البئر الأسطوري في نهاية ممر طويل متفرع من صالة الفندق ، تحيط بفوهته الاردواذية بحيرة صغيرة من الماء الساخن المندفع بسيولة حريرية ، فيبدو كساحر يحيل السراب إلي بخار دافئ يتجمع في سحب صغيرة تعلو رؤوس النساء المنسابات في الماء ، ويتلون مع حركة أقدامهن السابحة بطول حدود الحمام الزجاجية . وصوت الناي يخرج هادئاً من بين عُقل المزمار البلدي ، ويعزف جُـملاً ناعمة تشنف الآذان ، فتتلمس النساء أجسادهن ، ينشفنها ، وهن خارجات من الماء ، وينظرن تجاه السقف ، فيرين البدر بضوئه اللامع ، فيضحكن للعازف الأسمر المتمايل بعزفه الشجي .
*****
كانت ليلة البارحة أشبه بمراسم تتويج لملك ، الجاريات التففن حوله على اختلاف جنسياتهن ، كُلُّ تتقرب منه بطريقتها ، ولم يكن هو غير ملك فارع ، أسمر البشرة ، يقف في جلبابه الأبيض ، بأكمامه الفضفاضة ، فبدا في هيئته كرمحٍ آت من جنوب الاتجاهات الجغرافية ، ولم يكن تاجه سوى ذلك المزمار السحري ، الذي اشتبك بعقول النساء الأجنبيات ، فأصبحن ملاصقات له في صالة الفندق ، وهو يُخرج من جعبته مزاميراً صغيرة يبيعها لهن ، الواحد بخمسة دولارات ، فكان المشهد باعثاً على التأمل والضحك في آن واحد .
*****
الأرواح الهائمة التي ملأت الجو حولنا ، والنساء اللاتي فتحن مسامهن لدغدغة الصفير ، صرن منتشيات بصوت الطبول ، واندفاعهن تجاه الرجل العازف بالبوص ، اختلط الإيقاع في الرقص الممتد إلي آخر الليل ، حتى رسم الإعياء صورته على الوجوه ، وبات كل اثنين ملتفين ببعضهما ، حتى الصباح الذي حط ضوءه وبخر الليل في ضفائر الشمس المستحمة بماء البئر الدافئ ..
حدقت في كل الوجوه ، لم أجد أحداً .. اختفى أفراد الوفد من أمامي .. خرجت من الفندق ، أتمشى بين أشجار الآرز المحيطة بالمبنى الواقف وحده فوق التل المخروطي متوسط الارتفاع .
*****
أفضى بي المشي إلي المرمر المشبع بعروق الذهب وبريقه المنعكس في العيون الجالسة هنا وهناك ، رأيت ثلاثة من البنات القادمات ضمن برنامجنا ، كراقصات للفلكلور الشعبي ، رأيتهن فوق الجبل يمتزجن في غناء ومرح لم أعهده عليهن من قبل ، كانت عيونهن تلمع كأنهن خرجنا للحياة تواً .. كن يرمين أوشحة قيدهن وينطلقن بحرية ، يدغدغن عنق العشب المترامي على جانبي الطريق الصاعد إلي الجبل ببطء .. وعند القمة كانت كتل السحاب تعانقهن وتلقى لهن بقبلات لا تنتهي.
*****
حين وصلت إلي قمة الجبل ، تحولت السحب إلي بساط سحري ، أصابني ما مس البنات ، ففككت رابطة عنقي ، خلعت نظارتي ، تركت نفسي وتمددت فوقه ، سبحت في السديم اللانهائي ، والهواء الطازج يحف بأذنيَّ فأغفل مستمتعاً بذلك الانطلاق ، صحوت على صوت الثور وهو يحمل الكرة الأرضية على قرنيه ، ويلف بمكاني في اتجاه الليل ، فوجهت البساط إلي نجمة ضاحكة رأيتها من قبل من شباك الفندق ، انحنيت لها ودعوتها إلي جانبي ، فلمست يدي برقة ، أحاطت عنقي بضوئها ، فحملنا الحب على جناحيه وأدخلنا إلي كهف القمر .