ذلك البيت لم ترض روحي أن تبرح حتى تبلغ مَجمعَه أو تمضيَ حُقُباً، خرَّ سقفُه وتداعت جدرانه.. ففاضت نفسي عندما رأيت صورته لما كان فيه من ذكريات الطفولة ومراتع الصبا، ولما حضرني من حديث جدرانه عن ذكريات من عاشوا فيه وسبقوني إلى الدار الآخرة، فقلت:


أَلا اسكُبْ بِـ بيتَ الجَنِّ دمعَ الجَوى رِيّا *** وسَائلْ حَمامَ الدَّارِ إمَّا يكنْ حَيّا
أيحفظُ مِنْ وَجْهِ الأحبَّةِ صُورةً *** لِنارٍ بذِكْرِ الدَّارِ قدْ أُضْرِمَتْ فِيّا؟
أمَا زالَ في السَّاحاتِ وَعْدُ رُجوعِهم *** أَمِ اسْتَوحشَ البُنيانُ إنساً وجنّيّا؟

 

***


وأغمضْتُ عينِيْ أستعيدُ هَديلَهُ *** فأبكى نحيبُ الدَّارِ أهدابَ عَينَيّا
فَلا هيَ دَاري ذُو عرفْتُ وليسَ لي *** بَقايا مِنَ الجُدرانِ تُؤوي فُؤادَيّا
فُهُـبِّي رِياحَ الوُجْدِ، سُوقي غَمامَةً *** لِأرضٍ بأقْصى القَلبِ تجتاح ماضيّا
ألمْ تعْلَمي أنِّي تركْتُ حُشاشَتي *** بِحيٍّ لوجْهِ الشَّمسِ ينحَازُ غَربيّا؟
ألمْ تعْلَمي أنِّي أذوبُ على النَّوى *** وأنَّ دَواهي الموتِ يهتفْنَ بي: هَيّا؟
ألمْ تعْلَمي أَنِّي حَدوْتُ رَوَاحِلي *** لأشهدَ ذاكَ السَّقْفَ إذْ خَرّ مَغْشيّا؟
فكيفَ تَهاوى الحُلْمُ قبْلَ شَهادتي؟ *** أما كان ذاك البيتُ حِصناً ومَرقيّا؟


***


وأرسلتُ خلفَ الناعياتِ بقيّتي *** لأطلالِ بيتٍ يمَّمَ النَّوحَ قِبْليّا
فما وجَدَتْ إِلَّا حُطاماً مُعاتِباً *** يُسائِلُ عنّي: كيفَ أمسيْتُ مَنسيّا؟
أوثَّقْتُمُ عهداً يُصانُ وذمّةً *** وأخلفْتُمُ الوَعْدَ بعْدَ الهَجْرِ فَوريّا؟
فواللهِ إنّي صُنْتُ عشراً وَقَفْتُها *** فَلَمّا تَمَادَى الشَّوقُ أرخيتُ جَفْنَيّا
وأعلمُ أنّي إذْ لحقْتُ بِصَاحِبي *** تَأخّرْتُ عن ضَمِّيهِ عِشْرينَ حَوْلِيّا
أدمتُ مِطالَ الصَّبرِ حتى قتلْتُهُ *** ولكن على الأقدار لم أستطع شَيّا
فأوْدَعْتُكم عندَ المليكِ بحفظِهِ *** وكانَ قَضاءُ اللهِ حَتماً وَمَقْضِيّا

 

عليك تسجيل الدخول لتتمكن من كتابة التعليقات.

https://www.nashiri.net/images/nashiri_logo.png

عالم وعلم بلا ورق.
تأسست عام 2003.
أول دار نشر ومكتبة إلكترونية غير ربحية مجانية في العالم العربي.

اشترك في القائمة البريدية