ي لحظة من استعجال ضروري ، ووقت بدأ ينفذ أصرَّ على البحثِ عن بطاقته الشخصية بعد أن فتش كل الأماكن المتوقعة لوجودها في جيوب بنطاله والجاكيت القديمة ، والشنتة المركونة في الزاوية ، سحب نصف ثياب خزانته وفتشها قطعة قطعة دون فائدة ،ارتبك وشتم حظه الذي عاكسه ، وكأن الوقت وحش يكشر عن أنيابه فويستعد لنهشه ، جلس على كرسي القش في محاولة للتركيز واسترجاع شريط ذاكرته حول آخر مرة رأى فيها تلك التي ذكر اسمها بسوء ، قطب حاجبيه فوق عينين قاسيتين مثل حبة بندق ، مطّ خديه ، علا مزاجه خثرات فوضى ، و انتهى إلى نتيجة عقيمة .. امتص بضع قطرات عرق مالحة وصلت شفتيه كفشة خلق مما هو عليه من خيبة ، وضع يديه خلف رأسه وزنر فروته ذات الشعر المعفوس بأصابعه ، ثم تنهد بعمق، وقال مدمدما:
- تفه ، اللعنة على الشيطان ، لقد أضعتها بسبب الفوضى ..
ناداه رفيق دربه من على شرفة البيت المقابل، واستعجله للمرة الرابعة بالاستعداد للذهاب إلى المدينة ، اعتذر عن تأخره بنبرة لا تخلو من حشرجة صوت مصطنعة فيها رنة جرس معدني ، واعترف صراحة بأنه أضاع بطاقته الشخصية وهي الهدف من وراء سفره للمدينة من أجل قضاء حاجة في دوائر الحكومة ، هدأ الجار من روعه ووعده بانتظاره ريثما يجدها ، وقال :" ضائع البيت ما يروح .." دبت فيه جذوة الحماس وانطلق يبحث عن الهوية في كل مكان متوقع وغير متوقع من زوايا البيت..
دخل إلى غرفة أولاده الذين ذهبوا للمدرسة ، فتش وبفتور يلمس طرف همته الباردة بين دفاترهم وكتبهم.. استهجن تصرفه معتبرا استحالة وجودها هنا إلا إذا كان الشيطان بنفسه قد رماها هنا ، تقدم إليه إحساس مغاير لما هو عليه من تحلل و غيظ ، خالجه شعور غريب و هو يبحث ، ثم تمتم دون أن يلقي بالا على أمر آخر :
- من غير المعقول أن تكون هنا !
قلّب بين الدفاتر قليلا ، وقع نظره على مظروف رسالة داخل إحداها ، انبرى يبحث عن هدفه ، متجاهلا مظروف الرسالة ، وبعد حركة عشوائية سقط من الدفتر وكأنه يستدعيه لفتحه ، اشرأبت رائحة حاسة غريبة عن لون وطعم حياته الروتيني ، ذاب نفس حامضي في ريقه ، و خمن مازحا بعد تردد " ربما الهوية فيه ؟!" رفعه عن الأرض ، أمسكه بأنامله المتصلبة كأعواد حطب ، وتساءل بعفوية :
- لا يزال أطفالي صغارا على مثل هذه الرسائل؟!
برز طرف وردة مجففة من حافة الظرف ، فمد يده و فتحه، أخذ ورقة مزخرفة ومرسوم عليها قلوب وأسهم وشعارات وأزهار ملونة ، زال عن وجهه المخضوض لونه الجاف المقدد ، و انجذبت عيناه بكليتها إلى الكلمات، تململ و لثغ ، ثم استجاب للشحنة الجاذبة من الورقة المخطوطة ، اعترته موجة ناعمة لإحساس غريب لم يشعر به من قبل في حياته ، وبدا سليب الإرادة أمام علياء مفاجأة لامست باطنه ، وقرأ :
" حبيبتي ، لقد جعلتني أكثر نشاطاً في المثابرة ومتابعة دراستي ، وانطلق من داخلي عصفور مرح يشبه عينيك ، لقد تجاوزت أبجدية الحب .. وأخط الآن جملا أركبها من لقاءاتنا التي تشبه لعبة القط و الفأر ، فأنا الآن عاشق مختلف عما كنت عليه بسببك ، وكان اللقاء الأخير بيننا كطعم العسل ، وكلقاء الفراشات بالورد …"
قرأ الرسالة حتى النهاية بنهم ، حرك رأسه كأنه يخفف عنه نوبة صداع ، رمق ضوء ذنب تناهى إلى ثغر احتمالات ماجنة ، رمى الورقة على طاولة تحاذيه ، ودنا من جسارة ذاتية فرضت نفسها عليه ، وغرق في ماء سؤال واحد حول الذي رآه ، تمشى قليلا ، بقي طريح أفكار لم يقدر على التعامل معها وكأنه أمام جبهة مفتوحة مع يوم شؤوم ، تجمد للحظات يبعد عنه وعثاء المفاجأة ، وبردة فعل ميلودرامية أعاد قراءة الرسالة مرة بعد أخرى ، ماجت بها مشاعره وهاجت ، أخذته من غرة فوضى محكمة إلى تساؤلات سبقته إلى داخله كزوبعة تجاوزت حدود الممكن، ودفعت به إلى استسلام له رائحة الهزيمة ، ألقى بكامل عطالة جسمه على الطاولة ذاتها التي تعود لابنه ، تراءات له صورة الابن بكل تفاصيلها ، بقي معها فاقدا شهوة الكلام والقدرة على التخيل الكامل لقامة الولد ، لازمته أفكار أثقل مما ينبغي وجثمت على كاهل قدراته لتحيله إلى رذاذ على شاطيء اللحظة المتسلطة عليه ، دارت به أرض الغرفة دورات عدة ، انتحب داخله ، فأغمض عينيه ، وجمجم :
- أنا أب مهمل .. نعم مهمل .. وأكثر من ذلك..أنااااااااا..
حمل جسمه الثقيل إلى خارج الغرفة ، ولدت نقطة ارتكاز أبوية جذبته نحو تكرار الاتهام لنفسه .. بين أخذ ورد لا طائل لهما، قام و غسل وجهه بالماء البارد، رشّ شعره برذاذ الماء العالق على يديه ، أحس ببرودة تسللت إلى مدفأة أحشائه المهملة، استقبل وجهه في المرآة وكأنه لشخص آخر ، سحب يده على خصلة شعر تتخللها شعيرات شائبة ، استسلم لها وحدها ، وذكرته بعمره الآتي من رحم الدنيا ومشاغلها، و بأنه أب لأولاد قد كبروا هكذا بسرعة على غفلة من الزمن " أف، كبرت بسرعة يا سليمان " ، ابتعد عن المرآة وهو يكرر ما قاله بحذر .
صفق يحاجج هذه اللهجة الانهزامية في كلامه ، وتوعد قائلا : " أيوه .. أنا سليمان ، ولن أسمح لأحد أبدا أن يناديني بأبي وليد، لا أزال سليمان شيخ الشباب ، ولا يزال وليد طفلي الصغير .. "
شدّته ذاكرته من سبات الحياة الروتينية إلى ماضٍ انتفض ضد وقته المتمرد عليه، و الذي غافله و تمكن من نشر بعض الشيب في مفرقيه وأطراف شاربه ، وزرع بعض التجاعيد فوق جبينه على قلتها ، لكنها بارزة ولها ذاكرة للسنين التي عبرت من خلالها ..
اعتذر من صديقه بأنه لن يرافقه إلى المدينة هذه المرة ، و قال في نفسه : " حتى لو وجدت البطاقة، فلن أذهب .."
عاد إلى الغرفة ، أخذ الرسالة و قرأها من جديد ، ترك لعقله وهو في ظل هدأة من نهاية لجمع رحيق الأيام يحلل ما جاء فيها ويستدرك وقع المفاجأة التي أربكته ، وفي فسحة الراحة من بال متوتر ، أعاد النظر بما هو عليه ، ابتسم ابتسامة متمردة ، وكشر عن نية استرضاء لها طعم القداسة ، وعبر عن إعجابه بالجمل المشحونة بعواطف جياشة ، كرر عشر مرات الجملة التالية " كما علمني أبي الصدق ، يعلمني حبك أن أكون نقيا كالسماء في ليلة صيف جميل.."
تذكر أنه قال كلاما مشابها لزوجته في أوّل أيام عشقه لها، تسلقه شبابه كدمية ، انفصل عن خياله شاب يشبهه ولوح له بأصابعه " هل نسيت ؟ كنت مثله .. " داعبه قلبه الخفاق الذي أخذه على حين غرة إلى تلك الأمسيات الجميلة التي بدأت بقصة حب مثيرة و انتهت بزواج مثالي، تراقصت أمامه الكلمات التي انطلقت من تحت معطف رسالة ابنه ، انبعث منه مرح خفي كطيف شفيف، ما برح أن تحول إلى حرارة الحياة التي دفعت به إلى ذوبان في أواني مشاغل الدنيا :
" أنت تفتخر بشبابك ، و نسيت الجمل الغرامية التي تحتاجها رفيقة عمرك .."
أجاب بوضوح لا يخلو من قسوة :
- إنها الحياة ، ابنة العسر ، و مشاغلها الكثيرة ..
- اعترفْ أنك كبرت.
شعر أنه سيخسر الحوار ، فنأى بنفسه عنه ، و راح يعد على أصابعه كتلميذ في الصف الأول الابتدائي كم سنة بلغ عمر ابنه ، و تأكد أنه تجاوز الـ 15عاما بثلاثة أشهر ..
فرك شحمة أذنه ، عاملها كحلمة ضرع نعجة حلوب ، وتمتم :
- لقد ذكّرتني يا وليد أنك كبرت.
و أجاب على سؤال حرج طرحه على نفسه:
- نعم ، أعترف أنني كبرت..
أعاد الرسالة إلى مكانها في الدفتر تماما كما كانت ، وتفاوض مع لحظته حتى أشبعها جدلا ، وانتهى إلى رجاء بأن تتركه وشأنه كي يفرغ حقيبة أيامه من عشوائية العبور الاستهلاكي ..

***
استقبل الأولاد الذين عادوا من المدرسة ، اهتم بهم كعادته، وبعد قليل من حضورهم التحقت بهم الأم التي عادت من زيارة أهلها ، اشترك مع الزوجة في ترتيب البيت، كما اهتما بدراسة الأولاد .. انشغل ببرنامجهم وترتيب واجباتهم وفق الجدول المعد..
انتهت من سقاية أصص الورد ، وعبرت نحو الباب الجانبي للدار ، في لحظة من احتكاك كتفها بكتفه تشابكت نظراته مع نظراتها ، تقطر منها نفس سائل هز كيانه ، ابتسمت ، فاستنكر هذه الحركة غير المقصودة منه ، ارتسمت على وجهه سيماء توتر ، و على خلاف كل مرة تلمسه شعور أن كل سني عمره التي أمضاها معها بمحبة اختبأت وراء رتابة قاسية ، تقصّد لمس يدها في وضح الضوء المتساقط من النافذة .. ابتعدت عنه كمهرة ، اقترب منها ففهمت قصده، و فجأة تحررت من ملكوت صمت عرّش في عتمة الهموم ، و فاضت مشاعر جياشة كعيد طال انتظاره ، استندت إلى حافة النافذة تعتمل نظراتها حيرة واشتعالا ، و تأملت شجرة الجوز الخضراء التي ترخي بظلالها على البيت ،التفتَ حوله متأكدا من خلو المكان ، وقال:
" كما علمني أبي الصدق، يعلمني حبك أن أكون نقيا كالسماء في ليلة صيف جميل.."
راق لها ما قاله ، ارتجفت أوصالها ، وأحست بدبيب مسرة تتسلقها ، نبهته إلى وليد الذي دخل بسرعة وسمع بعض هذه الكلمات ، ثم خرج فورا..
تجاهل الأمر وقال جملا أكثر رومانسية ، أيقظت شبابها الغافي في سرير يومياتها الرتيبة ، أحست بطعم يقظة سارة تحت شغاف قلبها وبفرح طال ذروة عذوبتها ، كادت تخر من وقع المفارقة ، وبوعي غامض وتصرف مستلب ، جهزت فنجاني قهوة ، و طلبت منه الخروج إلى ظل شجرة الجوز ، جلسا كعاشقين يلتقيان أول مرة ، ظلا صامتين ، وفي داخل كل منهما تعتمل أمواج النظرات الحارقة ، وفجأة تحين ابتسامة ماكرة من شفتيها ، وابتدر يردد كلمات رقيقة من رسالة ابنه ، استغربت ، وطرحت سؤالا يتيما :
- من أين كل هذه الشاعرية؟
ابتسم ، وأجاب:
- أنت الحب الأبدي الذي لا أستطيع التعبير عنه بالكلمات.
امتشقت أنوثتها الممزوجة بأمومة طافحة بالجد و قدمتها كنبتة طرية إليه ، انتعش ، سرى في كتلة جسمه خدر تجاوز كل قيمة معنوية حاول تحسسها في أيام خلت ، انتشى ، ارتكب معصية الهمس ، وردد جملا أحالتها إلى جمرة ملتهبة ، وعاطفة مشبوبة ترجمتها بتحويل أيامها التالية إلى يقظة دائمة ، وكلما نظر إليها تشع ، وتمطره عبرات جياشة ، فيعترف لها تارة كمجنون بمعصية الحب العظيم ، وتارة أخرى يتهمها بالخمرة التي أسكرته ..
***
بعد عدة أيام لاحظ تجنب وليد له، فقرر أن يناقشه في أمر الرسالة ، وأن يبارك له حبه، ويدعوه للدفاع عنه حتى النهاية، اقترب منه واستعد للتكلم معه مباشرة حولها، تلعثم، ووجد نفسه يكلمه عن الدراسة و الأصدقاء و المدرسين ..
شعر وليد بارتباك والده ، فبادله الارتباك وحمرة الوجه ، أطرق يحدق إلى الأرض ، فابتعد الأب عنه ، وسأل نفسه بامتعاض :
- لماذا ارتبكت؟
فكان الجواب الذي حمل تبريرا رمادي اللون :
- أنت لم ترتبك ، بل خجلت من ابنك، لأنه سمعك تغازل أمه بكلماته نفسها.
فكر قليلا ، وأضاف بوضوح :
- إذا كنت أخجل من ابني ، فكيف الحال به هو ؟
ودون مقدمة ، خرج إلى بهو البيت و خاطب زوجته بصوت عالٍ ومسموع لمسافة بعيدة :
- يا نور عيني ، إذا عشقت ابنتك ، فماذا تنصحينها؟
أجابت الزوجة باستغراب:
- لا يزال الوقت مبكرا على السؤال .
- أعتقد أن السؤال قد نضج.
تظاهرت الزوجة أنها فهمت قصده ، وأجابت :
- أنصحها كما نصحتني أمي ، وأقول لها : أحسني الاختيار ، وانتبهي ، إذا حرص عليك الشاب كأخت ، و عشقك كحبيبة امضِي معه حتى النهاية..
فهم وليد رسالة والديه، لف ارتباكه بابتسامة ورضا، ودخل إلى غرفته كي يتابع تحضير دروسه بنشاط ..

أسد محمد
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية