متكئ على سريري ، خلفت كلَّ متاعبي وراء ظهري ، لبست ثوبَ أحلامي وآمالي ، أرقبُ ذلك المنظرَ الخلابَ من تلكَ النافذةِ الزجاجيةِ ، تغرب الشمس وهي تتقلب في لونها البرتقالي بين السَّحاب ، ثم تطفو فوق تلكَ الأمواج وتتراقصُ أشعتها على صفحة الماء الناعمة .
متكئ على سريري ، خلفت كلَّ متاعبي وراء ظهري ، لبست ثوبَ أحلامي وآمالي ، أرقبُ ذلك المنظرَ الخلابَ من تلكَ النافذةِ الزجاجيةِ ، تغرب الشمس وهي تتقلب في لونها البرتقالي بين السَّحاب ، ثم تطفو فوق تلكَ الأمواج وتتراقصُ أشعتها على صفحة الماء الناعمة . هل ترقص من سعادتها كما يرقص قلبي من سعادته ؟ أظن أنني أكثر سعادة منها . رحلة طويلة في غيابة الغربة ، عامان طويلان ما أقساهما ، وما أقسى الحصولَ على لقمة العيش ، ولكن كل هذه المتاعب سوف تتهرأ حدتها ، وتنكسر قسوتها عندما أضم ولدي عمرو . امتدت يدي إلى كوب الشاي أحتسي منه قليلا ثم يقطع شربي تفكيرٌ عميق في ساعة اللقاء المرتقبة . ما أقربَ اللقاءَ ! هذه يدي أشعر ببرودة يدِ أحبائي فيها ، وهذا قلبي متى تتراقص نبضاتُه ودقاته على صدر أحبائي ؟ . ما كنت أعرف أن كوب الشاي سيظل نصفه دافئا كدفء الحب الذي يكتنفني ؛ إذ قطع تفكيري نوم جميل واستلبني عن عالم الخيال إلى عالم الأحلام ، أغمضت عيني عن هذا المنظر الرائع للغروب ، وعن هذه الآمال التي يلوح بريقها في أفق خاطري ، لا أدري ساعة نمتها أم أكثر ؟ لكن لعل هذه الساعة تقضي على هذا الطول الغريب للرحلة ، وكأننا نضرب عُباب البحر منذ قرن !! رجات عنيفة ، أصوات مخيفة ، ما أقبحَه من حُلم ، ليس بوقت هذا الحلم ، فإنني الآن أخِيط ثوب السعادة وألُف به أحلامي وأيامي ، إنني الآن أرفل في نعمة الخير والحب .
لا زالت الأصوات والاهتزازات تتزايد ، نظرت من النافذة إذا الظلام قد سربل البحر بثوبه الأسود القاتم ، وذهب هذا المنظر الرائع للغروب ، نظرت نفسي ، فإذا بي ملقى على الأرض ، ما أذكر أنني نمت هكذا ، جعلت أتفحص المكان ، بجواري نصفُ الكوب من الشاي الذي تركته وقد افترش الأرض مثلي ، والكوبُ مكسور .أدركت حينها أنه ليس بحلم بئيس ، لكنه واقع أشدُ بؤسا . قمت مسرعا ، تحاشيت الزجاج المكسور ، لملمت أحلامي ، وغادر كتفي ثوبُ سعادتي عند نهوضي ، وقطع صمتي صرخة ُ استغاثةٍ من امرأة عجوز ٍ مُلقاةٍ على الأرض ، تقول : الحقوني سوف أموت ، همهمت بكلام لا أتذكره ، هرولت نحو الباب ، خرجت مسرعا . ما أقساها من جملة سمعتها ، كادت تعصف بي ، وتحطم بحدها بريقَ اللقاء المرتقب ، قالها فتى مفتولُ العضلات ، يركض نحو سطح السفينة : السفينة تغرق ، ماذا ؟ هل أحبت السفينة منظر الغروب ، فأرادت أن تجرب هذا الغروب في البحر ولو لمرة واحدة ؟ قد يكون !! لكنها ما كانت تدري أن الشمس ستشرق مرة أخرى ....!!
حبي للحياة ولأسرتي دفعني بشدة لا أعرف من تخطيتُ من الناس ، وبمن اصطدمت ، الذي أعرفه أنني أمسكت بطوق ِ نجاة ، أدافع الموج الهادئَ تارة ، والغاضبَ أخرى . ما كان أسرعَ غروبَها ، أسرعُ من غروب شمس ِ هذا اليوم الجميل ، دقائقُ معدودة ٌ وباتت تلك السفينة ُ في أحضان المحيط ؛ لتهديَ أفضلَ وجبة غذائية لأسماك القرش ، مئاتٍ من الغرباء منذ لحظات كانوا ينقشون أحلامهم بزخارفِ اللقاء الملهوف ، ولكنهم ما كانوا يدرون أنهم سينتقلون من حلم جميل إلى لقاء أجمل ، لقاء الله - عز وجل - يا ترى من هيأ لهم هذا اللقاء ؟! وبينما أنا على حالتي إذ قرع سمعي من بين تلك الأمواج صوت تنفطر أمامه القلوب القاسية ، وتندك أمامه الجبال الراسية ، طفل ملائكي بهاتين اليدين الناعمتين ، يتمسك بحقه في الحياة ، يمدهما إلى مستقبله المجهول ، يرسم بهما على وجه الحياة آماله الوردية ، ويطلقها مدوية : أنقذوني ، لا أريد أن أموت .أنسى نفسي ، تهون عندي تلك الأمواج العالية ، أتخطاها بعزيمة ، أصل إليه ، أحتضنه بثوبه الجديد الذي احتفظ به خصيصا للقاء أصدقائه ، سبحان الله !! إنك تشبه ولدي عمرو ! ما اسمك حبيبي ؟
أزاح شعره عن عينيه الحمراوتين ، يلف يديه الصغيرتين حول عنقي ويحتضنني بشدة ، كأنه يحتضن الحياة َ ، ويقول : وائل . ( مستطردا ) أين والدي ووالدتي وأختي ريم ، أحتضنه بشدة : لا تخف يا بني .ينظر إلي نظرة عجيبة ، نفذت إلى أعماقي ، وقال : لماذا ؟ وأخذه البكاء .تلك النظرة لم تكن أكثرَ تأثيرا فيَّ من كلمته " لماذا " ، صرت أرددها : لماذا ؟ لماذا ؟ لماذا ؟ .
أخذني البكاء الشديد وأنا أحتضنه ، أحاول أن أطمئنه ، ولكن كيف يطمئن وهو يرى حوله يدَ الموت تعيث في الأرواح ، والصراخ والبكاء يذهل العاقل الراشد ، والموج الغاضب يعبث بوجوهنا وأجسادنا وأمعائنا؟. حملْتُه على كتفي ساعات لا أذكر عدَّها ؟ فتَرَتْ عزيمته وعزيمتي، لكنني لا زلت متمسكا بحق الطفل في الحياة ، ثماني ساعات ، تسع ، عشر . ألطم هذه الأمواج الظالمة بشدة على وجهها ، أو تلطمني ، أرفض الرضوخ لقسوتها وجفائها وكبريائها ، ما أشدَ ظلمَك ! وما أقبحَ استهانتَك بأرواح الأطفال والناس !
انقطع بكاء الطفل مع انقطاع عزيمته ، صرت أجدد الروح فيه ، ولكن اليأسَ من المساعدة والإنقاذ تمكن منه وتملكه ، بجانب شدةِ إعيائه ، قالها فزادني صلابة : دعني يا عم ، لا فائدة ، سوف أموت .تمسكت به أكثر ، احتضنته بشدة ، كأنني أحتضن نفسي وولدي ، ما هكذا يموت الأطفال .إلا من تلك الموجة الغاضبة ، تجمع فيها كل ألوان الظلم والسخرية ، ما أشدَّها وما أعلاها ! تجرف أمامها أجسادا وبقايا السفينة الغارقة .تضربني بشدة ، مدت يدها واختطفت وائلا بقسوة وألقته في أحضان الموت .يا ترى هذه الموجة أحبته كما أحببته ، فأرادت أن تخلصه من هذا العذاب ومن قسوة الدنيا وسخرية أهلها ؟؟! لا أدري .رأيته يتحول عني بوجهه الرائق يطفو بعيدا عني ، إلى أين يا وائل ؟ إلى أين ؟
أخذني بكاء شديد وطويل، على أي شيء أبكي ؟! لا أدري ! أخرجت قلميَ الأحمر ، وكتبت على وجه الماء جملة ، ووضعت تحتها خطين أحمرين ، هنا قتل وائل .هنا قتل وائل .