إلى شجرة نسلوها من تربتها، فماتت.. لكنها قبل أن تلفظ أنفاسها وضعت وليدها..
وستبقى..!
شجرة معمّرة شهدت رحيل الغزاة الواحد تلو الآخر، وبقيت منتصبة شامخة وفيّة لفلاّح لا يعرف غير ريح تربتها..
في ليلة قاسية العتمة اجتاحتها أسنان غول فولاذية، فسقطت تزرع نَفَسها الأخير في التربة التي لا تعرف هي الأخرى سواها.. بعد أيام شقّ عود صغير طريّ سطح التربة وأشرق يانعاً من بين شفتيّ الشجرة المعمّرة الشهيدة.. يحمل بألق وريقات خضراء صغيرة تعشقتها ثلاث فراشات.. خضراء وسوداء وحمراء
رسمتهم طفلة على كوفيّة الفلاّح البيضاء وطيّرتها..
رفرفت وحلّقت فرحة في فضاء ممتدٍ بين نهر وبحر، وراحت تضع على عتبة كل بيت مهدّم.. قصفة خضراء..
وما زالت ترفرف..!

وإلى طفل شاهد بعينيه الحزينتين المقهورتين أسنان جرّافة تدمّر بيته ودفاتره ولعبه؟؟
أصابعه النحيلة، كأنها سنابك جرّافة يغرزها بقوة في كومة دمار هي ما تبقّى من بيته..
اقتربتُ منه بحذر.. سمعت همهمة.. ربما بكاء.. ربما بحّة ناي حزينة.. ربما غناء..؟
أصابعه مذعورة، لا تتوقف عن الحفر عميقاً في بقعة واحدة، وكأنه هو الذي أخفى فيها ذلك الذي يبحث عنه.
فجأة.. توقفت حركته.. سحبت أصابعه من قلب الركام.. نصف دمية..!
رفعها إلى فوق ينظر إليها بصمت.. ودهشة..!
صوّب نظرات عينيه نحوي.. ، كأنّه سدّد بين عينيّ فوهة بندقية.. لمحت في حزن عينيه المقهورتين بريق دمعتين وقفتا حدّ الطوفان، رأيت على صفحة مرآتيهما ملايين الوجوه السمراء خرساء تتفرّج..
قبل أن يبعد البندقية عن وجهي سقطت الدمعتان على وجنتيه، ثم أشعلتا ناراً في كومة الدمار..
عاد ينظر إلى نصف الدمية.. كأنه يبكي.. كأنه ناي زادت بحّاته.. كأنه يغني..!
رفع نصف الدمية.. رفعها على مدى مدِّ ذراعيه الصغيرتين.. عالياً.. عالياً.. أصبحتُ أشاهِدها من وراء الصحراء.. والصحراء.. والصحراء..
صرخ بأسى ذابح ألهب رمال الصحارى كلّها:
قتلوا السندباد..
إليهما.. أهدي نبض روحي..؟


ع.ك

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية