هرج ومرج في قاعة المحكمة... أصوات تعلو وتصخب... فوضى لم يسبق لها مثيل في أية قاعة من قاعات المحاكم. عَلَتِ الأصوات مطالبة بإعدام ذلك الرجل المحتجَز خلف القضبان... حشد كبير غصّت به قاعة المحكمة.
وفي الجانب الآخر يقبع رجل في متوسط العمر. رجل بوجه خالٍ من التعبير. رجل يبدو كأنه لا يعي شيئًا مما يحدث حوله. رجل توحي ملامحه بالكثير من المعاناة. كان ينظر إلى ذلك الحشد كأنه في غيبوبة غافلًا عن كل ما يدور حوله.
الثامنة صباحًا، في أقصى الشمال الأوروبي، أفَقتُ كعادتي، تسلَّلت نحو الصالة لأُعانِق فنجان الشاي الصباحي، ولأحرق ثلاث دخائن، دخلت الحمام، غرقت تحت مياه حارَّة، يَتصاعَد البخار منها ليهرب من فتحة صغيرة، خرجتُ وكالعادة كانت القهوة التي أعدَّتها زوجتي تقتَحِم خلايا دماغي بقوَّة، فللقهوة مكانةٌ في قلبي لا يعرفها إلا المقرَّبون منِّي، أحرقت ثلاث دخائن أخرى، ارتديت ملابسي، وخرجت.
العاشرة صباحًا، موعِدٌ مع طبيبي الخاص، قدت السيارة إلى مكانٍ بعيدٍ عن العيادة؛ طلبًا للتمشِّي واكتِساب بعض أنفاسٍ من هواء نقيٍّ، لم ألتَفِتْ إلى شيء، ولم أدقِّق بأيِّ تفصيل؛ فالشوارع معهودة، وكلُّ ما عليها أصبح بسبب العادة لا يُثِير دهشتي أبدًا.
انتظرت في الصالة، كان أفراد دائرة السير يختَفُون خلفَ العيادة مباشرةً، يصطادون السيارات المارَّة، لا بُدَّ وأنَّ الراتب الشهريَّ الذي اقتَرَب كان همهم الأوحد، فلا بُدَّ لخزنة الدائرة أن تكتظَّ بالنقود، وبين ملامح هؤلاء والسائقين كان هناك اختلاف كبير.
خيوط غليظة التفّتْ حول قنوات فطرته الصغيرة منذ فطامه، حتى تعطل الاتصال بين خياراته والوعي وبين جوارحه والعقل وبين تعبيره والقلب. كلما صادف أشباها له أقدم وأعلى منه أضيفت إليه خيوط تزاحم أعصابه، تنغرز في أنحاء كيانه وتنعقد، حتى تحول بها إلى دمية معلقة بخيوط.
كثرت الخيوط والعُقد وهو لا يتعرف عليها ولا على مصادرها، لا يستطيع أن يعرف. قنواته الداخلية مسدودة، لا شيء في كيانه يُفضي إلى شيء. صار كومة أشتات ذاهلة كأنه الخلية المجهرية، فكانت استجابتها لجميع أنواع المؤثرات والتقلبات من حولها استجابة واحدة متكررة بتلقائية بسيطة ثابتة لا ملامح لها.
هل هناك في الكون عدالة تعادل عدالة الله تعالى؟
أليس الله تعالى من نشر العدالة بين البشر؟
أليس من أسمائه الحسنى "الكريم العادل الحق؟"
أليس الله تعالى من يُحقّ الحق ويكشف عن الباطل حتى لو تكالبت جميع قوى العالم ضد المقهور والمظلوم؟
يحكى أن...
هناك في مكان ما على هذا الوجود المرصَّع بالغرائب والعجائب، بالإذهال والدهشة والانشداه، بلدٌ صغير يافع، تجتمع فيه الطفولة المدمَجة بالبراءة والنقاء والصفاء، بلد يمتدُّ من إصبع الولادة الغضَّة إلى ذراع الجنين المتحرِّر من رحم يضجُّ بالحياة والغبطة والنماء والأزهار، اسم هذا البلد غريب إلى حد الاستهجان والاستنكار، ومألوف وكأنه ولد مع ولادات الأكوان وبدايات الحيوات، تتناوشه التناقضات من كل الأطراف، ويحيط به المألوف الواضح الجلي من كل المسامات، تداخلت فيه أنفاس الجوري، وحقن بسموم العقارب والأفاعي، خضع لتفتح الياسَمين المستلِّ روعته من خرير الجدول المعقود على ذؤابة الأرض، وفقد أنفاسه أمام الأَصَلات العاصرة المراقبة لكل شهقة ونبضة من شهقاته ونبضاته.
مؤسسة الحَكَّاءُ والساكت، الحادية عشرة مساءً، اليوم (...)، من الشهر (...)، من العام الميلادي (...)، حلقة ساعة الغفلة، هواء برنامج أهل الاختصاص؛ بذلت آثير بعد مغادرتها المشفى المركزي جهدًا كبيرًا في الإعداد لهذه الحلقة لِتثبت لنفسها أنها قوية.
مرَّت أيام، أنهى آدم التحضير للحلقة الثانية، مُستضيفًا فيها بعض الحَكَّائين، اعتمد في الاختيار على أن يكونوا نخبة مُنتقاة بعناية من بين من هم من غيرِ أهل الاختصاص، من غير الإعلاميين الدارسين، من دخلوا إلى الإعلم من الأبواب الخلفية. اختار ومن معه المحاورين الجدد، أصحاب الواسطة والمعرفة: الصحفي المخضرم سعد بلحة والصحفي المُراسلة كبر لعلع والمُراسلة الفضائية زنوبة بصارة والرياضيون المعتزلين مصطفى غندورة وشهير أحمد معهم الفنانة المتحذلقة زينات الداغي والفنان المدعي آدم رامزي وبعض أهل الاختصاص المحترفون أدهم الدمرداش وساليم آديب، أما السيد فلان فكان مُمتنعًا عن ذكر اسمه الحقيقي كعادة مرتادي برامج الحوارات على شبكة المعلوماتية، اختار اسمًا مستعارًا (نيك نيم): كتاكيتو بني، وظيفته: مدير الموقع الالكتروني الشهير بهاريز شوربه كاتبها بالأحرف اللاتينية؛ مُدعي الثقافة.
بعدما خرج آخر ضيوف الغداء واقترب مغرب اليوم، أسرعت جدتي بعرجتها إلى جدي وهو مقبل من غرفته لتلبسه عباءته ليخرج إلى حلقة المساء.
رجعت لعدستها المكبرة تمررها بتأنٍّ على الصفحات. تغلق الكتاب وتحرك شفتيها ثم تعود إليه. مشهد ملفت نابض وسط السنين الهامدة.
بمحاولات الإقناع والرجاء في الأسابيع الماضية ارتضت جدتي استبدال العدسة المكبرة بنظارة مريحة جلبتها لها أمي بعد زيارتهما السريعة لعيادة عيون.
الصفحة 6 من 35