كان هناك في سالف الأزمان أميرة جميلة جدًّا تُدعى فلوريت (أي: الزهرة الصغيرة) كانت تُقيم في قصر رخامي أبيض يقع فوق قمة هضبة مرتفعة.
كانت تلك الأميرة تحب الزهور إلى حدٍّ كبير، وبذلك كان يُحيط بكل جهة من سياج القصر حديقة مُزدانة بجميع أنواع النباتات الجميلة تنحدر إلى أسفل الهضبة،بحيث كانت تلك الهضبة أشبه بباقة من الزهور ترتفع في منتصف المنطقة وتتصاعد منها ويتنشر منها العبير في الهواء عبر أميال. كانت حديقة متألّقة مُشرقة تحت أشعة الشمس،يُسمع فيها لحن تغريد آلاف الطيور وهمهمة ملايين من النحل.
كانهنا وهناك في قسم من الحديقة أكواخ صغيرة، حيث تستلقي الاميرة وتحلم... كما كان هناك الكثير من التماثيل الرخامية بين الأشجار والعديد من نوافير المياه، وكل ما يمكن أن يُضفي على تلك الحديقة الجمال والفخامة، وبذلك لم يكن هناك في كل المنطقة أجمل من حديقة الأميرة فلوريت...
كان جمال الأميرة قد ذاع صيته في كل تلك المنطقة، كما كان قد عطر زهوها قد انتشر فيها ما جعل العديد من الأشخاص يأتون للاستمتاع به.
كان هناك باستمرار موكب من الأمراء يقطع المسافة من المناطق القريبة البعيدة إلى القصر، يمتطي كلٌّ منهم جواده الأصيل ويحمل الذهب والمجوهرات، كانوا يقطعون المسافة بين الزهور التي كان عبيرها يملأ القلوب بالنشوة والسعادة والأمل...
كان كل منهم كلما اقترب من القصر كلما تزايدت رغبته بأن يكون بإمكانه البقاء في ذلك القصر الرائع.
وكان كل منهم عندما يترجّل عن حصانه في مدخل بوابة القصر ويدخل البهو الكبير ويشاهد تلك الأميرة الجالسة على عرشها الذهبي والتي هي أجمل من أية زهرة ويركع بشكل لاإرادي أمامها ويتوسل إليها بأن تسمح له أن يكون أميرها.
لكن الأميرة كانت تبتسم دومًا على نحو عابث وهي تهزّ رأسها وتقول:
"ليس في نيتي أن أمنح قلبي سوى للشخص الذي بإمكانه أن يعثر على المكان الذي أختبأ فيه بين زهوري، والذي بإمكانه أن يُعلمني ما هي زهرتي المُفضّلة. حينئذ سوف أكون له."
كانت تقول هذا لكل أمير يتقدم إليهافلم تكن تأبه لأي من أولئك الأمراء لأنها كانت سعيدة بين زهورها. وكان أي من أولئك الأمراء عندما يسمع ذلك الشرط الغريب يسارع بالتجول بين الزهور بكل حماس لكي يبحث عن الزهرة الأجمل والأرقّ بين تلك الزهوروالتي يمكن أن تكون الزهرة المفضلة لتلك الأميرة، وكان يختار تلك الزهرة وهو يعتقد بأنها ستكون تكون تلك الزهرة المفضّلة والزهرة الأجمل والأروع بين الزهور وكان يركع أمام الأميرة ويقدم إليها الزهرة وهو يقول:
"أيتها الأميرة الجميلة لابد أنني اخترت الزهرة التي تجعلني أكسب قلبك، انظري كم هي جميلة! امنحيني قلبك لكي أصبح أميرك المُفضّل والمخلص إلى الأبد."
لكن الأميرة كانت تنظر إلى الزهرة وتهزّ رأسها وتقول:
"لا!... أنا أحب جميع الزهور لكنها ليس الزهرة المفضّلة. أيها الأمير لن تكون أميري المُفضّل وإلا لكنت قد اخترت زهرة أفضل."
وكانت الأميرة تنسحب إلى غرفتها؛ لكيلايراها أحد، بينما يمكث الأمير في مكانه إلى أن يمتطي جواده ويغادر بأسففي الوقت الذي تستمتع فيه الأميرة براحة وهدوء بزهورها و إلى أن يحضر الأمير التالي لمقابلتها فقد يكون من المتوقع أن يكون ذلك الأمير من سيفوز بقلب الأميرة، لكنهلا يكون أفضل حظًّا ممن سبقه إليها.
قد يختار القادم الجديد زهرة التوليب الجميلة، وقد يختار أمير آخر زنبقة رقيقة وقد يختار أحدهم زهرة المحبة النبيلة السحرية، لكن كل تلك الزهورلم تكن تلقى من الأميرة سوى الرفض بهزّة رأس،ولم يكن أيٌّ من الأمراء الذين قَدموا إلى تلك التلّة قد لقيَ القبول وفاز بقلب الأميرة بأن عثر على تلك الزهرة زهرة قلب الأميرة...
كانت تلك الأميرة قد تابعت حياتها بكل سعادة ورضى بين باقات الزهور، وكانت يومًا بعد يوم تُصبح أكثر جمالًا ورقّة، وكان خداها يزدادان تألقًا وكان عبيرها يفوح مع أنفاسها فلم يكن أحد قد شاهد قطّ أجمل من الأميرة فلوريت.
كانت تلك الأميرة تحب الاستيقاظ في الصباح الباكر قبل أي شخص ممن حولها لكي تتسلل عبر ُسلم سرّي إلى الحديقة. كانت تحب ارتداء رداء خشن أخضر اللون، بحيث كانت هي بالذات تبدو أشبه بزهرة أنيقة بيضاء وقرنفلية اللون داخل غلاف كما كانت بواسطة أداة صغيرة (مالج) تحفر جذور نباتاتها بأصابعها الصغيرة.
لم يكن أحد يشكّ بأنها تقوم بذلك لأنها لم تكن تسمح لأحد بأن يطلع على ما تقوم به،فلو علم القاطنون في القصر بذلك لكانوا سيتبعونها ويضايقونها بمقترحاتهم وبعرض مساعدتهم ولابد أنهم سوف يزودونها بالقفازات لكي تحمي يديها الجميلتين، وبمظلة تحميها من الشمس وببساط تركع عليه لو كان عليها ذلك عندما تقوم بإزالة الأعشاب الضارة من أحواض الزهور. لم يكونوا سيسمحون لها بالفعل بالقيام بأي من تلك الأعمال بنفسها،لأنهم ليسوا من البستانيين وهم يرون بأنه ليس عليها أن تُتعب نفسها بالقيام بمثل تلك الأعمال وبأن كل ما عليها هو الاستمتاع بتلك الزهور العطرة عندما ستتفتح.
لم يكن يخطر ببال أحد بأن تلك الساعات التي تمضيها الأميرة في الصباح الباكر وهي ترعى زهورها كانت أسعد ساعات حياة الأميرة في الوقت الذي كان فيه المُغرمون بها من رجال الحاشية وحتى من الأمراء الفضوليين الذين يتطلعون إلى التقرب منها يُضيعون أجمل ساعات اليوم مُمدين على الوسائد الوثيرة...
كان الحدائقي قد صرّح بأن لابدّ أن تكون رعاية تلك الزهور تتم من قبل إحدى الأميرات الجنيات لما كان في تفتحها من روعة مُنقطعة النظير، ولأنها كانت تخلو من الديدان ومن الأعشاب الضارّة ومن الأوراق الذابلة، وحتى أنه كان يعتقد أحيانًا بأنه يستنشق آثار عطر رقيق كان قد انطلق منها قبل قدومه، أما الأميرة فلوريت فكانت عندما أعلمها بذلك قد اكتفت بالابتسام برقّة، لكنها كانت في قلبها تضحك وتشعر بالسعادة لأنها أميرة سعيدة.
كانت الأميرة قد استيقظت ذات يوم كعادتها بعد شروق الشمس بقليل، ارتدت ردائها الأخضر اللون وتسلّلت إلى الحديقة عَبر السلالم السرية وتوجهت إلى زهورها الجميلة التي كانت تبدو وكأنها تبتسم وترحب بها كما لو كانت إحدى الزهور الصديقة. كانت تنحني أحيانًا وتقبّل الزهور وكانت في أحيان أخرى تقف لكي تقوم بإزالة دودة جشعة أو عشبة ضارة وقحة تجمعت حول الجذور، كما كانت أحيانًا تُزيل بعض الأوراق اليابسة بمقصاتها الذهبية، لكنها لم تكن على الإطلاق تقطف تلك الزهور وإنما كانت تجلس لكي تتأملها بسعادة.
وكانت فلوريت عندما أنهت جولتها بين تلك الزهور قد تراقصت حولها بسعادة وهي تهمس:
"عمتنّ صباحًا يا عزيزاتي الصغيرات! عمتنّ صباحًا ياجميلاتي! كم أنتنّ جميلات؟ ثماقتطفت أجمل الزهرات القرنفليات اللون، وشبكتها في شعرها ثم توجهت نحو مكانها المُفضّل تحت التعريشة المُتشابكة الأغصان، لكنها كانت عندما وصلت إليها بدلًا من أن تدخل قد تراجعت بذُعر وأطلقت صرخة لأنها كانت قد شاهدت خلف شجر الكرمة عينين تسترقان النظر إليها...
كان هناك خلف التعريش فتى جميل الطلعة يرتدي ملابس خضراء اللون ويتدلى حول خصره سيف،وكان يحمل على كتفه قيثارة صغيرة.تقدّمذلك الفتى منها وهو يبتسم، وقال لها بمرح وهو ينزع عنه ردائه وينحني أمامها انحناءة تكاد تلامس الأرض:
"عِمت صباحًا أيتها الشابة السعيدة! يبدو أنك أنت أيضًا تحبين الاستمتاع بمشاهدة الزهور في الصباح الباكر. يبدو أن لدينا نحن الاثنان ذوقًا رفيعًا على خلاف القاطنين الآخرين في هذا المكان..."
سألته الأميرة وهي تتراجع الى الخلف وتقطب جبينها:
"أنت لست من هذا المكان... كيف جئت إلى هنا؟ ألست تُدرك بأن هذه هي حديقة الأميرة وبأنه لايسمح لأحد بدخولها بين الغسق وبعد شروق الشمس بثلاث ساعات؟..."
صاح الفتى وهو يضحك بمرح:
"هذا ما علمت به أمس في القرية. وأنا أرى بأنه قانون سخيف، فلو كانت الأميرة لاتعرف أكثر من منع مشاهدة الزهور حديقتها في الساعة التي تكون فيها أجمل من أي وقت آخر فهي تستحق ألا يتم الامتثال لأوامرها...
أيتها الشابة الجميلة! ألست أنت أيضًا من انتهكت حرمة المكان ودخلت إلى الحديقة في هذه الساعة المبكرة؟"
وكان الفتى قد أطلق ضحكة عالية وهو يُشير بإصبعه إليها.
كانت الأميرة قد عضّت على شفتيها لكي تمتنع عن الضحك. لكنها قالت باللهجة الأكثر صرامة:
"أنت فتى طائش فأنا أقرب صديقة للأميرة، وهي من سمحت لي بالمجيء إلى الحديقة في هذه الساعة المُبكرة وهذا ما سمحت به لي فقط وفي كل هذا العالم..."
قال الفتى الغريب:
"آه...فإذن لتشاركيني بهذا الحق أيتها الشابة الجميلة... رجاءً! دعيني ألهو هنا برفقتك. أرجو ألا تُعلميها بما ارتكبته من خطأ، وإنما لتدعيني أكرّر هذا الخطأ من جديد طوال فترة إقامتي في هذه البلدة."
كانت الأميرة قد تردّدت بعض الشيء ثم قالت:
"أنت إذن من بلدة أخرى؟ وسوف ترحل من هنا عما قريب؟
أجاب الفتى:
"نعم أنا من بلد بعيد... اسمي جويوز، وأنا شخص أحب المرح... أنا أتجول في العالم... ألعب بالسيف، وأجمع الأعشاب وأكسب عيشي بعدّة أساليب. كنت وأنا أمرّ بهذه البلدة قد شممت عبير هذه الحديقة الرائعة، ووجدت نفسي أتوجه إليها...
كم هي رائعة! كنت لرغبتي بمشاهدتها في الصباح الباكر قد تسّللت عبر السور مع غروب الشمس وأمضيت الليلة تحت تلك التعريشة هناك وأنا أتجول منذ ذلك الوقت بين الزهور إلى أن سمعت صوت غنائك، فتسلّلت إلى خلف هذا المكان واختبأت فيه، ولأنني شعرت بسعادة كبيرة لم أكن قد فكرت بما قد أتعرض إليه من خطر إن تم العثور عليّ وطردي.
قالت فلوريت وهي تضحك:
"أنت فتى جريء ووقح وأنا أفكر بإعلام الأميرة بما فعلته..."
سألها الفتى الغريب:
"هل سيُغضبها ذلك كثيرًا؟ لن أقتطف برعمًا واحدًا من هذه الزهور فأنا أحب الزهور كثيرًا مثلك تمامًا أيتها الشابة، وقد علمت بذلك لأنني كنت أرقبك، وحتى أنني كنت على وشك إعلامك باسم زهرتك المُفضّلة."
قالت الأميرة بسرعة: "هذا ما ليس بإمكانك أن تفعله... لاأحد يعرف ذلك."
صاح الفتى:
"أنت تجعلين من الأمر سرًّا كما تفعل سيدتك الأميرة فلوريت. سمعت بذلك من أهالي القرية وعلمت بأن الأميرة سوف تختار الأمير الذي سيكتشف الزهرة التي تعلّق قلب الأميرة بها، وكنت قد فكرت لبعض الوقت بأن أكتشف ذلك لكي أصبح أميرها المفضل.
صاحت الأميرة وهي تُحدق به باستغراب:
"أنت؟..."
أجاب الفتى: "لم لا؟ بإمكاني أن أناضل لأجلها، وأنا أدافع عنها وأن أفتديها بحياتي لو احتاج الأمر. بإمكاني أن أنشد وأرقص لكي أجعلها تشعر بالسعادة. بإمكاني أن أعلّمها الكثير من الأمور التي تجعلها أكثر حكمة. أنا لدي خبرة كبيرة بالأعشاب وبالروائح العطرية والمواد التجميلية وبذلك بإمكاني أن أجعل ذويها بصحة أفضل وأكثر سعادة. وفوق كل ذلك أنا أحب الزهور كما تحبها بل أكثر بما أنني أحب النظر إليها عندما تكون في أفضل حالة في الصباح الباكر. أنا أحب الزهور كماتُحبينها أنت أيتها الشابة الجميلة. لن يكون من العسير عليّ أن أصبح أمير هذه الحديقة لكن بما أنني رأيتك الآن أيتها الزهرة الصغيرة، فلم أعد أتطلع لأن أصبح أميرًا، ولا إلىالفوز بالأميرة لو كان بإمكاني ذلك، لأنك ولابدّأنك أجمل منها ولأنك أجمل حتى من هذه الزهور شقيقاتك..."
ثم أضاف: "خطرت ببالي الآن فكرة. أعتقد بأنك أنت تلك الزهرة الأجمل التي وضعت فيها الأميرة قلبها أعلميني ألست أنت هي تلك الزهرة؟"
صاحت الأميرة وقد تورّد وجهها لهذا المديح:
"لا بالطبع! كم تتحدث بتفاهة! عليّ الآن أن أسرع بالعودة إلى القصر وإلا فسوف تتم معاقبتنا لو تم العثور علينا."
سألها جويوز بلهفة:
"ألن أراك بين صديقات الأميرة عندما سأقدم نفسي إليها؟"
أجابت الأميرة فلوريت:
"أووه... عليك ألا تفعل ذلك! عليك ألاتحاول مقابلة الأميرة اليوم! الوقت غير مناسب اليوم لذلك..."
ثم تردّدت وقالت:
"ربما غدًا..."
قال جويوز: "لكنك ستأتي إلى الحديقة من جديد أليس كذلك؟"
هزّت الأميرة رأسها، وقالت:
"لا، لا... ليس اليوم جويوز"
قال جويوز بإصرار:
"فإذن سوف تأتين إليها غدًا أليس كذلك؟ عِديني بأنك ستكونين هنا غدًا لكي نلهو معًا لبعض الوقت."
وكانت الأميرة قد ضحكت ضحكة صغيرة وقالت:
"من يدري من التي سوف تجدها في الحديقة في صباح الغد."
وكانت دون أن تضيف شيئًا قد غادرت المكان بسرعة قبل أن يتمكن جويوز من معرفة المكان الذي تسّلت منه، لأنها كانت تعرف جيدًا جميع الممرات السرّية التي تقود إلى القصر والتي ليس بإمكان الغرباء أن يعرفوها.
كان جويوزفي صباح اليوم التالي قد تجوّل فيبد يتجول يتجول تجوّل ممرات الحديقة بحثًا عن الشابة الزهرة. كان قد بحث في البداية بالقرب من التعريشة، لكن فلوريت لم تكن هناك، وكان عليه أن يستمر في البحث في جميع أنحاء الحديقة إلى أن عثر عليها أخيرًا في قسم آخر من تلك الحديقة بين الزنابق وكانت تضع على شعرها الأشقر زنبقة بيضاء.
صاح جويوز عندما لمحها:
"آه!... هي الآن زنبقة كنت في الأمس قد اعتقدت بأنها زهرتك المفضلة، وقد أدركت اليوم بأنني كنت على خطأ.هذا بالتأكيد اختيارك فهي جميلة للغاية ونقيّة للغاية ولايمكن حتى للأميرة أن تختار أفضل من هذه الزهرة"
أشرق وجه فلوريت بابتسامة وقالت بمكر:
"ليس بإمكان أحد أن يقرأ أفكاري كما يعتقد."
قال جويوز وهو يقترب منها ويمسك بيدها:
"ليس لدي حديقة بمثل هذه الروعة لكي يكون بإمكاني دعوتك للسكن فيها كأميرة صغيرة، لكن تعالي معي فبإمكاننا أن نعدّ حديقة صغيرة تكون ملكنا وحدنا نحن الاثنان وسوف يكون بإمكاننا أن نتظاهر بأننا أميرة وأمير سعيدان أشبه بفراشتين."
لكن فلوريت كانت قد هزّت رأسها بالنفي وقالت:
"لا... ليس بإمكاني مطلقًا أن أغادر هذه الحديقة وأن ابتعد عن الأميرة فليس بإمكانها أن تعيش بدوني. عليّ أن أعيش هنا دومًا وطوال المدة التي سوف تظل هذه الزهور تتفتح وسأتفتح معها."
قال جويوز:"ما دام عليك إذن أن تعيشي هنا دومًا ودائمًا، فقد تتخذني الأميرة وزيرًا لها أو أحد جنودها أو طبيبًا لها...أو أي أمر قد يجعلني أظلّ قريبًا منك بحيث يكون بإمكاننا أن نلهو معًا هنا في الحديقة فهل يناسبك ذلك يازهرتي الصغيرة؟"
بدا على فلوريت الاستغراق في التفكير وقالت:
"آسف لأن عليك أن ترحل فأنت تحب الزهور كثيرًا وسوف يكون ذلك مؤسفًا."
قال جويوز:
"أنا بالفعل أحب الزهور كثيرًا، لذا دعينا نذهب لمقابلة الأميرة لكي نطلب منها السماح ببقائي هنا."
وكانت الأميرة قد نظرت إليه مليًّا ثم قالت:
"كيف سيكون بإمكاني أن أعلم نوع المهمة التي قد تكلفك بها الأميرة؟ ليس بإمكاني أن أصطحبك إليها دون أن يكون لديّ ما أعدها به عما لديك من مهارات ومؤهلات،فهي الأميرة التي لاتقبل ولا ترغب سوى بما هو الأفضل. تعال ولترافقني إلى القسم البعيد عن الأنظار في الحديقة لكي أستمع إلى عزفك..."
كانت الأميرة قد توجهت مع جويوز إلى جانب الغدير حيث جلسا معًا تحت إحدى الأشجار.
بدأ جويوز يعزف على قيثارته وينشد بصوت عذب ما جعل الأميرة عندما توقف عن العزف والانشاد تصفق له بيديها بكل بهجة ثم قال لها:
"والآن أيتها الشابة الجميلة هل تعتقدين بأنني أستحق أن أكلف بالعمل لدى أميرتك؟ أليس لدي من المؤهلات ما سيجعلها سعيدة؟"
قالت فلوريت:
"أنت بالفعل قد أسعدتني جدًّا بعزفك وأنت تستحق ذلك لكن ليس بإمكاني أن أقول ذلك فهذا لايكفي، لكنني أسمع الآن جرس الكنيسة يقرع يجب أن أعود إلى القصر على الفور،سوف أتي في صباح الغد لكي أستمع إلى موسيقاك من جديد، لكن لاتحاول مقابلة الأميرة خلال ذلك."
كان جويوز قد هتف من خلفها:
"لست آبه بالأميرة بما أنني سوف أراك..."
وكانت إجابتها بضحكة لطيفة.
وكان ذلك اليوم قد مرّ. وكان جويوزفي باكورة صباح اليوم التالي قدتوجه نحو الحديقة. كان هذه المرة قد بحث عنها لمدة طويلة إلى أن وجدها بين الورود. كان تُزين شعرها بوردة قرمزية اللون وكانت عندما سمعت وقع خطواته قد قالت:
"أترى لقد جرحت إصبعي بشوكة والآن دعني أتأكد من مهارتك في الأعشاب أيها السيد الطبيب."
كان جويوز وقد بدا على وجهه الأسف لما تعاني منه من ألم قد ركض لجلب ورقة إحدى النبات التي يعرفها ثم عاد وقام بنزع قطعة من قميصه وربط تلك الإصبع المجروحة بلطف وقال:
"سوف تشفى إصبعك الآن فهذا علاج لايُخفق أبدًا."
همست فلوريت: "كم أنت حكيم! أنت بالفعل أمير الأطباء..."
سألها بلهفة: "أعلميني هل يعني هذا أن بإمكاني أن آمل بأن أصبح طبيب الأميرة؟"
لكن فلوريت كانت قد هزت رأسها وقالت:
"يجب أن ننتظر إلى الغد لكي نتأكد بأن الاصبع قد شفيت ربما...لكن أصغِ! هذه هي صافرة الحدائقي لقد تأخر الوقت وعليّ العودة إلى القصر وإلا فسوف يعثر علينا."
وكانت قد غادرت قبل أن يتمكن جويوز من النطق بكلمة أخرى.
كان جويوزعندما حلّ اليوم التالي قد بحث عن فلوريت في الحديقة لمدة طويلة إلى أن وجدها بين زهور البنفسج وكان اصبعها قد شفي بالفعل وكانت قد ابتسمت له وقالت:
"سوف تعلمّني الآن العزف على القيثارة فسوف تُسرّ الأميرة بوجود أستاذ موسيقى لكن عليّ أن أتأكد قبل ذلك من موهبة الأستاذ الذي سوف أصطحبه إليها."
ثم جلسا معًا إلى جانب النافورة الرخامية في أجمل منطقة من الحديقة وبدأ جويوز يُعلمّها العزف.
كان قد علمها بشكل جيّد وكانا قد أمضيا معًا وقتًا مُمتعا جعلهما ينسيا مرور الوقت. ثم قالت فلوريت:
"جويوز أنت بالفعل أمير أساتذة الموسيقى."
ثم بدا أمامهما ظلّ على العشب.كان الحدائقي قد ظهر أمامهما فجأة. حينئذكانتفلوريت قد أطلقت صرخة صغيرة وسارعت بالهرب عبر السور قبل أن تُتاح للحدائقي فرصة مشاهدة وجهها والتعرّف عليها...
كانالحدائقي قد سمع صوت الموسيقى وبذلك أسرع بالقدوم للبحث عمن انتهك حرمة الحديقة في الوقت المحظور.
همهم الحدائقي:
"لقد هربت ولتكن من تكون فلابدّ أن أعرف عما قريب من هي. سوف تُعلمني الآن أنت بذلك أيها الفتى كما سوف يكون عليك أن تُعلمني بأمور أخرى."
قال جويوز:
"هذا ما لن أفعله قط."
أجابه الحدائقي بثقة:
"سوف نرى... لن تهرب مني سوف أصطحبك إلى الأميرة حيث وسوف تُتاح لك فرصة شرح كيفية دخولك الى الحديقة في الوقت المحظور وقيامك بالعزف على القيثارة. تعال معي."
وكان قد تقدم لكي يُمسك بجويوز من ياقة قميصه. كانذلكالحدائقي رجلًا قويًّا ضخمًا أشبه بعملاق لكن جويوز كان قد أمسك بسيفه وقال:
"ابتعد أيها الحدائقي...لاتحاول أن تضع يدك علي! أعدك بأنني سأرافقك إلى أي مكان ستأخذني إليه لكن لاتلمسني لكي أصبح سجينك."
وكان الحدائقي قد صرّ على أسنانه وقال:
"أنت فتى شجاع."
لكنه كان نظر الى الفتى بعينين تقدحا شررًا... ثم اقتاده عبر مرات الحديقة إلى أن وصلا إلى سور القصر.
كان على جويوز أن ينتظر ريثما تُنهي الأميرة اجتماعها المخصص للاستماع لطلبات الرعايا والمتقدمين لطلب يدها.
حدث جويوز نفسه:
"انتهى الوقت السعيد بالنسبة إليك يا جويوز... سوف تطردك الأميرة الآن... هذا إن لم تُوقع بك عقوبة أكثر قسوة... فهي لن ترأف بحال من انتهك حرمة الحديقة التي تخاف عليها جدًّا... لكن قد يكون بإمكاني أن أعلمها بأن تلك الشابة قابلتني هناك وطلبت مني البقاء. لا... لا ليس بإمكاني أن أفعل ذلك فقد يتسبب ذلك لتلك الشابة بالمشكلات.يبدو أنني لن أرى تلك الشابة الجميلة من جديد مع كل أسف..."
كان جويوز يتحدث مع نفسه بهذا الشكل وهو يتذكر بكل كآبة بأن فلوريت تركته دون أن تقول أية كلمة. لكنه لم يكن يلومها مع ذلك لأنه كان قد أحبها كثيرًا.
******
كان الوقت قد قارب الظهيرة عندما فتح الحدائقي الحجرة الصغيرة التي كان جويوز مُحتجزًا فيها وطلب منه أن يتبعه إلى الردهة الكبيرة التي كانت الأميرة فيها لكي تستمع إلى جريمته وتُوقع العقوبة المناسبة عليه.
تبع جويوز الحدائقي عبر الممرات الرخامية الذي كان يُتمتم لنفسه وهو ينظر إليه من حين آخر ويهزّ رأسه كما لو أنه يتوقع أن يتعرض لعقوبة شديدة لابدّ أن تفرضها عليه الأميرة إلى أن وصلا أخيراً إلى البهو الذي كانت الأميرة جالسة فيه على عرش من الذهب.
لم يكنجويوز قد جرؤ على رفع عينيه إليها وإنما كان قد ظلّ يتبع الحدائقي إلى أن أخذا مكانهما قرب العرش حيث كان خلف الصف الأول أولئك المتقدمين لطلب يدّ الأميرة...
كانوا جميعًا يرتدون الملابس الفاخرة وكان المرافق ينادي اسم كل منهم تلو الآخر نادى:
"تقدم أيها الأمير فورتمين أمير كاليبريا فارس الفرسان ورئيس مائة من الرماح"
وكان الأمير فورتمين قد انحنى أمام العرش بينما وقف خلفه مساعدوهوهم يحملون أثمن الهدايا للأميرة:علب من المجوهرات... قطع ثمينة من أقشمة الحرير... فراء... أقفصة تحتوي على أنواع غريبة من الطيور، ولم يكن أحد قد قدم الأميرة أثمن من تلك الهدايا.
كانت مجموعة من الوصيفات تُحيط بالأميرة لكن جويوز لم يكن قد جرؤ حتى على النظر للبحث بينهن عن صديقته الشابة الجميلة.كان يخشى أن تخونه عيناه ويتمكن ذلك الحدائقي الذي كان يرقبه بنظرة ثاقبة من التعرّف عليها.
كان الأمير فورتيمن بعد أن قد قدّم نفسه قد تقدم بطلب يدّ الأميرة بشكل رائع قد أعلن عن أمله بأن يلقى طلبه القبول لكي يضع حياته وجميع أملاكه تحت تصرفها.
وكانت الأميرة قد بدأت تتحدث بكل لطف. كان صدى صوتها الرقيق يرنّ في القاعة أشبه بالموسيقى قالت:
"لست أرغب بمغادرة مملكتي الصغيرة مملكة الزهور فأنا سعيدة هنا وراضية بما لدي ولست أرغب بأن أن أهب قلبي إلا لمن يفهمي جيدًا فلتحاولمعرفة الزهرة التي وهبتها قلبي بين تلك الزهور عليك أيها الأمير أنتعثر على وسوف أكون لك."
كان جويوز عندما سمع صوت الأميرة قد رفع رأسه للمرة الأولى ونظر إليها وإذا به يتبيّن بأن الأميرة التي تجلس على ذلك العرش الذهبي هي زهرته الأميرة التي كانت قد قابلته مرتين أو ثلاث في الحديقة. لكنها لم تكن الآن ترتدي ذلك الرداء الأخضر الخشن وإنما كانت جميع ملابسها بيضاء اللون من رأٍسها إلى قدميها وكانت تضع حزامًا من الذهب وعلى شعرها الذهبي عُصبة من الذهب.
كانت وهي تتحدث مع الأمير قد نظرت إلى جويوز، وكان جويوز قد وجد بأن عينيها قد لمعتا وأومضتا بأمر غريب ماجعله على الفور يشعر بالشجاعة والجرأة ذلك لأنه كان شجاعًا بفطرته.
كان قد اصطحب إليها لكي يمثل أمامها كشخص مُتهور انهتك حُرمة حديقتها المُحرمة لكي يتم توقيع العقوبة عليه. لكن تلك الأميرة كانت رفيقته في اللعب ولن يكون بإمكانه أن يدعها تضيع منه... ألم تكن قد أطلقت عليه ثلاث مرات لقب الأمير؟لذا كان قد قرر أن يتقدم إليها مثله مثل أي أمير آخر...
كانت الأميرة بعد ذلك قد التفتت إلى الحدائقي وسألته وهي تحاول أن تقطب جبينها:
"من هذا الشاب الذي اصطحبته إلي أيها الحدائقي؟"
قال الحدائقي بصوته الخشن وهو يدفع بحويوز أمام الأميرة:
"هو شخص انتهك حرمة حديقتك سعادة الأميرة. شاهدته جالسًا في ساعة مُبكرة من هذا الصباح في حديقة الخزامى برفقة شابة وهو يعزف على القيثارة... لم أتمكن من رؤية وجه تلك الفتاة... لكنني أعتقد بانها إحدى الوصيفات لديك... يجب أن تتم معاقبتها هي أيضا لأنها كانت جالسة برفقة هذا الشاب المُتشرد تستمع إلى عزفه."
كانت قدصدرت همهمة استنكار بين الحاضرين ونظر كل منهمإلى الآخر متسائلًا من تكون تلك الفتاة التي انتكت حرمة الحديقة.
نظرت فلوريت بقسوة إلى جويوزوقالت:
"أعلمنيمن هي تلك الفتاة أيها السيد؟وسوف يتم العفو عنك على تلك الغلطة الفاحشة."
نظر جويوز الى الأميرة وقال بلطف:
"سوف أعلمك أنت فقط باسمها لو طلبت مني ذلك وإن كنت أتوقع أن تكوني قد عرفتها لكنني أرجو في البداية أن تستمعي إلى طلبي لأنني أيضًا قد قدمت من بلاد بعيدة لكي التمس منك القبول."
كانت الأميرة عندما سمعت تلك الكلمات قد صُعقت علت وجهها حمرة قانية أما الحدائقي فكان قد أمسك بجويوزوبدأ يسحبه من أمامها لكن فلوريت كانت قد أشارت إليه بالتوقف عن ذلك وقالت:
"دَع هذا الغريب يتكلم. دَعه يُثبت فيما إذا كان بالفعل يستحق أن يكون بين المتقدمين للزواج مني بدلًا من أن يتعرض للعقوبة."
وكان جويوز بعد ذلك قد ركع أمام العرش ووضع سيفه وقيثارته وما يحمله من أوراق نقدية في جيب سترته أمام قدمي فلوريت وقال:
"أميرتي الجميلة! جئت إليك بهدايا متواضعة وبدون مرافقة. جئت فقيرًا وحيدًا كل ما لدي ما أقدمه إليك هو سيفي الذي سوف أحميك به وعزفي الذي سوف أبهجك به وما لدي من بعض العلم والمعرفة في الطب لكي أساعدك به في حالة المرض والصحة...
لكي أكفّر عن انتهاكي حرمة حديقتك أعرض عليك أن أقدم إليك خدماتي في كل ما تحتاجينه وللمدة التي ترغبين بها...ما أقدمه إليك هو قلبي الصادق المخلص مثلي مثل أي أمير في العالم لكنه القلب الذي أحبك أكثر من أي شخص آخر في العالم."
وكان فورتمين عندما سمع ما قاله قد تقدم إلى الأمام بسخط شديد وقال:
"أيتها الأميرة لايحق لهذا الرجل التحدّث إليك بهذه الطريقة فهو ليس بأمير وإنما هو شاعر ومُغني مُتشرد. دعيهم يرمونه خارج الأسوار."
التفتت الأميرة إلى جويوز وقالت:
"صحيح أنك لست أميرًا لكن ما الذي لديك من إحابة على ما قاله؟"
أجاب جويوز وهو ينظر مباشرة في عينيها:
"ألست أميرًا؟ كانت أجمل أميرة في العالم قد أطلقت علي ثلاث مرات لقب أمير: أمير الشعراء،وأمير الأطباء، وأمير الأساتذة، ألا يجعلني ذلك في مرتبة الأمير؟"
ساد الصمت في القاعة أمام تلك الإجابة الجريئة وكانت فلوريت قد التمست رأي أكثر مستشاريها حكمة وفي صوتها الكثير من اللهفة:
"أبها الرجل الحكيم، لو كانت مثل تلك الألقاب قد أطلقت على شخص فهل يعتبر أميرًا بالفعل؟
كان الرجل الحكيم قد تردد للحظة ثم هزّ رأسه وقال:
"أيتها الأميرة! أنا أرى بأنه لايستحق ذلك فتلك الأميرة لم تطلق عليه أيضًا اسم أمير الشجاعة. ينصّ كتابالفروسية على ألّا يعتبر الشخص أميرًا للشجاعةإلا إذا كان بإمكانه أن يُقاتل بشرف لأجل سيدته."
حينئذ قال جويوز بلهفة:
"أنا على استعداد لأن أفعل ذلك فأنا أجيد استخدام السيف مثلي مثل أي أمير."
كان وجه الأميرة قد تورّد وقالت:
" دَعه يُثبت ذلك أيها الأمير فورتمين ولو أخفق في إثبات ذلك سوف نعاقبه على ما ارتكبه من خطأ وعلى تفاخره... لكنه لو أثبت بأنه الرجل الأفضل فسوف يستحق أن يُعتبر بأن من حقه التقدم لطلب يدي مثله مثلك وسوف تكون له ذات فرصتك."
كان فورتمين قد تذمر وعبس لأنه كان قد شعر بالخجل من أن يكون عليه النزال مع مُغامر مُتشرد لكن لم يكن بإمكانه سوى الامتثال لرغبة وأوامر الأميرة.
سحب سيفه المرصّع بالجواهر وكان جويوز قد تناول سيفه الذي كان قد وضعه أمام عرش الأميرة ثم كانت المبارزة قد بدأت.
بدأت السيوف تلمع وكان كل من الشابين يحاول التغلب على الآخر. كان الاثنان من المُبارزين الجيدين لكن تبيّن للحضور بعد وقت قصير بأن جويوز كان المبارز الأفضل. كان يُهاجم بكل براعة وكان يتفادى الهجمات إلى أن تمكن أخيرًا بقفزة مفاجئة من الإطاحة بسيف الأمير فورتمين.
حينئذ صاح الحضور وصفق الجميع وعلت الهتافات بحماس:
"جيد جيدًا! ونسوا كل شيء عن الخطأ الذي ارتكبه جويوز أمام الحماس لشجاعته. كما كانت فلوريت قدهتفت:
"جيد"... أنا الآن كأميرة أطلق عليك بالإضافة للألقاب الأخرى لقب أمير الشجاعة. انهض أيها الأمير جويوز سوف أجيب على طلبك كما أجيب كل من الأمراء الذين تقدموا بطلب يدي:
لو كنت الأمير الذي سيحظى بموافقتي عليك أن تعثر على قلبي. ابحث عنه في المكان الذي يختبئ اليه في حديقتيلأن قلبي مع زهرتي المفضَلة. وداعًا الآن لكل منكم. سوف أعقد الجلسة المقبلة قبل ساعة من ظهيرة الغد حيث سوف أعلن عمن ستتم معاقبته وعمن ستتم مكافاته."
وكانت بعد أن قالت ذلك قد نهضت ونزلت من على كرسي العرش وخرجت من القاعة ولحق بها اللوردات والسيدات وتركت المتقدمين لطلب يدها بمفردهما معًا.
وكان كل من الأمير فورتمين وجويوز قد نظر إلى الآخر شزرًا ثم خرجا من باب القاعة.
اقترب الحدائقي من جويوز وهو يتوجه ببطء في طريقه إلى الخارج ووضع يده على كتفه.
حينذ سأله جويوز وقد توهج وجهه:
"هل علي أن أعود الآن إلى الزنزانة بصفتي مجرمًا؟"
أجابه الحداقئي بتجهم:
"لا بالطبع! لقد تغيّرت الأمور الآن. يبدو أنك لم تعد ذلك الشاعر المُتشرد وإنما أحد المتقدمين بطلب الزواج من الأميرة... لذا فمن المؤكد أنه لن يتم سكنك في زنزانة لأن سيدتي أعطت الأوامر بأن يتم تخصصيصك بغرفة في القصر بذات المواصفات الجيدة التي سيخصص بها الأمير فوريتمين.تفضل معي من فضلك." .
وكان قد تم اصطحاب جويوز إلى غرفة صغيرة جميلة جدًّا تُطل على الحديقة من خلال نافذة تتشابك عليها أوراق شجرة الكرمة.
ثم قال الحدائقي قبل أن يُغادر الغرفة:
"سيدي! لديك حريّة الخروج والتجوّل كما تشاء سيدي."
كان النهار قد انقضى وكان الوقت قد تأخر جدًّا لذا حدّث جويوز نفسه:
"لن أبحث عن تلك الزهرة الثمينة هذه الليلة. أعلم بأن تلك العذراء الجميلة تُفضّل أن يتم ذلك في الصباح الباكر.سوف أنام لبعض الوقت.من المؤكد أن الزهرة المفضلة لديها بين تلك البراعم المتفتحة التي كنت قد شاهدتها تقبلّها. سوف أنام الآن لأنني متعب جدًّا وسوف أستيقظ في الصباح الباكر للبحث عن زهرتها المفضلة."
وكان جويوز قد خلد للنوم وبدأ يحلم بسعادة الغد فلم يكن لديه أدنى شك بأنه سوف يعثر تلك الزهرة لأنه يُحب الأميرة وبأنه سوف يتمكنأخيرًا من اكتشاف سر تلك الزهرة.
*****
الفصل الرابع
لكن الأمير فورتمين لم يكن قد نعم بتلك الراحة النفسية والطمأنينة. كان قد شعر بجرح كرامته بأن يكون ذلك الشاعر المتشرد قد تغلب عليه لذا لم يكن قد تمكن من النوم وقرّر بأن يسبقه بالذهاب إلى الحديقة. كان قد ذهب أثناء الليل لكي يبحث عن تلك الزهرة المفضلة. وحدّث نفسه بالقول:
"عليّ أن أبحث عن تلك الزهرة هذه الليلة قبل أن يفعل ذلك الوغد ذلك. لقد أضعت فرصتي بتلك المعركة غير الموفقة وإلى أن أصحو في صباح الغد سوف يكون قد حلّ موعد المثول أمام الأميرة (ذلك لأنه كان أميرًا كسولًا مُتوانيا)
كان قد بحث في جميع أنحاء الحديقة طولًا وعرضًا. كانت البراعم نائمة مُقفلة العينين تمامًا بحيث لم يتمكن من رؤية ما في كل منها من جمال ساحر إلى أن كان آخر الأمر قد عثر على زهرة بيضاء ذات رائحة ذكية.كانت تلك زهرة المسك التي تتفتح على ضوء القمر. حدّث نفسه:
"لابد أنها أجمل زهرة في العالم لأن لها هذه الرائحة الذكية. من المؤكد أنها زهرة الأميرة المفضلة. سأقتطفها وسوف أقدمها للأميرة صباح الغد وسوف أطلب يدها حينذاك."
وكان قد جمع زهور المسك وحملها إلى غرفته لكنه لم يكن مع ذلك قد شعر بالراحة. كانت رائحة زهور المسك قوّية جدًّا وكانت قد تسببت له بالدوار والأحلام المزعجة. كان طوال الليل يتقلب في فراشه ولم ينعم بالنوم المريح.
أماجويوز فكان قد نعم بنوم هادئ ما جعله يستيقظ سعيدًا مفعمًا بالحيوية والحماس. نهض صباحًا في وقت مبكر جدًّا وحتى في وقت مبكر أكثر من الوقت الذي كان يستيقظ فيه لمقابلة الأميرة في حديقتها. بدأ يفكر بها وتذكر اليوم الذي شاهدها فيه بين زهور الخزامى وكيف كان قد شاهدها قبل ذلك بين الورود التي جرحت إصبعها بأشواكها وكيف كان قد وجدها بعد ذلك بين زهور الزنابق الناصعة البياض التي تشبه تلك الأميرة الجميلة بنقائها وصفائها وحدّث نفسه:
"لابد أنها بالتأكيد إحدى تلك الزهرات الثلاث."
ثم استلقى من جديد وأخذ ينظر إلى السقف وهو يحاول أن يُخمن الزهرة التي تحبها اكثر من أية زهرة أخرى... ويتساءل:
"تُرى ما هي زهرتها المفضلة بين تلك الزهرات الثلاث؟"
ثم تذكر كيف كانت قد قالت:
"قلبي مع زهرتي المفضلة."
تساءل:"لابد أنها كانت تقصد شيئًا أكثر من المعنى الحرفي. فما الذي كانت تقصده إذن بتلك تلك الكلمات؟"
وكان في تلك اللحظة قد نظر نحو النافذة التي كان نور الصباح قد بدأ يتسلل منها. كانت العرائش ترتعش مع هبوب نسمات الصباح العليلة.
كانت هناك زهرة قرمزية وبيضاء تبدو من خلال عتبة النافذة أشبه بإصبع ناعمة كأنها تُشير إليه. كان قد نهض تقريباً من سريره وهو يبتسم لتلك الفكرة.كم كانت جميلة؟ كما كانت مُشرقة تفيض بالانتعاش بذلك البرعم وبتلك الأوراق الخضراء التي تُشبه القلوب المُدببة الرأس.
جلس جويوز في السرير. وحدّث نفسه:
"تلك الرؤوس والأوراق التي تشبه شكل القلب هي دون شكّ قلب الأميرة! ثم تذكر فجأة كيف كان قد شاهدها للمرة الأولى تسترق النظر إليها من خلال التعريشة الصغيرة وهي متوردة الوجه وعلى رأسها زهرة بيضاء يفوح منها العبير.
تذكر كيف كانت قد قبّلت البراعم الصغيرة وهي تقول:"كم أنتن جميلات يا حبيباتي الصغيرات!... كيف كان قد نسي ذلك! كم كان غبيًّا!...
قفز من السرير وركض بلهفة نحو النافذة ومدّ يده نحو الزهرة المُتفتحة ليس لكي يقتطفها برفق وإنما لكي يلمسها.كان الوقت لايزال مبكرًا جدًّا وكان عندما انحنى من النافذة لكي يفعل ذلك قد سمع صوت ضحكة صغيرة من الأسفل وكان عندما نظر منها قد شاهد الشابة التي كانت ترتدي الرداء الأخضر التي كان قد عزف لها على قيثارته في صباح الأيام السالفة.كانت تنظر إلى النافذة وكانت عندما قابلتها نظرته قد ركضت بسرعة وهي ضحك برقة واختفت عن نظره...
كان الوقت قد مرّ ببطء بالنسبة إلى جويوز إلى كان البوق قد أعلن عن بدء المحاكمة.كان اللوردات ورجال الحاشية والوصيفات قد اجتمعوا في القاعة لمشاهدة تلك المراسم الاحتفالية التي كانت تتم دومًا والتي كانت قد أصبحت مُملّة... لكن وجود جويوزالذي كان قد مثُل في البداية كسجين ثم أصبح الرجل الذي تقدم بطلب يد أميرتهم جعلهم يشعرون بالحماس لمعرفة قرار أميرتهم.
أما الأمير فورتمين الذي كان متعبًا من جولته الليلية في الحديقة والذي كان قد أمضى ليلة مُسهدة فكان قد وقف أمام الأميرة بملابسه الأنيقة البيضاء وبيده طاقة زهور المسك لكن وأسفاه!...كانت الزهرة قد ذبلت وكان عبيرها وجمالها قد زالا.
كان فورتمين قد شعر بالأسى عندما نظر إليها وتساءل هل يمكن أن تكون هذه هي زهرة الأميرة المفضلة. لكن الوقت كان فات للبحث عن زهرة أخرى لأنه كان قد استيقظ عندما سمع صوت البوق معلنًا بدء المحاكمة...
ومن ناحية أخرى كان جويوز مُشرقًا نشيطًا كالشمس. كان يرتدي لباسًا من اللون الأخضر وكانت عيناه تلمعان بسعادة وكان يحمل بيده بعض أوراق نبات الكرمة والى جانبها زهرة وردية واحدة.
نظر إليه رجال الحاشية بفضول فلم يكن أكثرهم قد شاهد تلك الزهرة وكانوا قد ضحكوا في سرّهم من أن يعتقد ذلك الشاعر المتجول أن تكون تلك الزهرة البسيطة الزهرة المفضلة للأميرة.
كان البوق قد قُرع من جديد وظهرت الأميرةفلوريت.كانت ترتدي ثوبًا من الحرير الأخضر تبدو فيه أشبه بزهرة رائعة الجمال. اعتلت كرسي العرش وهي تحيّ الحضور بلطف دون أن تنظر إلى المُتقدمين الاثنين بطلب يدها واللذين كان كل منهما يقف إلى المنصة جانب كرسي العرش.
قالت الأميرة: "لنبدأ الآن بالنظر بموضوع اليوم سوف استمع أولًا للأمير فورتمين:
"أيها الأمير فورتمين! إن كنت قد عثرت على زهرة قلبي وتمكنت من الكشف عن سرّ اختياري لها فسوف تكون أميري."
ركع الأمير فورتمين إلى جانب كرسي العرش ومدّ يده للأميرة بزهرة المسك التي كانت شبه ذابلة وقال:
"هذه هي زهرتك المفضلة كما أعتقد.لقد بحثت في جميع أركان الحديقة ووجدت بأنها الزهرة الأفضل لأنها ملكة الليل الأجمل من ملكة النهار ولأنها عندما يسطع القمر تصبح جميلة جدًّاوينبعث منها عطر رائع. أعتقد أنها الزهرة التي تعلّق بها قلبك. امنحيني قلبك أيتها الأميرة وكان يتحدث بحرارة لأنه كان يحب الأميرة جدًّا.
لكن الأميرة كانت قد هزّت رأسها وقالت:
"لا أيها الأمير! هذه الزهرة التي تتفتح في الليل ليست زهرتي المفضلة. هي لطيفة لكن عبيرها ثقيل يمنع المرء من النوم ويؤدي إلى الذهول.
لا يا أميري!لم تكن قد اخترت بحكمة لذا لن تكون أميري وداعًا..."
كان الأمير فورتمين قد نهض واستدار وتوجه إلى خارج القاعة كما فعل العديد من الأمراء قبله وهو يشعر بالحزن والتوتر.
ثم التفتت الأميرة إلى جويوز وقالت:
"والآن ما هي الزهرة التي اختارها أمير الشعراء المُتجولين؟"
قال الفتى وهو يركع أمام كرسي العرش ويمدّ يده بغصن الكرمة وبتلك الزهرة المتفتحة الصغيرة:
"اخترت هذه لأنها تتفتح في الصباح الباكر وهي رقيقة وجميلة وبسيطة. هي الزهرةالمفضلة لمن يستيقظ في الصباح الباكر. أترين كيف أن لهذه الورقة شكل القلب إنه شكل قلبك يا أميرتي فهل كان اختياري صائبًا."
كانت الأميرة قد نزلت من على كرسي العرش وتناولت غصن شجرة الكرمة من يد جويوز ووضعت زهرته على شعرها ثم امسكت بيد جويوز وقالت:
"أيها الأمير جويوز لقد أحسنت الاختيار واكتشفت السرّ الذي أخفيه...سوف أمنحك قلبي لأنك تُحب ما أحبه لكن عليّ مع ذلك أت أعاقبك لأنك انتهكت حرمة حديقتي. سوف يكون عليك لمدة عام أن تصبح مُدرسي ومُرافقي الذي يحميني وطبيبي الخاص ومُنشدي... وإلى ذلك الوقت لن تكون أميري الذي يُشاركني مملكتي. هذا هو القرار والحكم الذي أعلن عنه."
وكانت قد أمسكت بيده وجعلته يصعد على كرسي العرش ويجلس إلى جانبها ثم قالت:
"أسمعهم عزفك وإنشادك أيها المنشد..."
وكان جويوز قد أنشد أنشودة عن فلوريت وقلبها الذي يشبه الزهرة.
ومنذ ذلك اليوم كان جويوز وفلوريت يتسللان في الصباح الباكر إلى الحديقة بينما يغط ّجميع من في القصر في النوم لكي يستمتعا بتفتح الزهور ولم يكن أحد يشتبه بذلك حتى ذلك الحدائقي.