وانطفأتِ الشاشة..!
تَغشّتْني تلك اللحظة السحرية بين فواقٍ وفواق.. تسللتِ السماء.. عَبَرَتِ السقوف كلّها، وأطْبقت على صدري..
حاولتُ أنتشلُ من قاع قبرٍ مُترِب.. الوطن، وقصور جزر الكناري الخرافية، وزيت الأوراق الخضراء.. بحثت في ركنه المعتم.. بحثت..
رباه.. لم أجد غير الوطن، وكومة شيب عاجز مركون بين دفتين.؟ واهنةٌ أطرافي.. مقيتةٌ تلك السفن الآتية على أشرعة "قطوف دانية".. تُلقي مرساتها لتنقذني، تخطئني.. أخطئها فتسحبني معها إلى الأعماق، وتغرزني هناك.
ـ مريضٌ أنت.!
ـ ومنذ متى لم أكنْ.؟
ليتني أجد صدر أميّ أنزف عليه وجعي.. أشمّها فتبعث في أوصالي كل عبق الحكايات الآنفة..
يا روحي العابرة إلى السكون.. أين صدر أمي.؟
حَمَلتني أكفّ أقوامٍ أعرفهم.. أعرفهم جميعاً، واحداً واحداً.. هذه القريبة مني ترتدي معطفاً أبيض، يشبه أثواب العفّة قالت وهي تفرك تحت إبطيها.
ـ مريض يحتاج إلى شفقة.. خذوا صدري واجعلوه عليه فقد يطمئن.. ويعترف.؟
ثم نسلوني من جدثٍ مظلم، كنت فيه أجترّ وحدةً معششةً في غبار "أفيون" رأيت في رَجْعِ شياطينه الزاحفة إليّ من كل صوب، موتاً موشى بتخاريف برّاقة.. لحظتها أشرقت شمسٌ باهتة من قلب ليلٍ سرمدي.. باهتة جداً.. ثم غرزوا في لحمي نصلاً شفّافاً.. وألبسوني قناع الحياة..
انتصبت محرقة هائلة، وأشباح بشعة لأقزام يرقصون حولها..
أخرجوني.. ثم أطبقوا البلاطة على الوطن.. وانطفأت الشاشة.
ـ عليكَ السلام.. أفقْ أيها السابح في وهم الأسماء.!
ـ من هم.؟
ـ تستظلّ بأكتافهم، وتلعن من ورائهم بؤس العالم. مريض أنت حتى الوهم.. مريض حتى الانفصام.!
ـ منذ متى لم أكن.؟
من الذي يستحق هذا الجنون.؟ أنثى.؟
ليتها -لو كانت- تأخذ رِحْلها وتسافر حدّ القطب.. هناك تغشاها بيارق اللهفات ولن يرفّ لي جفن.. وبعدها ليتها تلد في كل صباح قبائل أفاعي..
وهنا في مرجل الرحمة أذوب شوقاً إلى لحظة سحرية معها.. معه.. مع رحلة ربما لا عودة منها..
بين هذه وتلك تتأصّل الحكايات.! بين أنا وأنا تموت الأوهام.! وتستصرخ الأجساد عودة لأرواحها..
ـ مريض أنت.!
ـ منذ متى لم أكنْ.؟
علّموني أن هذا الملتصق على مدى العمر بأربعة أرجل راسخة، هو الوطن.. ثم ذبحوه..!
ذبحوه شرقاً، وسجنوه غرباً..
وجوه أعرفها جيداً اقتلعوا نعشي من بين الموتين وحملوني إلى مقصلة.. قالوا:
ـ أنت الوهم..
قالوا:
ـ لأنك ما كنت يجب أن لا تكون.!
ورسالة طيّرتها شياطين شاشة تافهة أخذتني إلى موت غريب..
أعرفها.. أعرفهم.. حولي يبتهلون، وأكفّ مشرعة للسماء تطلب نجاتي..
كيف أكون وأنا لم أكن.؟
هل سألتم من أنا.؟
أنا..!؟ بل أدلّكم على من يعرف.. هي.. هناك في مكان تحت الشمس تخطّ الحروف صواعق فتصيب مقاتلي..
ـ مريض أنت.!
جرعة شفائي جراب شفقة.. وصدرها.!
وهناك بين الصدر والجرعة تُنصب مقصلة خاتمة الحفل.. وأنا بينهما أخرج من تراب، وأعود إلى تراب.. أكفّ تنسلني، وأكف تتضرّع من أجلي.. وهذا الرداء الأبيض يبتسم..
قالت:
ـ لقد نجا..
ـ غبيّة.. كيف أنجو وأنا لست أنا.؟
هل أدلكم على من يعرفني.؟
هناك.. في برزخ عاش معي الخفقات كلها، وذرفت دمي وأمنياتي على عتباته.. وأبقيت شراعي إلى وجهته أبداً.. حسبته مسيرة العمر لا يتبدل بياضه.. هناك تجدون من يعرفني.!
ـ مريض أنت.!
تبدّلت الجهات، وضاعت المعالم.. كلها انحشرت معي في قبر نسلوا منه شيباً ثقيلاً مخدّراً..
ودفنوا الوطن.!
أيها الوطن..
لو لم أكن مريضاً لقلت فيك ما لم يقلْه أحد.. لكنك لن تصدقني.؟
وتلك القريبة القريبة..هنا.. ساكنة على شفا الروح تتضرّع وتتوسّل..
ألف ملاك يطير من راحتيها المفتوحتين للربّ.. يا رب.؟
السماء تغادر صدري.. والنصل الحاد بدأ يؤلمني.. وتطلّ أشعة رائقة من نافذة غرفتي البيضاء.
هي الصحوة بعد إغفاءة الموت المبطّن..
صحوت..
هل أفرح.. أم أرقص حول المحرقة.؟
وأنت الراجية بقائي.. تعالي إلى روحي
هناك في ركن الشرق دفنوا الوطن.! وهناك في ركن الغرب سجنوا الوطن.. ولحظة انطفأت الشاشة مات الرداء الأبيض..
ـ منذ متى أيتها السائلة لم نكنْ..!؟
ع.ك