فجأة.. أطلّ عليّ من بين غيمتين.. قمر..!
رأيت في ظلاله أشياء كثيرة.!
بينها أشلاء نفسي ..
بينها سفينة شراعها ممزّق، وصاريها محنيّ حتى جبهتي.. ربّانها ميّت، وبحّارتها قراصنة يذوّبون الملح ويعصرونه رقصاً مرّاً في عيون صبيّة سبيّة، مصلوبة على جذع منارة بعيدة.. بعيدة على مدّ رمال خرزيّة يختلط اقتتال الموج وصرخات الغبار الطالع من موت الأرض بسكون عينيها.. وألف زنديق يبيع في سوق النخاسة فحولته، ويمدّ ما استطاع قامته ليطال صليبها المرمري..
يصعد الكَلِم.. يصعد..! ثم يقسم وجه القمر إلى شطرين..
يصعد أكثر..
فتنقلب خشبات الصليب الزيتونية وهي تصارع نبضاتها في ظلمة ليلتي الحالكة إلى كأس من رصاص تصبّ على عمري المسفوح تحت شفرة الفأس.. "المائدة الأخيرة.."
ماذا جئتَ تفعل أيها القمر المغموس بصليب الدم وأنا أغوص مع موت الربّان.؟
آه يا ليلى..
قبل ألف عام ذهبتِ إليه.. أخذوكِ إليه.. تركتِني وذهبتِ..
من هو هذا المسخ.؟ ترتمي آهاتكِ تحت فحيح أنفاسه الجارحة.؟ كيفَ احتملتِ هذا البؤس.؟
آه يا ليلى..
على شرفتك اليرموكيّة أهدرتُ عمري.. تركتِ لي بقاياك على أشلاء بلادٍ بادتْ، ومضيتِ بتاجك وصولجانك على حصان أسود إليه..
تراهم أخذوكِِ إليه..؟
عبثتْ فيكِ أصابعه.. فأتلفَت وجه الياسمين.. وغاصت في بحيرات البجع عيناه..
شقّ نصف القمر إحدى الغيمتين.. تلك التي تنفسّت رائحة برتقالة، خلعت ثوبها وثوبِكِ.. فنفر بريق العسجد.. واتكأت حلمتان بنفسجيتان على إفريز رمّانتين..
هرب نصف القمر الآخر.. توارى وراء الغيمة الباقية.. خجلاً يطوي بستانه المثمر تحت ستائر أوراقها الزيزفونية.. يتعثّر ثوبها الشفيف بلهفة ساقيه الهاربتين فيختبئ شوقي بين الخطوة والخطوة..!
مات الربّان..
لا لم يمت..
قتلوه..
بحّارته قتلوه.!
قَلَبتْهم رحلات الذهاب والإياب إلى قراصنة ألقوا جثّته في البحر فحملتها قبيلة أسماك.. أبحرت بها.. أبحرت ثم علّقتها على طرف المنارة..
القراصنة يرقصون.. وليلى تحتضر..
آه يا ليلى..
أنا متّ قبلكِ فلا تحتضري..
أطلّ القمر..
يا إلهي..
السفينة تغرق.. الربّان تحمله أثقاله إلى القاع..
أنا بعض أثقاله..
أمضي معه إلى الغرق..
أغرق.. أغرق..
ربّاه..
متى ينتهي هذا الحلم..؟
ع.ك