم وليد رسالة والديه، لف ارتباكه بابتسامة ورضا، ودخل إلى غرفته كي يتابع تحضير دروسه بنشاط ..
أسد محمد