في زاوية الصالة الكبيرة جلست وفاء على كرسيها المُتحرك وهي تنظر إلى حفيدتيها بنظراتٍ تفيضُ حنيّة ًوسعادة, كانتا كالعصفورتين مبتهجتين بقدوم الربيع, تتحركان بخفةٍ ومرح في زوايا المنزل, وتنشران أريج السرور في كل شبرٍ منه, كانتا تجهزان لحفل ذكرى ميلادهما السابعة عشر, وتتأكدان من أن كل شيءٍ مستعدٌ للاحتفال والفرح, الشموع تتوج الكعكة, وأوراق الزينة الملونة تلفُ أذرعتها حول الجدران, والطعام بأصنافه وأنواعه يربض فوق الطاولة, والضيوف على وشك الوصول.
كانت تتأمل كل ما تقومان به من حركاتٍ وسكنات, ضحكاتٍ وصرخات, وأفعالٍ طفوليةٍ تمتزج بالشقاوة واللعبِ والبشاشة, كالفراشات تتنقلانِ من زهرةٍ إلى زهرة, بل كالزهور المتفتحة لاحتضان الفرح واحتواءه, كانتا بالنسبة لها .
على ذلك المنظر الذي يمثل لها زينة الحياة الدنيا, وبهجة العُمر ونشوته أغمضت عيناها, أسندت رأسها على الحائط المتسمر خلفها واستحضرت الذكريات القديمة, نفضت الغبار المُتراكم عليها بفعل السنون, وابتعدت عن مراسي الحاضر مُبحرة ً في محيط الأمس .. قبل ثمانية عشر سنة وتحديدًا في شهر مايو من سنة 1990 ميلادية كانت تستعد لحفل زواج ابنها البكر خالد من سعاد ابنة صديقتها الحميمة, كانت فتاة جميلة ذات خُلقٍ ودين, سُرَّ بها خالد سرورًا عظيمًا لما وجدت فيها من صفات يتمناها كُل رجل, عُقد القران وانعقد الحفل بعد بضعة أيام في قاعةٍ كبيرة بأحد أفخم الفنادق في البلاد, الأضواء تتراقص على ألحان الفرح والسرور, والمدعوون يتوافدون للتهنئة والمُباركة, والعروس تمشي بزهوٍ وفخار بين مقاعد الجالسين مُتجهةً نحو عرشها البلوري لتُتوج عليه ملكةَ هذه الليلة السعيدة .
توالت الأفراح واكتملت بتخرج ابنها الثاني سالم من المرحلة الثانوية وحصوله على درجة الامتياز وتفوقه على أقرانه, ما إن طرق الخبر أبواب مسامعها حتى تهللت واستبشرت , وأطلقت العنان لصيحات الفرح واحتضنته بشدة قائلة ً له : - ها قد أصبح حلمك قاب قوسين أو أدنى من الواقع, قريبًا ستحقق أمنيتك وأمنية أبويك بدراسة الطب, بضع سنوات وستصبح دكتورًا يا دكتور سالم . ابتهج الجميع وتبادلوا التهاني بهذه المناسبة السعيدة, أما سالم فكان أشدهم فرحًا, فهاهو يقطف ثمار جهده يانعة ً ناضجة تسر الناظرين إليها والحاصلين عليها, وها هو يتوج سنوات تعبه ودراسته بالدرجات العُلى والشهادةِ المُرتقبة .
وما كان منه في تلك اللحظات إلا أن يختلي بنفسه, وينفرد في غرفته ساجدًا لله شاكرًا إياه على فضله ونعمائه, حامدًا له على ما أعطاه ومَنَّ به عليه . أيامٌ قلائلٌ مرت, امتزجت مشاعرُ الفرح في قلبها بعبراتِ الحُزن, هاهي مضطرة لوداع ابنتها الوحيدة سارّة لعدة شهور, حيث أنها سترافق زوجها في رحلة عملٍ خارج البلاد, لم تعدت وفاء على ذلك, فحتى بعد زواج ابنتها كانت تزورها في كل يوم وتحرص على رؤيتها والجلوس معها كلما سنحت لها الفرصة, حتى أنها قد استأجرت شقة قريبة من منزل والديها لتتسنى لها رؤيتهما يوميًا, ولكن لابد من الرحيل, حتى ولو كان صعبًا لابد منه !
مضى أكثر من شهرين على زواج خالد وسعاد, وفي موعد زيارة العائلة اقتربت سعاد من خالتها وفاء وهمست لها باستحياء : - خالتي لقد كبُرتي, ستصبحين جدة ً قريبًا . التفت وفاء فجأة على سعاد وعانقتها بشدة وهي تقول : - ما أسعده من خبر, لقد اشتقت كثيرًا للأطفال, يااه وأخيرًا سيمتلأ المنزل بالصراخ والضحك واللعب والشقاوة . عندها علق خالد ضاحكًا : - لم تعودي شبابًا يا أمي, ولن تستطيعي احتمال الأطفال كما كُنتِ في السابق . فأجابت : - العُمر زاد وتقدم, والقلب مازال ينبض بالشباب. تعالت الضحكات وقال أبو خالد : - لا تخافي يا أم خالد, أنا أيضًا أحمل الشباب في قلبي وسأعينكِ على الأحفاد .
قام الجميع بعد هذا الحديث الممتع اللطيف, وهذا الخبر الرائع العظيم, واتجهوا إلى طاولة العشاء يحدوهم الفرح ويحفهم السرور من كل جانب, انتهت الزيارة وعاد كلٌ منهم إلى مكانه . . . ابتسمت وفاء وتنفست بعمق, فتحت عيناها وإذ بحفيدتيها منهمكتان بتنسيق الزهور وترتيب المكان, قالت لهما مُداعبة ً : - لا تقفا بجانب الزهور حتى لا تغار من حُسنكما وجمالكما . فأجابت إحداهن : - إن كانت الزهور تغار, فالأولى لها أن تغار منكِ لا منا, فأنتِ أجمل وأصغر . فضحكت وقالت : - لقد غلبتني يا صغيرتي.
أحست وفاء بأن ضحكاتها تلك كانت كالغطاء الذي تخفي خلفه الهم الكبير والألم العظيم, كانت تتمنى لو أن الأحداث توقفت في ذلك اليوم, أو أن ذاكرتها قد محت كل ما حدث بعد ذلك. . . فبعدما عادت إلى غرفتها في تلك الليلة المشئومة جلست تتسامر مع زوجها, والذي بدت عليه علامات القلق وشرود الذهن, استفسرت منه عن السبب وراء ذلك فأخبرها عن قلقه إزاء الظروف السياسية التي تحيط بالمنطقة, وأن الكويت تواجه تهديدات فعلية من جارتها الشمالية, وأنه سمع اليوم في الديوانية كلامًا لا يسر, حاولت أن تطمئنه وتهدئ من روعه, وقالت له بأن الله سيحفظ البلد وشعبها من كل مكروه, وأنه ما من سببٍ يجعل الكويت مهددة أو مستهدفة من قِبَل جارةٍ مسلمةٍ عربية, هز رأسه وأومئ بالموافقة واتجه إلى سريره, إلا أن النوم قد جفا أجفانه وأعرض عن عينيه, ففكرهُ وقلبهُ مشغولٌ بالتفكير وممتلئٌ بالوساوس, في تمام الساعة الرابعةِ فجرًا دقت الساعة مُعلنة ً حلول موعد أذان الفجر نهض الزوجان من فراشهما لأداء الصلاة وإذ بهما يسمعان جلبةً وصياح وأصواتًا غير طبيعية في الخارج, هرع الزوج نحو النافذة فرأى سيارات ضخمة تجوب الشوارع وزبانية الاحتلال يموجون في الطرقات والأزقة, راعه المنظر وأفزعه, اتجه مسرعًا نحو التلفاز ليعرف ما يجري حوله, فإذ بالمذيع يقول بكل أسًا وحزن : -
دولة الكويت الحبيبة وقعت تحت براثن الاحتلال العراقي الغاشم ! تسمرت وفاء أمام التلفاز, هالها ما سمعته فلم تصدق, ضربت كفًا بكف قائلة ً : - لا حول ولا قوة إلا بالله, إنا إلى ربنا وإنا إليه لراجعون, إنه القوي العزيز سينصرنا, لا قوة لنا إلا به, ولا نصر لنا إلا بمساندته وتأييده .. منذ تلك اللحظة, اللحظةُ الأولى كانت بذرة المقاومة والكفاح والمُناضلة قد غُرست في قلبها, وعاهدت نفسها على أن تبذل كل ما في وسعها من جهد, وكل ما في جيبها من مال , وكل ما في جسدها من طاقة, وكل ما في حياتها من لحظاتٍ وأنفاس في سبيل خروج المعتدي وعودة الوطن سالمًا إلى مواطنيه وأهله .
الزوج المُعتاد على أداء صلاة الفجر في المسجد لم يستطع الخروج في ذلك اليوم خوفًا على أهله, فرش سجادته ووقفت خلفه زوجته, صليا الجماعةً معًا في الغُرفة, كانا يبكيان ويتضرعان إلى الله تعالى أن يحفظ الكويت من كل مكروه, وأن يهوّن المصيبة ويدحر المُعتدي الآثم .
توالت الأيام والأحداث, تفتقت الجراح وزادت الآلام, خرج من خرج من البلاد, وصمد من صمد, الأحوال تزدادُ سوءً, الطعام يقل والزاد ينفذ, الأسرى في تزايد والشهداء يروون أرض الوطن من دمائهم الطاهرة, المُفاوضات على الانسحاب مستمرة خارجيًا, والأوضاع متردية داخليًا, لم يبقى بيتًا إلا وأصابه الهم والحزن, من فقد عزيز أو موتِ غال.
في المنطقة التي تسكنها وفاء تكونت بؤرة المقاومة الكويتية, منطقة الكفاح والصمود, كيفان .. النخوة والكرامة والشجاعة, اجتمعوا في قلوبِ ثلةٍ من شباب الوطن, أبوا الخنوع ورفضوا الخضوع, تحركت في دواخلهم الشهامة, وهاجت مشاعرُ حب الوطن والتضحية في سبيله, كوّنوا خلية المُقاومة وتصدوا بكل ما أوتوا من قوةٍ ودهاء لقوات الاحتلال, بذلوا الكثير والكثير في سبيل النصر ومُساعدة المساكين ومعاونة المُستعفين من أهل البلاد المنكوبة.
انطلقت الشرارة الأولى التي أشعلت جذوة هذا الشباب المُتحمس من مُحادثة مليئة بالألم والغضب جرت بين خالد وصديقيه أحمد وناصر, اجتمع الثلاثة في منزل خالد يتبادلون الزفرات والحسرات, ويصف كلٌ منهم ما يشاهدهُ من مشاهد مؤلمة يقوم بها وحوش الاحتلال ضد المواطنين, والبؤس الذي امتلأت به الشوارع, والجوع الذي التهم البيوت وساكنيها, والخوف الذي يعتري جميع القلوب التي تنبض فوق هذه التُراب .. قال أحمد بصوتٍ يرتعدُ غضبًا : - لا يمكن أن نسكت على كل ما يدور من حولنا, لابد أن نفعل شيء, سنكون جبناء لو رضينا أن نقف متفرجين على هامش الأحداث . رد ناصر : - لن نكون رجالاً إن لم نساعد أهلنا ومواطنينا, إن الكويت اليوم بأمس الحاجة لنا, لن نخذلها . سمعت وفاء هذا الحديث أثناء قيامها بجلب العشاء, استبشرت لما سمعته من الفتية وأسرعت نحوهم, وضعت الطعام على المائدة ونادتهم فالتفوا حولها. قالت وهي تُغالب الدموع : - إن الوطن يا أبنائي هو اعز ما يملك الإنسان, والإنسان بلا وطن كالجسد بلا روح, بل كالروح بلا جسدٍ تتقمصه وتعيش فيه ! إن حدث مكروهٌ لهذا الوطن فلن تستطيعوا العيش في مكانٍ غيره, ولن تستمر الحياة كما كانت, بل ستتوقف عند نقطةٍ مُظلمة, وسنسقط جميعًا في بئرٍ لا قرار له, سنتشتت ونضيع في الديار, سنفقد أهلنا ومنازلنا وأموالنا, إن الوطن ليس ترابًا نمشي فوقه وهواءً نتنفسه وماءً نشربه فحسب, الوطن هوَ نحن, هو كل واحدٍ منا, وكُل قطرةِ دمٍ تجري في عروقنا .. لم تكد تُكمل حديثها إلا وكانت الدموع تغسل وجوه الجميع, تحاملت على نفسها قليلاً, ربتت على كتفِ إبنها خالد وقالت : - يا أبنائي, أنتم الأمل الذي تعوّل عليه الكويت, وأنتُم النور الذي تُبصر به , إن الشباب هم الفئة الأكثر فاعلية في السلمِ والحرب, في الأمنِ والخوفِ والغزو, أنتم من يستطيع أن يقلب الموازين ويغير الأحداث بالعزيمة والصبر والجهاد, لا غنى لنا عنكم, فكيف تستغنون عنا ونحن بمسيس الحاجة لكم, إن كلَ جائعٍ خائف يغلق عليه باب منزله أنتم مسئولون عن إيصال الطعام له, وكل أسيرٍ خلف قبظانِ الظُلم في المعاقل والمحتجزات التي أنشئها العدو في بلادنا أنتم مسئولون عن فك قيده, لقد غمرتني الفرحة عندما سمعت الحوار الذي دار بينكم, إنها المواطنة الحقيقية, والتربية الأصيلة, والحُب الغريزي بدأ مفعوله, فليبارككم الله ويعينكم على ما ستواجهون من مصاعب.
كانت تلك الكلمات الحانية والصارمة في نفس الوقت لهؤلاء الفتية الثلاثة بمثابة النار التي أوقدت الحريق القادم لالتهام العدو ! انطلق خالد وناصر وأحمد يجمعون الأصدقاء والأقرباء, والجيران والأخوان, يثيرون الحمية في نفوسهم, وينقلون لهم كلام وفاء, ويحضونهم على الانضمام لصفوف المقاومة, وتلقين العدو درسًا لن ينساه, كانت الاجتماعات تتم بكل سرية في منزل وفاء وتحت إشرافها وتوجيهها المعنوي, كانت تبثُ الحماسة في نفوس الشباب وتشد من أزرهم بالشعاراتِ الوطنية تارة, وبالآيات القرآنية والدعاء المستمر المتواصل, كانت تحضهم دومًا على أداء الصلاة والتقرب من الله تعالى فهو من أهم أسباب النصرة والمؤازرة الربانية, كانت تهيئ لهم الأجواء وتنقل لهم ما يرد إليها من أخبار . قسم الشباب أنفسهم إلى مجموعات ووزعوا بينهم المهام, ترأس خالد مجموعة السلاح والهجوم على المُعتقلات وقتال الجنود, أما أحمد فقاد حملة التبرعات والمُساعدات وتوزيع المعونات على المُحتاجين, وناصر تزّعم خلية التجسس التي كانت تؤدي الدور الأهم حيث تُبقي المُقاومة بعيدًا عن أعين العدو, وتجلب أخبار الجنود المُغتصبين للمنطقة.
المجموعة الأولى برآسة خالد كانت تُداهم المُعتقلات ليلاً وتفك أسر المُحتجزين فيها, وتسطوا على مخازن سلاح الأعداء فتأخذ منها الذخيرة والعتاد والسلاح, كم من شابٍ استبسل أثناء هذه الهجمات الاستشهادية وأصيب أو قُتل, وكم عرضوا أنفسهم للخطر والمهالك في سبيل ردع المُعتدي ورد الظلم عليه . في إحدى هذه الهجمات كان عدد أفراد المُقاومة أقل بكثير من الجنود المتواجدين داخل المخفر فوقع الجميع في الأسر واستشهد أحدهم برصاص العدو, حزن خالد ورفاقه حزنًا شديدًا على ما أصابهم, تعرضوا للضرب الشديد والشتم القاسي من جنود, وصل الخبر إلى وفاء فتمزق قلبها ألمًا على ولدها وأصدقائه الأبطال, ودعت الله أن يفك أسرهم ويعجل في نصرهم, أما سعاد والتي قاربت على دخول شهرها الثامن لم تحتمل الصدمة وأغشي عليها من كثرة البكاء.. استمر بواسل المقاومة بالعمل والتخطيط لفك أسر زملائهم إلا أن مخططاتهم قد فشلت ووردهم خبر مؤلم يقول أن خالد ومن معه نُقلوا إلى بغداد مع عدد كبير من الأسرى .. وكان لهذا الخبر الوقع الأشد على وفاء وزوجها وسعاد وعلى أهالي الأسرى الآخرون, تمالكت وفاء نفسها وقالت لناصر الذي أوصل الخبر لها: - الكويت ليست شخص واحد, إن فقدناه فقدناها, وإن هلك توقفنا عن نصرتها, الكويت هي المواطنون جميعهم, المواطنون الذين يفنون آخر قطرة دم في جسدهم في سبيلها .. كانت لهذه الكلمات صدًا كبير في نفس ناصر وباقي أفراد المقاومة, فاستمروا على الأعمال التي يقومون بها بالرغم من فقدهم لأهم زعمائهم وقائدهم, استمرت اللقاءات في منزل وفاء, وداهم العراقيون المنزل أكثر من مرة ووضعوه تحت المراقبة, ولكنهم لم يعثروا على شيء , وفي كل مرة يأتون على حين غرةٍ أو بغتة كانت تتصدى لهم بعزةٍ وأنفة قائلة : - فتشوا المنزل قطعةً قطعةً ولَبِنة ً لبـِنة, لن تجدوا شيء, وإن لم يُزل الشك من قلوبكم قطعوا جسدي وفتشوا بداخله, لن تجدوا ما يسركم .. كان الضابط يتجاهل كلامها ويقول : - عجوز شمطاء قد خرّفت, اتركوها.
بمثل هذه المواقف كانت تُعطي لشباب المقاومة دروسًا عملية ً تطبيقية , تثبتهم فيها على الطريق وتشد من أزرهم وعزيمتهم .. وفي إحدى الأيام التي لم تشرق بها الشمس على منزل وفاء, اقتحم الضابط وأعوانه الباب ودخلوا مسرعين نحو إحدى الغُرف, جرّوا منها ابنها سالم وهو يقوم بتزوير هويات الجنود الكويتيين وأفراد الشرطة وتحويلها إلى هويات مدنية, ضربوه بشدة أمام أبويه, شجوا رأسه وأدموا جسده, ووفاء تنظر له بنظراتٍ ملؤها الدمعُ والألم, كانوا يخلعون قلبها من مكانه ويسحبونه خلف سالم الذي ألقوه في سيارتهم .. لم تحتمل ولم تعد تطيق الصبر والتجلّد, ركضت خلف الضابط تترجاه وتطلب منه أن يترك ابنها, يكفيها فقد خالد وانتزاعه من بين أحضانها, تشبثت بقوة بيد الضابط الذي نهرها وعنفها, أمسك بها ورماها على الأرض, فسقطت سقطةً لم تقم بعدها .. . . وضعت وفاء إحدى يديها على رجلها المشلولة وهي جالسة على كُرسيها المُتحرك, ومسحت بيدها الأخرى الدمعة التي تدحرجت على خدها قبل أن تنتبه لها إحدى حفيدتيها, وكانت تقول في قرارة نفسها : - لماذا الآن يا وفاء , لماذا تتذكرين هذه الأحداث المأساوية والحوادث المؤلمة في هذه اللحظات السعيدة, أطردي تلك الكوابيس إلى الأبد وودعي الذكرى السوداء, هانحن اليوم نحتفل بعيد ميلاد الحفيدتين, وعيد التحرير, استمتعي بهذا اليوم التاريخي الذي يُصادف السادس والعشرين من فبراير, في هذا اليوم ترتدي الكويت أبهى حلة, وترّصع جيدها الأنوار والألعاب النارية, ويخرج الجميع إلى الشوارع والطرقات لاحتفال وتخليد الذكرى, وأنتي ما زلتي تلطمين وتبكين على آلامُكِ وذكرياتك!
لم تستطع أن تقاوم الأمس الذي يطغى على اليوم, وعاد الشريط يمشي أمام عينيها .. . . قضت الأيام التالية على أسر سالم بالبكاء والنحيب, كانت لا تأكل ولا تتحدث ولا تتحرك, ظن زوجها في البداية أن جلوسها كان بسبب الصدمة, إلا أنه اتضح له بعد حين بأن زوجته قد فقدت قدرتها على المشي نتيجة السقوط الشديد والارتطام بالأرض, حاول أن يخفف عنها المُصيبة ويهوّن عليها هول الألم, إلا أن محاولاته كانت تبوء بالفشل, ويزيد قلبه همًا وكمدًا على الهم الذي يحتويه كلما رأى سعاد وهي تقترب من الولادة وزوجها غائبٌ عنها .. ناصر ورفاقه لم تخُر عزائمهم, ولم تنطفئ جذوة حماستهم, بل استمروا بمشاغبة العدو وإرهاقه, واجتمعوا ذات مرة لزيارة وفاء وتعزيتها في مُصابها, وذكروها بمواقفها العظيمة ودورها الكبير البارز في حركة المقاومة واحتوائها الروحي لهؤلاء الشباب المُخلصين, فأزالوا عنها بعض الهم والغم, ورسموا البسمة على شفاهها مُجددًا, وقالت: -
قد يصل الإنسان إلى حدٍ لا يستطيع معه احتمال الآلام, ولكن لابد من وجود من يخفف عنه بعض آلامه ويزيلها عن عاتقه ويرميها بالبحر, وأنتم من أزال آلامي, صحيح أنني قد فقدت خالد وسالم, ولكنني كسبت عشرات الأبناء, وأنتم منهم, بارك الله في جهودكم ووفقكم للنصر .. في تلك الأثناء أوصل أحمد إلى وفاء وزوجها رسالة من سارة, فرحت الأم أيما فرح لقراءة كلمات ابنتها, فهي آخر ما تبقى لها من أبناء, كتبت سارة في الرسالة : ( أمي العزيزة أنا مشتاقة لكِ كثيرًا, ليتني لم أسافر ولم أترك البلاد, لو أنني كنت أعلم بما سيحدث لما فارقتكِ لحظة, ولما ابتعدتُ عنكِ شبرا, نحن هنا في لندن نشارككم الهموم والأحزان, وندعوا الله كل يوم في صلاتنا أن يحرر الوطن ويردع المعتدي ويرد كيده في نحره, نحرص على إرسال المساعدات وحاولنا أكثر من مرة العودة إلى الديار ولكن لم نستطع, لقد نظمنا المسيرات وتكلمنا في التلفاز وحرصنا على إيصال صوت الكويتين في الخارج إلى ملايين الناس, أمي مهما باعدت بيننا المسافات ستبقين في قلبي وستظلين تشغلين فكري وقلبي, وكذلك أمي الكويت ستظل أكبر همٍ أحمله, وأكبر حبٍ أسعى للمحافظة عليه وحفظه, سنعود قريبًا بإذن الله, سنعود ونراكُم أحرارًا كما تركناكم, ونرى الكويت أبيةً كما عهدناها) انهمرت الدموع من أعين الجالسين عندما قُرأت عليهم الرسالة, واحتضن بعضهم بعضا .. كانت الأخبار تتوالى عن دخول جيش التحالف, وعن أحداث عاصفة الصحراء, وعن اندحار المُعتدي وانسحاب قواته شيءً فشيء, كانت الفرحة تغمر القلوب وتفيض في البيوت, أخرج المواطنون الأعلام وصور أمير البلاد, أذيع في يوم السادس عشر من السنة 1991 ميلادية خبر تحرير الكويت وخروج المعتدين مندحرين خائبين .. عمت الأفراح البلاد, وخرج الناس مُباركين مهنئين, نسوا الألم والوجد والفراق, واجتمعوا على شيءٍ واحد, اجتمعوا على دموع السعادة وسجود الشكر .
في إحدى غرف المنزل كانت سعاد تقاسي آلام المُخاض, لم تستطع الذهاب إلى المُستشفى, وحتى لو ذهبت لن تجد سريرًا تنام فوقه أو جهازًا يساعدها على الولادة, كُل شيءٍ كان قد سُرق ونُهب . اضطرت خالتها أن تباشر عملية الولادة بنفسها وبمساعدة جارتها, صرخات وآلام, سكون ومن ثم بُكاء الطفلة الأولى , لحظات وإذ بطفلةٍ ثانية تخرج من رحم أمها, كبرت وفاء وصاحت فرحًا, إنهما توأمين, توأمينِ كالقمر .. خرجت من الغرفة زاحفةً على يدها لتبشر زوجها بأنه قد أصبح جد لحفيدتين في يومٍ واحد وإذ بها تتسمر في مكانها, وتختلط دموع فرحتها بالحفيدتين مع دموعها فرحتها بعودة خالد !! لم تصدق ما ترى, ثلاثُ أفراح في يومٍ واحد , التحرير, الحفيدتين, وخالد ! ياااه , كم شهرٍ مضى على أسرك يا خالد, كم يومٍ وكم دقيقة, كيف عُدت وكيف تقف هنا أمامي, ما كُنت أظن بأنني سأراكَ مُجددًا يا بُني.. خالد مع عدد كبير من الأسرى أطلقهم الغزاة عند الحدود بعد الضغط الشديد عليهم وقصف مراكزهم وقواتهم, فعاد منهم من عاد إلى أهله, ومات من مات لطول المسافة وشدة التعب والإرهاق, وقسوة التعذيب .. أول ما عرف خالد بأن الله قد رزقه بابنتين أطلق على إحداهما صمود والأخرى إباء , تجسيدًا لمعاناة أمه التي واجهتها إبان فترة الاحتلال , عانق أمه بشدة وامتزجت دموعها بدموعه, واتجه نحو الغرفة لرؤية زوجته وابنتيه.
لا أخبار عن سالم, السنون تمضي والأيام تمر, والأم صابرة مُحتسبة, تدعو الرب بأن رحم إبنها ويعجل في إطلاق قيده .. خُلع النظام الدكتاتوري, بعد سنين من غزوه للكويت , وبعد مُضي اثنى عشر سنة على اعتقال سالم, عاد لها رُفاتـًا مستخرجة من مقبرةٍ جماعية, دُفن في الكويت بين قبور أهله ومواطنيه, وصلت عليه أمه صلاة الجنازة بقلبٍ ينفطرُ لحزنه الصخر .. وفاء .. امرأة أوفت لوطنها عند غدر الجار الشقيق, ضحت بأبنائها ونفسها وأقحمت روحها المهالك, ولكنها صبرت وقاومت وحرصت على تقديم ما تستطيع تقديمه لعلها توفي هذا الوطن حقه .. . . - صمود, إباء, اقتربا مني, اقتربا يا حبيباتي وقرة عيني, كم أنا مُشتاقة لضمكما إلى صدري.. اجتمعت العائلة حول الكعكة بعد قدوم الضيوف, وأطفئوا الشموع احتفالاً بمرور سبعة عشر سنة على قصة الإباء والصمود, قصة العزة والأنفة, قصة التضحية والحُب والمواطنة الحقيقية .