نحن البشر أضعف مما نتصوّر، نحن لا شيء بدون عون الله تعالى، لذا علينا أن نتمسك دوماً بقوّة بالإيمان . علينا أن نجعل طاقة الايمان الكامنة في دواخلنا هي التي تقودنا في الحياة .علينا أن نشعر دوماً بأن هناك ربّ عالم و ُطلع وقادر على انتشالنا من أكبر الابتلاءات والمخاطر وأن بإمكاننا أن نتوكل عليه في كل ما يتسبب لنا بالمعاناة .

كان تجاوز بنو البشر لجميع ما تعرضوا إليه من جميع الابتلاءات بقوّة إيمانهم، وبالإيمان وحده. الإيمان يجعلنا نصل إلى برّ السكينة والأمان فعندما يملأ الإيمان القلوب تمتلئ النفس بالأمل وبالرضا والعزيمة.

هذه القصة هي من واقع ما يمرّ به العالم بأكمله من ابتلاءات سبّبها فيروس صغير فيروس الكورونا . فيروس صغير قلب كافة الموازين وتسبب حتى الآن بوفاة الملايين . فيا تُرى إن كُتب للعالم النجاة فهل هل سيكون العالم بعد الكورونا كما هو في الوقت الحاضر؟ تُرى هل ستشفى النفوس عندما ستزول هذه المحنة .هل ستشفى من المظالم ومن القسوة ومن الأنانية ؟ هل ستحلّ المحبة وهلّ سيحلّ التعاطف والتعاون من جديد في عالمنا ؟ وهل سيحّل السلام والوئام؟

قوّة الإيمان تتحدى الابتلاءات

استيقظت منى على صوت زقزقة عصافير الحب في القفص الفضي المعلّق على الجدار الكائن بالقرب من نافذة غرفتها المُطلّة على حديقة يتصاعد منها عبق زهور البنفسج، أطلّت من النافذة، استنشقت نسمات الصباح المنعشة ثم نظرت إلى الساعة وحدثت نفسها :

" لازال الوقت مُبكّراً لاتصال أيمن المُتعاد بي عبر الميسنجر،  لكن لا بأس سوف أبادر اليوم أنا بذلك."

كانت تعلم جيداً بأنه سوف يسعده جداً سماع صوتها، هتفت إليه وانتظرت،  لا إجابة، عاودت الاتصال مرّة ثانية ثم ثالثة .، ولكن لشدّة استغرابها لم تكن هناك أيضاً أية إجابة،

كانت تلك هي المرّة الأولى التي لا يجيب بها أيمن على الفور ويقول بصوت شبه النائم:

" أحلى صباح !، أحلى صباح يا عمري !، صوتك الدافئ هذا نقلني الآن إلى عوالم سماوية، "

ثم يلي ذلك تلك العبارات الرقيقة التي كانت دوماً تجعل قلبها يفيض بالبهجة والأمل،

شردت منى بأفكارها وبدأت تهيم مع عالم آمالها وهي تهمس :

" لم يتبق سوى أيام قليلة ويضمهما بيت واحد، بيتهما الذي اختارا معاً كل ما فيه حتى أصغر التفاصيل كي يكون عشهما السعيد . كم طال انتظارهما لذلك اليوم وكم أودعا فيه الآن من أحلام ."

ثم بدأت تهيم في عالم الذكريات. ذكريات ستة أعوام من الانتظار .كان مالك قد أمضاها في أمريكا بعيداً عنها قريباً من قلبها، في متابعة الدراسة والتخصص العالي في العلوم الطبية والصيدلانية  وكان مهوساً بشكل خاص بعلم الجراثيم والفيروسات .

وها قد عاد منذ أربعة أشهر كي يتحقق حلمهما بالارتباط بعد أن جمعتهما طوال تلك السنوات عاطفة جامحة، عاطفة لا يمكن وصفها بالمحبة وإنما هي عاطفة أقوى وأنقى وأرقى وأطهر من كل معاني الحب.

كان مالك طوال تلك السنوات يحرص على أن يكون صوتها أول صوت يسمعه ثم يقول :

" حبيبتي ! بإمكاني الآن أن أبدا يومي وأنا أعيش على نبرة صوتك الدافئ الذي يمنحني الأمل،"

توقفت منى عن الاسترسال في عالم ذكرياتها وعاودت الاتصال وهي تُطمئن نفسها بالقول :

" لابدّ أنه أمضى الليلة في تلك التجارب التي لا تنتهي، ما بالك اليوم يا مالك ؟ أنت على غير عادتك ؟"

ثم ابتسمت وهمست "سوف أجعله اليوم يدفع ثمن تباطؤه في الردّ سوف أحرمه من تحية الصباح ".

ثم ضحكت ضحكة ماكرة وأقفلت الخط . لكنها شعرت فجأة بتسارع في دقات قلبها وبحدس غريب بأن يكون هناك ما هو أكثر من الاستغراق في النوم العميق بعد ليلة طويلة من العمل،

عاودت الاتصال مرة، مرتين، ثلاث ولم يكن هناك أي ردّ، وبدأ الفزع يستولي عليها، وفي لحظة كانت آلاف الهواجس قد تواردت إلى ذهنها، هل هو مريض؟ ألم يكن أمس يشكو من بعض الصداع ؟ صداع مزعج لكنه كان قد طمأنها بأنه صداع خفيف وبأن لا داع لأن تقلق وأن كل ما عليه هو أن ينام مًبكراً بعد تناول كوباً ساخناً من الشاي الأخضر .  ثم تساءلت من جديد لعله يحاول الآن اختبار مشاعرها ؟ لا! لا يمكن أن يكون أي عارض آخر قد منعه من الردّ على الهاتف،

وكانت قد توجهت على الفور إلى غرفة المعيشة حيث يجلس والدها ووالدتها كل صباح لاحتساء القهوة، كانت تعيش بسعادة مع عائلة مثالية يغمر المحبة والحنان جميع أفرادها،

لكنها فجأة وقبل أن تدخل الغرفة سمعت من خلف الباب والدها يهمهم . أنصتت وسمعته يقول بصوت خافت:

" لا داع لأن تعلم منى على الفور بما حدث ليلة أمس،  لنحاول تجنيبها هذا الألم، علينا أن ننقل إليها الخبر بالتدريج، ولعلها وعكة مؤقتة وستزول بإذن الله."

ثم سمعت والدتها تجيب بصوت مخنوق وكأنها تغالب دموعها:

" يا إلهي رحمتك !. رحمتك يا ربّ !، كيف سيكون بإمكانها أن تحتمل مثل هذا الأمر ؟ أن يكون مالك هذا الشاب الرائع الطبيّب الخلوق الذي نذر نفسه للعلم قد أصيب بالكورونا، يا رب!،"

حينئذ دفعت منى الباب بعنف واقتحمت الغرفة وهي تصيح:

" ما الذي حدث ؟ ما الأمر ؟  ما، ما؟"

وتتالت الأسئلة. تتالت أشبه بسيل لا ينقطع، أسرع والدها إليها واحتضنتها والدتها بين ذراعيها لكي تمنعها من السقوط أرضاً ولم يكن أي منهما مع ذلك قد نطق ببنت شفة،

صاحت منى من جديد " أين أيمن الآن؟ " أهو في مشفى أم في البيت؟ خذوني إليه،"

نظر كل من والديها إلى الآخر بصمت ثم استجمع والدها شجاعته وقال:

" منى !  لا تجزني الى هذا الحدّ يا حبيبتي،  لا شيء، أصيب مالك في ساعة متأخرة من ليلة الأمس بنوبة شديدة من السعال مع ضيق في التنفس  وبعض الحمى، و، و، كان من الافضل أن يتم نقله الى المستشفى خشية إصابته بفيروس فأنت تعلمين بأنه منذ عودته يمضي ساعات في المختبر وهو يجري التجارب  بأمل اكتشاف الدواء واللقاح المُضاد لذلك الفيروس اللعين فيروس الكورونا . أنت تعلمين أيضاً بأنه كان يختلط بالكثيرين من المرضى عن قرب . أصلحه الله! هو هكذا يتهور ويجعل من صحته وسلامته آخر ما يفكر به، لا، ليس مصاباً بالكورونا لا سمح الله !، لكنها الاحتياطات الضرورية في مثل هذه الحالات تحسبا للظروف .

كنا عندما علمنا بالأمر من والده ليلة الأمس قد ذهبنا إلى المستشفى رغم أن الوقت كان في منتصف الليل لكن من المؤسف أنه لم يسمح لنا بالبقاء الى جانبه . لم نرغب بإعلامك بذلك ليلا و. و. واعتبرنا الأمر مجرد ساعات سوف يمضيها لأجل بعض الفحوصات الاحتياطية،"

شعرت منى حينئذ بدوار شديد وكأنها ستفقد وعيها وتهالكت على الاريكة المجاورة وهي تتمتم "سأذهب إليه ؟ أريد أن أراه، سأذهب ولست آبه بالتعليمات ولا بالإجراءات، سأذهب إليه لأكون إلى جانبه مهما كلف الأمر، لا يمكن لأي مخلوق أن يمنعني من ذلك،"

ثم نهضت وهي تترنح وتوجهت إلى الباب يساندها والدها،

وهناك على سرير ارتبط به العديد من الأجهزة والأنابيب، كان مالك مسّجى مغمض العينين، كان محاطاً بمجموعة من الأطباء الزملاء، أطباء أصدقاء محبين وممرضات.  كان يتنفس بصعوبة شديدة وكان صدره يعلو وينخفض، وكان كل منهم يحاول أن يجعله يتنفس بواسطة الأجهزة.

اقتحمت منى ذلك الحشد على الرغم من أن محاولة إبعادها عن السرير واقتربت من مالك وهي تصيح:

" مالك حبيبي !!. ها أنا هنا إلى جانبك، لا تتركني، لا تستسلم، سنكون معاً إلى الأبد، "كانت تتعثر بسيل الكلمات التي تنطلق من فمها وهي أشبه بمن أصيب بمسّ من الجنون، ثم ساد الصمت في تلك الغرفة لوهلة .

كان مالك عندما اقتربت منى من السرير قد سمع صوتها وفتح عينيه بصعوبة وابتسم ابتسامة ضعيفة ثم حاول أن ينطق ببضع كلمات. كلمات كانت مُبهمة يستحيل على أي شخص أن يسمعها لكن منى التي اقتربت منه أكثر، على الرغم من كل ما كان يبذله الأطباء لمنعها من ذلك حرصاً على عدم انتقال العدوى إليها ،استطاعت أن تفهم كلمتين فقط:

"أحبك منى وسأظل أحبك، سوف نحقق حلمنا وسنعيش معاً، وإن كتب علينا الفراق في الحياة اذكريني، تذكري دوماً محبتي لك."

وكان نوبة من السعال الشديد قد منعت مالك من متابعة الكلام وتحشرج صوته وكأنه سيلفظ أنفاسه،

حينئذ همست منى والدموع تنهمر من عينيها :

" اطمئن حبيبي، سوف تشفى. لن يتخلى الله تعالى عنا .، مهما كان الأمر فأنا لن أتركك. إما أن نعيش معاً أو أن نموت معاً".

وفي تلك اللحظة خيّل لمنى أنه شعاعاً سماوياً قد انتشر وأضاء الغرفة بكاملها . ركعت إلى جانب سرير ذلك المريض الذي فقد الجميع الأمل بشفائه والذي كانت حياته على وشك الانتهاء وأخذت تتوسل إلى الله بصوت جعل الدموع تطفر من أعين جميع من التفوا حولهما :

" يالله !، با ربّ السموات السبع ! يإ الله أنت القادر المقتدر الجبار !،.يا شافي العلل !،.يا مُفرج الكرب!،. أتوسل إليك أن تمسح بيدك الكريمة هذا البلاء عنه، أتوسل إليك ألا تحرمني منه،، إيماني بقدرتك ليس له حدود . أنت وحدك الشافي المعافي القادر، سأتقبّل قضائك بالرضا لو كانت مشيئتك أن أحرم منه لأننا عبادك، لكنني أتوسل إليك أن تمنّ عليه بالشفاء . كل شيء هيناً عليك يا ربّ،  يا ربّ !،أنا الآن بين يديك وأمام الجميع سآخذ عهداً على نفسي بأن أنذر حياتي لخدمة المرضى ما لم تكن مشيئتك أن ألا نجتمع  بعد كل سنوات الانتظار سوى في جنة الخلود ."

أما ما جرت به الأحداث بعد ذلك فهو أن أيمن كان قد تماثل للشفاء بعد أسبوعين لكن منى كانت قد أصيبت بعدوى الكورونا وتمكن الأطباء من إنقاذها ،كان إيمانها قد جعلها تقاوم المرض الذي استمر لمدة ثلاثة أسابيع .

وبعد مرور ثلاثة أشهر كانت عائلتي منى وأيمن قد أقامتا بمناسبة زفافهما حفلاً بسيطا اقتصر على أقرب الأصدقاء مراعاة للظروف التي يمر بها العالم واجتمع الشمل بإرادة الله تعالى،

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية