ليس في أدباء لبنان المحدثين من مثل روح لبنان فكان صورته الصادقة مثل الشاعر الكبير بشارة الخوري أو الأخطل الصغير(1885-1968)، فقد كان نسمته المنعشة تهب على القارىء فتنفحه بأريج الخزامى والعرار، فشعره انعكاس لطبيعة لبنان وأطيافها الأخاذة المازجة بين بهرج الألوان وتناسقها في غير نشاز أو تكلف، إنه الصوت الذي يبرعم في وجدان القارىء وينشر أفنانه في روحه على مدى العمر مذكرا إياه بشواهق صنين ومرابع زحلة ودروب كفرشيما وسواحل صيدا و صور حيث زرقة البحر تلقي بأمواجها معانقة الشاطىء الذهبي وقد استلقت عليه الأبكار يتضاحكن ويتغامزن على المار قبالتهن شارد الذهن مفتونا بسحرهن، وقد أشعلن في القلب نارا وبثثن في الروح حنينا لمعانقة الجمال والإمساك به حتى لا تحجبه غيوم الزمن وعواديه.
في الثالث من شهر نوفمبرعام 1989 وصل أبي تلغراف من باريس مفاده أن والده قد توفي، وحيدا في غرفته رقم 21 بالفندق الكائن بـ10 شارع شان دوماس بالدائرة السابعة من باريس كان وقع الخبر علينا عظيما زلزل القلوب وأقض المضاجع واعتصر المآقي دموعا سخاما، وشاء القدر الذي كنا نأمل فيه الخير ونتوسم فيه العطف أن يجمعنا بجدي - نحن أحفاده – بعد أن حرمنا منه سنين طويلة يضاحكنا ويعابثنا ويقص علينا طرفا من سيرته وحياته في عاصمة النور، على عادة الأجداد في جمع الأحفاد حولهم يوجهون ويروون وعيون الأحفاد إليهم مشدودة كأنهم آلهةالإغريق .
أبو العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، وأحد كبار الشعراء العرب وأعمقهم ثقافة وأرسخهم قدما في علوم العربية والمنطق والفلسفة، وأحد القلائل الذين لهم خبرة بالنفس الانسانية وتقلباتها. ويزيد إعجابنا بسعة ثقافته إذا تقصينا شيئا من ثقافته الفلكية.
يبهر أبو العلاء المعري من له دراية بالفلك، ويحار في الدقة التي يصف بها الشاعر المجموعات النجمية وطلوعها وشروقها الواحدة تلو الأخرى وهو الضرير الذي حرم من متعة النظر إلى السماء !
مازلت أذكر ذلك الشهر شهر أغسطس من عام 1997 حين نعت إلينا جريدة "الحياة" اللندنية رحيل شاعر العربية الكبير محمد مهدي الجواهري ، وهكذا أسدل الستار برحيل الجواهري على آخر عمالقة الشعر الكلاسيكي من طراز بدوي الجبل وبشارة الخوري وعمر أبو ريشة وغيرهم. كنت حينها بمدينة جنيف السويسرية ولم تستطع جنيف ببحيرتها الخلابة ولابنهر الرون وجسوره الأخاذة ولابجزيرة روسو الجميلة أن تبدد الحزن الذي غمر نفسي والأسى الذي سكن روحي وأنا أقرأ الخبر في جريدة الحياة.
ما أَحلى مَلمَسَها ..!
مَا أَرق حِسَّها ..!
ما أَلطف مُداعبتها ..!
خطوط مفتوحة:
إذا مات الحب في الإنسان افتقد الإنسان إنسانيته
فبالحب يكون الإنسان إنسانا
ويأخذ الإنسان مكانه في المقدمة
فالحب يؤدى للنجاح في كل شئ، في الحياة والعمل
لانريد أن نخوض في المسؤولية الأخلاقية الملقاة على عاتق المثقف في بلده فهي مسؤولية مجمع الإتفاق بشأنها خاصة إذا كانت الشعوب متخلفة وفي مرحلة المنعطفات الكبرى، ذلك ماأسماه فيلسوف الوجودية الكبير جون بول سارتر بالإلتزام أي التزام المثقف بقضايا شعبه وبالدفاع عن حريته وكرامته ولو اقتضى الأمر معارضة النظام السياسي القائم، وذلك ماحدث له بالضبط حين تظاهر مع المعارضين في حرب فرنسا في الجزائر وأصدر من أجل ذلك كتابا بعنوان" عارنا في الجزائر" ، والتزام المثقف بقضايا أمته ونزاهة فعله وصدق قوله ليست بالقضايا المستحدثة في تاريخ الأمة العربية، فأبو حيان التوحيدي وهو من كبار الأدباء ومن مؤسسي النزعة الإنسانية في الفكر العربي أخذ على الوزيرين "الصاحب بن عباد" و"ابن العميد" مآخذ سجلها في كتابه "مثالب الوزيرين" فقد أخذ عليهما العيش الرغيد في قصور مترفة وقصر الثقافة على جمع لفيف من الفلاسفة والمناطقة وعلماء البيان والكلام والشعراء والنثار والتطرق في كل ليلة إلى موضوع من موضوعات الفلسفة أو الأدب أو الدين، في حين تعيش الرعية في الخارج في ظلام وتخبط في تيه عماء. وهو موقف للتوحيدي يجعله في قمة رواد المذهب الإنساني الذي عرف به كبار مفكري أروبا.
الصفحة 18 من 45