يُقال في الأمثال "لا فائدة من البكاء على اللبن المهراق"، لكن حينما تقدّر هذه الألبان بـ 24 ألف لتر يوميا، وحين يسكب في الفيافي والمجاري، فإن الأمر يستحق البكاء فعلا؛ فـ"لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ *** إن كان في القلب إسلام وإيمانُ" كما يقول الشاعر.
المشهد يخلع القلب، ويذكرك –جزئيا- بمهرجانات الطماطم التي تقيمها بعض الدول التي تُعدم النعمة بالعبث بها خوفا على الأسعار من الهبوط نظرا لوفرة المعروض. لكن الكارثة عندنا أعقد وأكبر، فما يحدث يحدث اضطرارا لا اختيارا، لكن المحصلة النهائية أن النعمة تهدر ولا يُتبرّع بها.
ذلك الفتى الغرير بسنواته السبعة عشر وجسده النحيل وقامته القصيرة ، ذلك الفتى بتقصيره في دراسته وتركه صلاته وإضاعته عشرات الآلاف في فواتير الهواتف الجوالة ، ذلك الفتى الذي بدأ بالخروج مع إحدى بنات جيرانه متحديا إرادة أبيه وأوامر أمه ، وقع في غرام الصبية وهو ذاهب آيب أمام نافذتها ، يرقبها بعينيه الطفلتين قبل أن تكتشفا أن في الحياة شيء يدعى العشق والهيام ، ذلك الفتى الكذّاب بامتياز ، يكذب على أمه و على أبيه و على اخوته ، هذا الفتى الذي أصبح يدخن في اليوم علبتي سجائر يسرق ثمنها من درج أمه ، ويتسلل بعد منتصف الليل من البيت ليخرج مع رفاق السوء إلى حيث لايعلم أحد ، وعنما يعود بعد الفجر يدّعي أنه كان في صلاة الصبح جماعة في المسجد!
كثيرون –وأنا منهم- من يشعر بحالة من الإحباط العام حول ما يجري ويدور حولنا من أحداث متسارعة ومتعاقبة ، خصوصاً أننا بدأنا نشعر بتجلي وانكشاف حالة انتصار الظالم ، وقلب الحق، وقهر الحقيقة.
في واقع الأمر ، هذا شعور وتفكير يراودني منذ سنوات ، ولكن بدأت أشعر به بقوة يتحكم في مركز التفكير في عقلي بشدة هذه الأيام ، خصوصاً مع الأحداث الغريبة والسريعة والمتتالية التي تمر فيها الكويت في السنوات الست الأخيرة ، لقد بدء كل شيء بالتغير وكأننا نجري نحو هاوية لا ندري أين ومتى نصل لقاعها .
ثم حولت تفكيري لبُعد أوسع من هذا، محاولة مني للتفكير خارج الصندوق – كما يطلق عليه- فوجدت أن الكون والعالم يعاني من نفس المعضلة !
أصيح بالخليج: « يا خليج
يا واهب اللّؤلؤ، والمحار، والرّدى !»
فيرجع الصّدى
كأنه النّشيج :
« يا خليج
يا واهب المحّار والرّدى. »
وينثر الخليج من هباته الكثار،
على الرّمال رغوة الأجاج، والمحّار
وما تبقّى من عظام بائس غريق
بدر شاكر السيّاب/ من أنشودة المطر
كان السيّاب حاضرا معي في رحلتي هذه ، أكثر من ذي قبل فالسيّاب يظل من أهم الشعراء الذين أحب شعرهم وأشعر شعورا صادقا بمآسيهم ،أما هذه المرة فيحضر بكثرة في خيالي ووجداني لأنني سأقترب كثيرا من جيكور بلدته في العراق ومن الكويت حيث مات وحيدا منسيا ذات شتاء من عام 1964.
لقد أصبح مصير الأمم ومستقبلها يرتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرة أبنائها على التفاعل مع آليات العصر وتطوراته المذهلة والسريعة في مختلف مجالات الحياة، وبخاصة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات التي فتحت أمامنا أبواباً جديدة للمعرفة والتفكير بل وللتواصل بين الناس دون اعتراف بالفواصل الزمانية و الحدود الجغرافية والفوارق الاجتماعية.
ويعتبر الحاسوب بما يتضمنه من برمجيات مختلفة أهم أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، فقد أكدت نتائج الدراسات والبحوث العلمية أن استخدام برمجيات الحاسوب يؤدي إلى النمو اللغوي والمعرفي والعقلي لدى الأطفال، كما أكدت نتائج بعض الدراسات فاعلية برمجيات الحاسوب في تنمية أنماط التفكير لدى الأطفال مثل :التفكير الإبداعي والتفكير العلمي والتفكير الناقد.
طوال يفاعتي كنت أسمع الجيل الأكبر يكيل الركلات الكلامية لجيلنا (مواليد الثمانينيّات) المتهم بالكسل والبلادة، الجيل الذي نما في حِجر الألعاب الإلكترونية، وغُذِّي بالأكل غير الصحي، وقرأ قشور الكتب، وجُرّبت عليه –من وجهة نظرهم- وسائل تعليمية عقيمة، ذلك الجيل المشدوه بالتلفاز والمشدود بأشرطة الفيديو، ذلك الجيل الذي رزح بين الفُتات الذي تقدمه "المناهل" و"افتح يا سمسم" ولم تتح له فرصة مصافحة أمهات الكتب، ذلك الجيل الذي خرج من رحم السرعة خديجا وتمكن –رغم كل ما سبق- أن يجاري التغيير بل أن يصنعه بسرعة أسرع من طائرات الـ"كونكورد".
الصفحة 18 من 53