كان القطار يسير ببطء ويتوقف في محطة تلو المحطة. كان بعض تلك المحطات يبدو قاتماً كئيباً يلفه الظلام ، تبدو وجوه من ينتظرون فيها بائسة شاحبة ، خالية من التعبير، كانت تلك رحلة طويلة من المدينة الصغيرة التي يقيم فيها إلى العاصمة حيث سوف يستقبل في المحطة زوجته التي ستعود بعد غياب دام ثلاثة ألأشهر في أحد المشافي التي كانت تتلقى العلاج فيه، كان كلما توقف القطار في إحدى المحطات  يطلً من النافذة لكي يتفحص الوجوه ثم يُمضي الوقت بالتأمل و باسترجاع صور ما شاهده من تعبير على وجه كل منهم،  كثيراً ما يشعر بالأسف والتعاطف لما لحظه على وجوه البعض من وجوم وحزن وأسى أومن ضيق سببه طول انتظار ويبدأ بخيال الكاتب بنسج قصة لحياة كل منهم، قصص خيالية تتناسب مع التعابير التي ارتسمت على تلك الوجوه.

وكان عندما أعلن الصفير عن وصول القطار إلى المحطة التي يقصدها قد نهض بسرعة وترجل من القطار متوجهاً إلى صالة استقبال المسافرين. نظر إلى لوحة مواعيد القطارات فتبين له أن عليه الانتظار لفترة لا تقل عن الساعة ريثما يصل القطار الذي تستقّله زوجته، جلس على أحد المقاعد وبدأ يجول بنظره على وجوه الأشخاص الذين ينتظرون وصول ذلك القطار، كان أكثر ما لفت انتباهه وأثار فضوله من بين تلك الوجوه وجه امرأة في متوسط العمر امرأة شاحبة الوجه تخلو عيناها من أي تعبير تبدو على وجهها بصمات الزمن. بصمات خُيّل إليه أنها لا تتناسب مع سنها الحقيقية، كانت جالسة بمفردها على أحد المقاعد بالقرب من الباب الذي يؤدي إلى الساحة، كانت تحدق في الفراغ ولم تكن تلتفت على كل ما يدور حولها وكأن في ذهنها من الصور والخيالات ما يشغلها عن كل ما حولها فلم تكن حتى قد التفتت إلى نظراته إليها التي تجاوزت حدود اللياقة... كانت فقط تنظر من حين لآخر إلى ساعة يدها وتتنهد..
كان لديه الوقت الكافي لتأمّل تلك السيدة الغامضة التي أثارت في نفسه الكثير من الفضول الممتزج بالشفقة والتعاطف، وبذلك بدأ بخيال الكاتب ينسج قصة لحياتها، شعر برغبة ملّحة تدفعه على التحاور معها لكنه كان في البداية قد ردع نفسه وتساءل عما قد يكون موقفها وعما قد يخطر ببالها تجاه تصرفه، فهل ستعتبر تطفّله من الوقاحة التي تستوجب الردع أم أنها قد تجد في ذلك نوعا من التعاطف وفرصة للتعبير عما كان يعتلج في نفسها؟
لكنه كان بعد ذلك قد اتخذ قراره فحدث نفسه: على أن أجازف بأي ثمن بمحاولة التحدث إليها نعم! علي أن أحاول ذلك، ربما سيكون بإمكاني بهذه المبادرة أن أقدم إليها خدمة تحتاجها فقد كان قد لاحظ من ملابسها المتواضعة التي لم تكن مع ذلك تخلو من الأناقة والنظافة وبانها كانت ممن يطلق عليهن تعبير " عزيز قوم ذلّ". تقدم من المقعد الذي تجلس عليه وسألها بتهذيب:
" هل سيضايقك جلوسي على ذات المقعد؟"
نظرت إليه نظرة خالية من التعبير، نظرة من كانت في عالم مختلف بعيد ثم هزت راسها فقط بالنفي وابتعدت الى الجهة الأخرى من المقعد، جعله ذلك يشعر بالحياء، لذا سارع بالقول كي يطمئنها عن حسن نواياه:
" أنا هنا بانتظار قدوم زوجتي التي من المفترض أن تعود اليوم من فرنسا بعد غياب أربعة أشهر، وكان قد لاحظ بأن تلك الكلمات كان لها تأثيرها الإيجابي عليها من ناحيتين أولهما أنها على ما يبدو قد شعرت بالاطمئنان وبانها من جهة ثانية شعرت ببعض الاهتمام لما قاله لكنها كانت مع ذلك بقيت صامتة،
حاول من جديد اختراق حاجز الصمت الذي التزمته وتفسير تلك النظرة الباردة الباهتة التي ألقتها عليه فسألها من جديد:
" يبدو أنك مثلي بانتظار قدوم أحد أفراد عائلتك من الخارج.. هل أنت بانتظار زوجك أم ابنة لك أم ابنك؟"
نظرت إليه وتنهدت لكنها التزمت الصمت من جديد ما جعله يشعر بأنه لن يستطيع اختراق ذلك الصمت الجليدي الذي كانت فيه لكن فضوله كان قد تزايد بذات الوقت فسألها من جديد:
"هل من تنظرين وصولهم سيعودون بعد غياب طويل كما هو الأمر بالنسبة لزوجتي؟"
ولم يكد يتفوه بتلك العبارة إلا وكانت تلك المرأة الضعيفة الغامضة قد خرجت تماماً عن صمتها. أجهشت بالبكاء ثم قالت فجأة من خلال سيل من الدموع:
"أنا بانتظار ولدي،  ولدي الوحيد الغالي الذي غادر وطنه منذ خمس سنوات...خمس سنوات من الفراق، كنت خلالها أنتظر عودته إلي كما وعدنا حاملاً شهدة الطب، خمس سنوات عملت خلالها بكل صبر كي أوفر له فرصة وتكاليف الدراسة في أرقى الجامعات... كان ما يثلج صدري ويساعدني على التصبّر أنه كان كل عام يمر يقّربني من موعد عودته اليّ، كان يعلمني في كل رسالة تصلني منه بأنه يتفوق في دراسته، وبأنه يجتاز امتحاناته بنجاح ، وبأنه سوف يرفع راسي عندما سيعود حاملاً تلك الشهادة العليا التي كنا أنا ووالده رحمه الله نحلم بحصوله عليها.
وكانت عندما وصلت الى هذه النقطة من الحديث قد أخرجت من حقيبتها صورة لشاب في مقتبل العمر تبدو على محّباه علامات النبالة، مدّت يدها إليه وهي تقول:
" هذا ولدي حسام، أو بالأحرى هذا ما كان عليه ولدي حسام قبل سفره، كنت طوال السنوات الخمس احتضن صورته كي أنام وكلي أمل باللقاء القريب وبالسعادة المنشودة،
لم يعد ذلك الكاتب يتمالك نفسه ريثما تصل بحديثها الى ما يريد معرفته وقاطعها بالقول:
"فإذن سوف يعود اليوم حاملاً الشهادة العليا أليس كذلك؟ هنيئاً لك، "
كانت تلك العبارة أشبه بصفعة سقطت على وجهها. اصطبغ وجهها بحمرة قانية واهتز جسدها ثم بدأت ترتجف كأنها قد أصيبت بماس كهربائي وقالت:
" أتعلم ما الذي سيعود به ولدي الذي كنت انتظر عودته طبيباً؟ أتعلم ما الذي سيعود به إلي؟ أتعلم ما الذي ينتظره وينتظرني؟"
بدأ يُهدئ من روعها وقال " لابأس! لابأس! إن لم يكن قد استطاع أن يُحقق أمنيتك بأن يصبح طبيباً فيكفي أنه سوف يعود إلي اليوم سالماً وسوف يلتئم الشمل بعد طول الغياب ولكي يؤنس وحدتك؟؟ ليس من الضروري أن يوفق كل منا في مبتغاه وطموحه فهناك الكثير من المجالات التي بإمكانه أن يوفق بها والكثير من المهن الأخرى التي يمتهنها، فأنا على سبيل المثال لم أوفق ولم أحقق طموحي بأن أعمل في مجال المحاماة لكنني أصبحت كاتبا، فشلت، لكنني نهضت من جديد.
ارتفع صوت نشيجها وقالت وهي ترتجف:
" لكن ولدي سوف يعود اليّ حاملاً ما هو أسوأ من الفشل، يا ليته كان أكثر الناس فشلاً... ولدي سوف يعود مريضاً، يا ليته كان سيعود مريضا بالسرطان أو بأية علّة أخرى، ولدي سيعود مصباً بالإيدز،
وكانت عندما لاحظت ما ظهر على محياه من ردّة فعل تعبّر عن الاستغراب وعلى الاستهجان قد أضافت بسرعة:
"لا.. لا.. لا تعتقد أن ولدي من المنحرفين أخلاقيا لا سمح الله، ولدي لم بتخل يوما عن مبادئه وعن الأخلاق الحميدة التي نشأ عليها، كان انتقال ذلك المرض اللعين إليه عن طريق حقنة ملوثة، فما حدث أنه كان ذات يوم قد تعرّض الى حادث سير بسيط وهو يمارس رياضته المفضلة على الدراجة. كان قد نجا من الموت، ولكن عندما تم نقله لتلقي الإسعافات الأولية إلى أحد المستوصفات التي تقع في منطقة ريفية بالقرب من المدينة انتقل المرض إليه على ما يبدو عن طريق حقنة ملوثة.."
وأضافت "يا الهي! كما أشعر بالأسى بل بالغضب والحقد و.. و...؟ كيف يمكن أن يُدمر مصير شاب في ريعان الشباب وأن يُدمّر مستقبله بسبب خطأ طبي؟؟ كيف يمكن لإهمال غير مقصود، أليس من الإجرام أن يتسبب خطأ وإهمال أحدهم في القضاء على حياة ومستقبل شخص طاهر نقي بريء مثل ولدي؟"
ثم تابعت حديثها وهي تبكي بمرارة:
"لم يكن ولدي ولا حتى من حوله قد التفتوا إلى ما حدث إلى أن بدأت علامات المرض تظهر تدريجياً بجلاء عليه، حتى أن ولدي لم يكن قد أخذ تلك الأعراض أو أخذ الأمر بشكل جدي، فقد اعتبر أن تلك المشكلات الصحية قد نجمت عما أصبح فيه من ضعف بًنية نتيجة ذلك الحادث ، أو بسبب فقدانه الكثير من الدماء .، إلى أن استفحل المرض بولدي ثم تم اكتشاف حقيقة مرضه بعد فوات الأوان،  هل بإمكانك الآن أن تتخيل ما حدث بعد ذلك؟ كان جميع من حوله قد غيّروا من تصرفهم نحوه واعتبروا ولدي الطاهر النقي البريء من الشبان المنحرفين... نبذوه، تخلى عنه كل من كان يعتبرهم من الأصدقاء المقربين اليه، حتى أن السيدة التي كان يقيم في منزلها في غرفة مفروشة قد طلبت منه إخلاء الغرفة على الفور وكانت عدا عن ذلك قد احتقرته وأهنت كرامته و... "
"وبذلك لم يعد أمام ولدي بعد أن علم بخطورة ذلك المرض الخبيث الذي أصيب به إلا أن يدرك بأن أيام حياته قد باتت معدودة مهما كان العلاج وبأنه قد أصبح في العدّ التنازلي لأيام حياته، وبذلك اتصل بي يعلمني بأنه قد اتخذ قراره بالعودة الى مسقط رأسه لأنه أصبح يكره الاغتراب وبأنه سوف يُكمل اختصاصه في إحدى الجامعات في وطنه الخ....
كنت للوهلة الأولى قد فوجئت بذلك القرار المفاجئ وإن كنت بذات الوقت قد شعرت بالكثير من السعادة لأن ولدي سوف يكون إلى جانبي بعد طول غياب، وبأنه سوف يكون سندي وسوف يؤنس وحدتي في أيامي الأخيرة، "
ثم أجهشت من جديد ببكاء مرير وقالت:" لم يخطر ببالي يوماً بأنني سوف أكون من ستفقده، "
" لكنني مع ذلك كنت قد طلبت منه بإصرار أن يحتمل ذلك الشعور بالحنين وأعلمته بأن من الأفضل له أن ُكمل دراسته هناك ليحقق آمالنا أنا ووالده بأن يحصل على شهادة الطب من تلك الجامعة العريقة الخ.. ولم يكن أمامه بعد إصراري إلا لأن يعلمني بالحقيقة، "
"أتعلم أنا الآن أتمنى أن توافيني المنيّة لكي لا أواجه مثل ذلك الأسى لكنني بذات الوقت أعلم بأنني الوحيدة التي سوف تكون إلى جانبه في الأيام العصيبة التي تنتظره،
ألقى عليها نظرة تعاطف كبيرة ممتزجة بحرارة المشاركة الوجدانية بالألم، ألم من لقّنته الحياة الكثير من الدروس، نظرة تعاطف من تعرض هو أيضاً للنكبات والأسى وقال بحنان:
" لا بأس، لا بأس لا داع لليأس! أنا أيضا أعيش الآن بمثل هذا الشعور بالأسى وبالإحباط فزوجتي التي أنتظر عودتها ستعود الآن بعد تلقّيها العلاج من مرض السرطان وبعد أن أجريت لها عدة مداخلات جراحية دون أن تتعافى كما أعل...مني طبيبها سرّاً فقد انتشر ذلك المرض اللعين في جسدها، لكنها والحمد لله لازالت على قيد الحياة، ألا ترين بأنه مادام المرء على قيد الحياة هناك دوماً بصيص من أمل... هناك أمل بأن يتم اكتشاف العلاج الشافي لها، أليس من الجيّد أن يظل من نحبهم على قيد الحياة؟ أليس من الجيّد أن نعيش على الأمل ولأننا نؤمن بقدرة الله تعالى على اكتشاف ما سينقذ أحبائنا؟ "
ثم تلا الآية الكريمة " وأن يمسسك الله بضر فلا كاشف إلى هو.. وإن يردك بخير فلا رادّ لفضله فهو على كل شيء قدير "."
اتكلي على الله، هناك الآن تطور كبير في العلوم الطبية، لا تفقدي الأمل بأن يتعافى ولدك، حاولي الاستفادة من أيام حياة ولدك وانعمي بقربك منه... شجعيه كي تجعلي قلبه يمتلئ بالأمل والسكينة.. المرء يتعافى بوجود من يحبهم حوله، حنانك أفضل من جميع الأدوية والعقاقير... نظرة حنان واحدة منك الآن أفضل من أية أدوية، هذه هي أقدارنا، لا مفر من القضاء.. علينا أن نواجه أقدارنا بالرضا في الحياة، لابد أن يصل بنا قطار الحياة ذات يوم الى المحطة الأخيرة، المحبة والحنان أفضل من أي علاج وما دمنا نؤمن برحمة الله تعالى علينا ألا نفقد الأمل.
وكان القطار المنتظر قد اقترب من المحطة نهض الاثنان وبدأ كل منهما ينظر الى وجوه المسافرين الذين أطلّوا من نوافذ المقطورات باحثا بينهم عمن ينتظره، وكانت تلك المرأة البائسة قد بدأت ترتجف لشدة الانفعال إلى أن ظهر في نافذة إحدى المقطورات وجه شاب جميل الطلعة شاحب الوجه تظهر على وجهه بعض البقع الوردية وأشار من خلف النافذة إلى تلك الأم البائسة،
كان ذلك الكاتب بذات الوقت قد شاهد زوجته خلف نافذة المقطورة الثانية زوجته الشابة الجميلة النحيلة التي أشارت إليه بالتحية.
تبادل كل من الكاتب وتلك السيدة نظرة تحمل كل معاني التعاطف وكان ذلك الكاتب عندما صافحها قد شدّ بقوة على يدها وهمس لها:

"لا تنسي ما اتفقنا عليه، لا تجعلي ولدك يشعر بأنك منهارة... عليك تشجعيه.أقدارنا مكتوبة من الأزل وعلينا أن نتقبلها وأن نعيش بهدوء إلى أن يستقل منا قطار الحياة الأخير. وداعا! وداعا!

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية