بعدما خرج آخر ضيوف الغداء واقترب مغرب اليوم، أسرعت جدتي بعرجتها إلى جدي وهو مقبل من غرفته لتلبسه عباءته ليخرج إلى حلقة المساء.

رجعت لعدستها المكبرة تمررها بتأنٍّ على الصفحات. تغلق الكتاب وتحرك شفتيها ثم تعود إليه. مشهد ملفت نابض وسط السنين الهامدة.

بمحاولات الإقناع والرجاء في الأسابيع الماضية ارتضت جدتي استبدال العدسة المكبرة بنظارة مريحة جلبتها لها أمي بعد زيارتهما السريعة لعيادة عيون.

 

كانت جدتي وأمي صديقتين، مثلما كانت أمي وأنا، وعكس ما كان عليه أكثر من رأيت من الأمهات وبناتهن. هل كان السبب أن جفاف عيشتنا في أول حياتنا مع قلق قلوبنا وحيرة آمالنا كفلوا يتيمة ظهرت بيننا هي "الصراحة الهادئة"، نَمَت معنا وألفناها، وأحسنَّا إليها فأحسنت إلينا، وأراحتنا فيما يهمُّنا ويؤرقنا، وتقارَبنا بها؟ أم كان نجاحنا في تسلية بعضنا وتبديد ظلمة أيِّ مكدِّر بنور النقاش والمزحة والضحكة؟ أم كان السبب اكتسابنا لأسلوب حياة خالي البسيط ومرحه، ولأسلوب زوجته الطيبة التي جاءت من بيئة لا حواجز ولا تفاضل فيها بين الناس إلا بالعقل والخلق، ولمشاركتهما أبنائهما وإيانا في كل صغيرة وكبيرة؟ أم كان صغر فرق السن بين جدتي وأمي وبين أمي وأنا، كبرى البنات؟.

لم يهمني السبب بقدر ما أهمتني النتيجة، فقد كانت صداقة جميلة قلّ مثيلها، أعانت مع السنين على رأب الصدوع واندمال الجروح وتهوين الهموم في بيتنا منذ وفاة أبي واجتماعنا معا في بيت جدي وجدتي.

أعلن دوران المفتاح وصرير الباب رجوع جدي. رفعت عنه جدتي عباءته. أكمل طريقه ودخل مخدعه وهو يلقي إليها بأوامره وطلباته.

منذ طفولتي كانت جدتي تجلس بطرف سريري، تحقنني شفتاها بكلمات خافتة رطبة وغامضة تُثقل شراييني وتسحب أجفاني على عيني، وتنثر النوم فوقي كالسكر اللذيذ، تنسيني كرهي للذهاب إلى السرير قبل الآخرين، وتجعلني أنعس وأنام أمام عجب أمي من قدرة جدتي.

في صفي الثاني، بل في الثالث، بدأت أفهم كلمات جدتي الخافتة تلك عدا ما غاب عني لصوتها الخفيض. واليوم، وبعد بلوغي الرشد وتعهدي لأموري ونومي واستيقاظي وحدي، أجدني أدمنت عذوبة صوت جدتي عند سريري، ويغريني صبرها عليّ ولطفها -رغم أني الحفيدة الأولى- بأن أسألها القراءة لي أحيانًا قبيل نومي فتفعل، ثم تمرر يدها على رأسي وباقي جسدي ومعها حسيسها كأوراق خريف تهزها النسائم، فيبعث في نفسي السكون وفي جسدي التراخي.

كعادته، مرَّ جدي عصرًا خارجًا لمجالسة أخلائه وصفوته؛ فألقت جدتي بما في يدها، ووثبت تلبسه عباءته وتتبعه حتى غاب.

في اجتماعنا على الشاي في المساء ذكرنا أخبار دراسة من هم بالمدرسة والجامعة وعن آمالهم. تكلمت أمي ونحن في أمور متفرقة، ووصلنا في الحديث عن آخر ما استفدنا من الرائي (التلفزيون) من أخبار الدراسات حول نشاط عقل الإنسان وذكائه ومدى طاقة وسعة ذاكرته، وما يحافظ به على نفسه مما يؤكل ويشرب إذا اتبع المفيد وتجنب المضر منه. أصغت جدتي لنا ولمن معنا، وللمتحدثين على الشاشة بعدنا، بصمت وإقبال طالب علم متلهف، كأنها تعوّض علوما حُرمت منه طيلة حياتها فهي تحفظ الآن كل ما تسمعه. عدنا لفرحتنا بما جهزنا لحضور زفاف قريبة لنا من لباس وزينة، وبترقبنا لاجتماعنا مع الأقرباء الزوار في مزرعة استأجرها خالي قبيل الزفاف لتنطلق فيها أجسادنا وأنفاسنا ونفوسنا.

جدتي تثابر على كتابها تقفله وتفتحه كلما توفرت لها دقائق، وتبتسم بعدما تنتهي، وقد اكتسبت نشاطًا غريبًا في الحركة والترتيب وتغيير ملابسها لم أعهده منها، ورغم ساقٍ مصابة أُهمل علاجها من عقود. كنت ألح عليها بنظرة فتاة منشرحة متحمسة متفائلة أن تلبس أمام جدي مختلف الثياب فتجيبني بأنه لم يكن يبدي اهتمامًا إلا قليلًا في الأعياد.

تناول من جدتي عباءته مسرعًا، فاليوم خرج جدي مبكرًا مع أقرانه وطلابه ومكث حتى المساء.

أطلّت جدتي بعد العشاء بوجهٍ نَضِر في لباسٍ جميل مكتحلة متزينة يفوح منها عطر ثمين، فاستغربنا استعدادها للخروج وسألناها عن وجهتها، وتعجبنا من كثرة العطر، فأجابت بأنها جالسة معنا وليست ذاهبة. أطلقت ضحكة ضعيفة ونحن مترقبين منصتين، وهي بيننا واقفة ولم تعقب. ثم دارت توزع علينا نقودًا، ووضعت في يد جارتنا نقودًا وحليّا لتوزعها لمن يستحق. بعدها جلست مستجيبة لإلحاحنا الأول لتحدثنا عما بها.

همّت بالكلام وصمتت. أخذت عيناها ترسلان دموعًا متصلة ووجهها يتهلّل باسمًا، ثم قالت بصوت يتعثر ويتهدج:

- هنّئوني... باركوا لي... أتممتُ الليلة بمجهودي وحدي حفظ القرآن...

اقشعرتْ أبداننا دهشة، وهزتنا الفرحة هزًّا، وأخذت جارتنا تزغرد فرحًا فتفرحنا معها، وتوقظنا من لحظة الصمت والتعجب، ثم تقول وعيناها تلتمعان:

- أحسنتِ يا أختي، وكنت أقوى وأفضل منا.

ضحكت أمي وهي تذرف، وقامت تقبِّل رأس جدتي ويديها، وتقول:

- مبروك يا أمي، أحلى خبر وعمل والله. حقّقت ما عجز عنه كثيرون وكثيرات.

واحتضنتَها، ثم هنّأتُها واحتضنتُها أنا وباقي الحاضرات، ووجه جدتي يضيء بالابتسامات وببريق الدموع.

سردتُ لها أبياتًا حفظتُها من معلمة أخلصتْ معنا وتعبتْ، بقيتْ منقوشة في عظامي لا تنمحي، وأولها:

- كلامٌ قديمٌ لا يُمَلُّ سماعُهُ تنزّه عن قولٍ وفعلٍ ونيّةِ

- نعم. هو كلام قديم جديد، لم يكتبه أحد بل ربُّ كل أحد.

قالتها جدتي ضاحكة بوجه نَضِر.

أتذكر مع مرِّ السنين معنى قول جدتي وشرحها لي بأن إقبالي على دروسي كان يبعث فيها الأمل والرجاء والقوة، مثلما بعث فيها ذلك عودة أمي لإكمال دراستها الجامعية الأولى بعد انقطاع. فهمتُ أن وصول جدتي إلى هدفها كان سرُّ نشاطها الأخير بعد جهاد -أخبرتني أنه كان في أقل من أربع سنين- تحفظ وحدها وببطء كلمة كلمة تكررها على رأسي وجسدي وفي كل وقت، لم تكلّ ولم تسأم، بل جمعت الحفظ مع أشغالها الدائمة بالبيت والمفاجئة غالبًا مع جدي. كانت تخفي حفظها حتى إذا ما توقفتْ لمرض وغيره لم تسمع عتابًا من أحد، كما أخفت أمورًا أخرى بدت أحيانًا في تصرفاتها وزلات لسانها وعينيها، وكم كنت أتعجب وأتساءل.

تفيض عيناي رقة وحبًّا عندما أذكر قول جدتي باشّة دامعة: "اللطف يا حبيبتي... آه يا ابنتي... نعم. اللطف والمساعدة والكلمة الطيبة كنوز ثمينة افتقدتُها فاهديتموني إيّاها أنت وأمك"، مع أن جدتي كانت هي البادئة في كل ذلك. كانت تبذل من قليل افتقدتْ كثيره من قبل، فصارت تحصل عليه أضعافًا، ولعلنا عوضناها عما افتقدت.

رحمك الله ياجدتي علمتِني رسم هدف أنطلق نحوه مهما كانت ظروفي وسنِّي، واليوم يجعلون لما علمتِنيه ندواتٍ ومحاضراتٍ وكتبًا! علمتِني يا جدتي فنون الصبر والمثابرة... والحب...

 

لن أفرّط في عدستك المكبرة ولا في نظارتك، فهم أجملُ زينةٍ في بيتي ودافعٍ لي في الحياة.

 

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية